المقالات
حياء مع جرأة في الحق
Whatsapp
Facebook Share

حياء مع جرأة في الحق

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

إن الحياء خلق الإسلام، لكن الإسلام في الوقت نفسه، دين الجرأة في الحق، ودين التحرر من الخضوع للناس، إنه خروج من عبادة العباد إلى عبادة رب العالمين.

 

وفي مقابل الحياء، ذلك الخلق السامي الذي يحمي الإنسان من أن يكون شيطاناً مريداً، ووحشاً لا يرحم، كما يحمي المجتمع من أن يكون فيه وحوش آدمية... في مقابل الحياء، هنالك خلق ذميم، ضار، إنه الخجل، وخشية الناس.

 

في الحياء يحرص المؤمن على ألا يضع نفسه في موقف لا يليق بها، إنه يحافظ على كرامتها، وعلى سموها الخلقي، أما في الخجل، فإن الإنسان يكون مكفوفاً مكبلاً بلا قيد تراه العيون، إنما تكبله قيود المجتمع التي قد تمنعه من فعل ما أمر الله به، وتقوده إلى ما حرم الله... وحتى يتغلب المؤمن على هذه القيود، ويتمتع بحريته في أن يعيش في هذه الحياة بالطريقة التي يؤمن أنها الطريقة السوية للحياة.. حتى يقدر المؤمن على ذلك، يلزمه الجرأة الأدبية، وقوة الشخصية، بحيث لا يخاف في الحق لومة لائم، والخجل الذي يزعج كل من يعاني منه، يشعر به الإنسان كقيد يكبله، بخلاف الحياء الذي يشعر أنه نابع من داخله، ومنسجم مع نفسه.

 

فالحياء التزام لا يتنافى مع الحرية، بينما الخجل خشية للناس تعيق الحرية، والحياء ضمير داخلي، أما الخجل، فبمثابة ضمير من خارج النفس لا يراعي مصلحتها، إنما يهدف إلى حماية أعراف يرضاها الأقوياء، لأنها تحقق مصالحهم، أو هي موروثة يقدسها الذين يصرون على اتباع الآباء على حق كانوا أو على ضلال.

 

والحياء ينبع من إحساس المرء أنه ذو قدر وكرامة، وأن الآخرين بشر لهم قيمة، ويستحقون الاحترام والانتماء إليهم، والحرص ألا نريهم من أنفسنا ما يحط من كرامتنا وقدرنا، ويظهرنا بمظهر الخارج عن القيم، والأخلاق، والمثل الحميدة.

 

أما الخجل فينبع من إحساس بالدونية والنقص، ومن حقر للنفس بدل قدرها، أو اعتبارها مهينة بدل أن يراها كريمة.

 

فالذي يرى نفسه أقل من الآخرين قدراً، ويشعر بالدونية تجاههم، يجد في نفسه هيبة لهم، وخشية من لومهم تمنعه من قولة الحق، حتى لو لم يتوقع منها أن يقع عليه أذى ملموس في بدنه، أو ماله، أو عياله، إنما هي خشيته من إغضابهم، ومن إثارة لومهم له، وإنكارهم لفعله أو قوله، مع علمه أنه على الحق.

 

وقد سبق رسول الله ﷺ علماء النفس، عندما نبه إلى أن السبب الأساس الكامن وراء الخجل هو حقر النفس وخشية الناس، قال ﷺ لأصحابه ذات مرة: "لا يحقرُ أحدُكم نفسَه ، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ كيفَ يحقرُ أحدُنا نفسَه قالَ يرَى أمرًا للَّهِ عليهِ فيهِ مَقالٌ ثمَّ لا يقولُ فيهِ فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَه يومَ القيامةِ ما منعَك أن تقولَ في كذا وَكذا فيقولُ خشيةُ النَّاسِ فيقولُ فإيَّايَ كنتَ أحقَّ أن تخشَى" (رواه ابن ماجه).

 

وقال ﷺ: "...لا يَمنعنَّ رجلًا هيبةُ النَّاسِ أن يقولَ الحقَّ إذا علمَهُ...(رواه ابن ماجه).

 

إن الخجول يخشى من تعييب الناس عليه، وسخريتهم من عيوبه، ونقاط ضعفه، لأنه بالأصل شديد الانتقاد لنفسه، يبحث عما يظنه عيوباً فيها، وتكبر هذه العيوب في نظره، حتى لا يكاد يرى في نفسه إلا تلك العيوب... وهو لذلك يخشى أنه إن فرض نفسه على الناس، وأثار سخطهم، أن يعاقبوه بتفحصهم لعيوبه، والحديث عنها، كما أنه يعيش كالمريب، يخشى أن يقع في مركز الاهتمام، حتى لا يفطن الآخرون إلى عيوبه فتنفضح.

 

وهذه الخشية من تعييب الناس، ومن أن يتفحصه الآخرون بحثاً عن عيوبه، يغرسها في النفس منذ الطفولة سماع الكبار ينتقدون الناس، ويعيبون عليهم، ويغتابونهم.

 

لكن الإسلام يربي المسلم على الحرية الاجتماعية، أي: على أن يحس بأنه حر في أن يعيش كما يؤمن، دون أن يهتم بلوم الناس وسخطهم، طالما أنه لم يظلمهم، ولم يفعل منكراً حرمه الله.

 

وقد كان الرسل قدوة للمؤمنين في ذلك، قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـٰلَـٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُۥ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًۭا [الأحزاب: 39].

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة