المقالات
حياء لا رياء
Whatsapp
Facebook Share

حياء لا رياء

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

عندما ينشأ الإنسان على الإيمان بالقيم وتقدير ذاته واحترام الآخرين، فإنه يحرص بشكل طبيعي على ألا يرى الناس منه عيباً أو نقيصة، أو عملاً يتنافى مع القيم التي يؤمن بها، ذلك أن احترامه للناس يجعله حريصاً على أن يكون رأيهم فيه حسناً.. لذا سمي كل ما يحرص الإنسان على ستره عن أعين الناس عورة. لأن ظهوره لهم، يشوه صورة الإنسان في أعينهم، وهذا الحرص على صورة الإنسان في عيون الآخرين الناتج عن احترام الإنسان للآخرين، وليس عن رغبته في التأثير فيهم وخداعهم، هذا الحرص مع احترامه لذاته وحرصه على أن لا يهينها يدعوه إلى الحياء الذي ينظم سلوكه وفق معتقداته، والحياء من الإيمان.

 

لكن الإنسان قد يتجاوز تجنب ما يشين ويعيب، إلى جعل الغاية وراء ما يقوم به من أعمال، هي أن يؤثر في الناس، وأن يجعلهم يرونه على صورة حسنة رائعة، لا لأنه يؤمن أنه هكذا، يجب أن يكون، إنما لأنه يعرف أن الناس يؤمنون أنه هكذا يجب أن يكون.

 

الحيي ينطلق في حمايته لصورته لدى الآخرين، من إيمانه هو بالقيم، وحبه لها، أما الآخر -المرائي- فينطلق مما يؤمن به الآخرون، ويعجبون به.. إنه يريد نيل إعجابهم ليتمتع به، وبمديحهم له، وتعظيمهم وتبجيلهم له، أو حتى تقديمهم له، ليكون إماماً لهم، يدبر شؤون حياتهم، ويتحكم فيها.

 

إنه لا ينطلق من إيمانه بالقيم، ولا من احترامه للناس، بل على العكس، إنه لا يؤمن بالقيم الإيمان الكافي، لأنه عندما يحاول التأثير في الآخرين وخداعهم، وإثارة إعجابهم به، يناقض القيم والأخلاق، وهو عندما يفعل ذلك لا ينطلق من احترام الآخرين، بل من استخفافه بهم،  لأنه يكذب عليهم، ويوهمهم أنه فيه من الصفات ما ليس فيه.

 

ومع أن المرائي في أعماقه متكبر لا يحترم الناس، لكنه في الوقت نفسه يقع في العبودية للناس، إذ يبذل وسعه من أجل الفوز بإعجابهم ورضاهم، فهو كلما هم بعمل يقوم به، فكر بالذي سيقوله الناس، وبالأثر الذي سيتركه عمله في نفوسهم، فتراه يضطر إلى ترك عمل ما يريد ويحب، لأن الناس قد يقولون فيه، ويضطر إلى عمل ما لا يريد وما لا يحب، لأن ذلك يرضي الناس، ويجلب ثناءهم وإعجابهم.

 

والناس لا ينطلقون دائماً في أحكامهم من مكارم الأخلاق، ومن القيم السامية، إنما قد تكون هنالك قيم خاطئة سائدة بينهم، فلا يثنون ولا يعجبون بمن يخالفها، وهكذا يكون المرائي مستخفاً بالناس، وعبداً لهم في آن واحد.

 

ويكون المخلص لله، الذي يعمل ما يعمل، وهو يراقب الله، ولا يراقب سواه، يكون هذا الذي أخلص عبوديته لله حراً بين الناس، وسيداً حقيقياً، ويجمع بين احترامه للناس، واستقلاله عنهم، ولا يكون حياؤه منهم عن ضعف أو هيبة لهم، إنما عن إيمان منه بالقيم ومكارم الأخلاق، وعن حرص منه على أن يكرم نفسه وألا يهينها، بأن يترك عورة له من أي نوع بادية للآخرين.

 

وحتى يحمينا الله من العبودية للآخرين، حرم الرياء وتوعد عليه...وتوعد الذين يتعالون، ويختالون على الناس تباهياً بأفعالهم، ويحبون أن يثني عليهم الناس، بما ليس فيهم حقيقة.

 

قال تعالى: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوا۟ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا۟ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا۟ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ [آل عمران: 188]. والفرح هنا هو الاختيال والفخر والتعالي على الناس لا مجرد السرور وقرة العين.

 

وقال ﷺ: "إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ" (رواه مسلم).

 

وإن النار تسعر يوم القيامة بثلاثة: شهيد وعالم ومحسن، ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا، ابتغاء مديح الناس وئنائهم، لا ابتغاء مرضاة الله.

 

قال ﷺ: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ" (رواه مسلم).

 

إذاً ليس المهم أن يقاتل الرجل في صف المؤمنين، أو أن يفني عمره وهو يقرأ العلم والقرآن، ويعلمه للناس، أو أن ينفق على الفقراء والمحتاجين.. المهم قبل ذلك أن يفعل ذلك لله لا لينال إعجاب الناس وثناءهم، وليصبح مشهوراً بينهم بصفة يحبونها، فيبجلونه من أجلها، وهم يحسبون أنه مجاهد مخلص، أو عالم مخلص، أو محسن مخلص.

 

إن الله ليس في حاجة إلى مالنا، ولا إلى جهدنا، أو دمائنا، إنما يريد أن يزكينا بالتقوى تمتلئ بها قلوبنا. قال تعالى عما يذبحه الحجاج من أنعام: ﴿لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ... [الحج: 37].

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة