الفطرة في اللاشعور
الفطرة في اللاشعور
Whatsapp
Facebook Share

الفطرة في اللّاشعور

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

قال رسول الله ﷺ: "ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، ويُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ...(رواه البخاري).

 

وجاء في الحديث القدسي: أن الله عز وجل قال: "...وإنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عن دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ به سُلْطَانًا،..." (رواه  مسلم).

 

إذاً هي الفطرة، والتوحيد لله، يولد الجميع بها، وعندما يكبرون يقعون في تأثير البيئة التي  إما أن ترعى هذه الفطرة، وتحافظ عليها، أو أن تحرفها، وتشوهها.

 

وقد حفظ الله هذه الفطرة من أن يؤثر فيها كفر الآباء والأمهات أو شركهم، فكل هذا لا ينتقل إلى الذرية عن طريق الوراثة، ذلك أن الصفات المكتسبة التي تطرأ على المخلوق بعد أن تكون في بطن أمه، هذه الصفات لا تنتقل إلى ذريته، وهذا ما أثبته علم الوراثة الحديث، بعد أن كان علماء القرن التاسع عشر يظنون أن الزرافة التي مدت عنقها إلى الأشجار العالية، فطال عنقها، فجاءت ذريتها طويلة الأعناق، هذا اعتقاد خاطئ، وقد بين العلماء أخيراً بطلانه.

 

أما نبينا محمد ﷺ الذي كان يتلقى عن العليم الخبير، فقد أكد عدم تأثر الذرية بالصفات المكتسبة، عندما لفت الأنظار إلى أن البهيمة جدعاء كانت أو كاملة الخلقة لا تنتج بهيمة جدعاء، أي: مقطوعاً أنفها، أو أحد أطرافها.

 

وقد أكدت حادثة الإشهاد التي أخبرنا الله عنها في القرآن الكريم الأمر ذاته، أي: عدم انتقال الصفات النفسية المكتسبة من شرك بالله ونحوه إلى الذرية.

 

فقد أخذ الله من الناس من ظهورهم ذريتهم، وأشهد هذه الذرية على نفسها، فاعترفت أن الله ربها وخالقها. وذرية الإنسان، تكون في ظهره عندما يكون هو نفسه جنيناً في بطن أمه دون الشهرين من عمره الجنيني.

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَآ ۛ أَن تَقُولُوا۟ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوٓا۟ إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةًۭ مِّنۢ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ (173) [الأعراف: 172-173].

 

وقد حار كثير من العلماء قديماً في فهم هاتين الآيتين اللتين ترويان قصة لا نذكرها، وبخاصة أن المولى تعالى يقول في آية أخرى: ﴿وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًۭٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَـٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].

 

إننا في هذا العصر الذي عرفنا فيه الكثير عن الدماغ البشري، وعن النفس الإنسانية، لن نقع في حيرة لنفهم قصة الإشهاد التي أخبرنا عنها الحق سبحانه وتعالى.. فقد أظهر العلم لنا أن جزءاً كبيراً من دماغ الإنسان يعمل بشكل لا شعوري، ولا نستطيع الوصول إلى ما فيه من أفكار ومعلومات، إنما هو يرسل إلينا حصيلة ما لديه من أفكار ومعلومات على شكل أحاسيس قلبية، ومشاعر وجدانية.

 

وهكذا الفطرة ومعرفة كل إنسان لخالقه العظيم، إنما هي مخزونة في اللاشعور، يصلنا منها مشاعر الارتياح والانشراح القلبي للإيمان بالخالق الواحد الأحد.

 

قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَـٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًۭا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125].

 

وقد أشار الرسول محمد ﷺ إلى اللاشعور في أحاديثه، فقد قال عندما سئل عن البر: "...استَفْتِ قلبَك : البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفسُ ، واطمأنَّ إليه القلبُ ، والإثمُ ما حاك في النَّفسِ وتردَّدَ في الصَّدرِ ، وإن أفتاك الناسُ وأَفْتَوْك" (رواه أحمد والدرامي).

 

إذاً هما اثنان مفكران: نفس وقلب، إن اجتمعا عند المؤمن على شيء فهو البر، وهذا ما تقوله العلوم الحديثة، فهما شعور ولاشعور، شعور سماه الحديث الشريف نفساً، ولا شعور سماه قلباً.

 

أما الكافرون الذين يرفضون الحق في البداية عن وعي، فإن قلوبهم تزيغ، ثم يصير رفضهم للحق على المستويين: النفس والقلب.

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَـٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوٓا۟ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ [الصف: 5].

 

وقد بين رسول الله ﷺ بوضوح أن الفطرة موضعها اللاشعور، فقد قال حذيفة رضي الله عنه: "حَدَّثَنا رَسولُ اللَّهِ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أحَدَهُما، وأنا أنْتَظِرُ الآخَرَ؛ حَدَّثَنا: أنَّ الأمانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ. وحَدَّثَنا عن رَفْعِها قالَ: يَنامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأمانَةُ مِن قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أثَرُها مِثْلَ أثَرِ الوَكْتِ، ثُمَّ يَنامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أثَرُها مِثْلَ المَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ علَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَراهُ مُنْتَبِرًا وليسَ فيه شَيءٌ، فيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبايَعُونَ، فلا يَكادُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأمانَةَ، فيُقالُ: إنَّ في بَنِي فُلانٍ رَجُلًا أمِينًا، ويُقالُ لِلرَّجُلِ: ما أعْقَلَهُ! وما أظْرَفَهُ! وما أجْلَدَهُ! وما في قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ. ولقَدْ أتَى عَلَيَّ زَمانٌ وما أُبالِي أيَّكُمْ بايَعْتُ؛ لَئِنْ كانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الإسْلامُ، وإنْ كانَ نَصْرانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ ساعِيهِ، فأمَّا اليَومَ فَما كُنْتُ أُبايِعُ إلَّا فُلانًا وفُلانًا" (رواه البخاري).

 

وواضح أن الجذر من النبات، هو الجزء الخفي الحي الفعال منه، وليس أفضل من هذا التشبيه لتقريب مفهوم اللاشعور للأذهان.

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة