المقالات
الكبر يدفع إلى الكفر
Whatsapp
Facebook Share

الكبر يدفع إلى الكفر

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

( أ )

قال رسول الله ﷺ: "بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي في حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهو يَتَجَلْجَلُ إلى يَومِ القِيَامَةِ(متفق عليه). (يتجلجل: يغوص وينزل).

 

إن التكبر أقبح رذيلة يقع فيها الإنسان، إذ حقيقة الكبر كما قال النبي محمد ﷺ أنه: "...بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ" (رواه مسلم).

 

فالتكبر لا يقتصر على التعالي على الناس وازدرائهم، والنظر إليهم على أنهم دون المتكبر، وبالتالي الترفع عن الدخول معهم في علاقة إنسانية حميمة صادقة، إنما الكبر إضافة إلى ذلك بطر للحق أي: إنكار للحق، ورفض لقبوله (المعجم الوسيط)،  والكبر هو الدافع للكفر والتمرد على الخالق.

 

فمنذ أول تمرد على أوامر الخالق العظيم، كانت الكبرياء دافعه، فعندما أمر الله الملائكة ومعهم إبليس أن يسجدوا لآدم، أبى إبليس السجود لآدم طاعة الله، لأنه تكبر على آدم، ورأى نفسه خيراً منه.

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوٓا۟ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ [البقرة: 34].

 

ولما سأل الله إبليس عما منعه من تنفيذ أمره سبحانه وتعالى، ظهرت كبرياء إبليس، تلك الكبرياء التي من أجلها أورد إبليس نفسه مورد التهلكة، فهو يعلم علم اليقين أن كبرياءه ستؤدي به إلى جهنم، لأنه رأى بعينيه ما آمنا به بالغيب، ومع ذلك فإن كبرياءه جعلته يتحدى خالقه.

 

إن تعاليه على آدم جعله يتمرد على أمر الله، ويفسق عنه، وفسوقه هذا أخرجه من دائرة الإيمان إلى حيث الكفر والعصيان، فلم ير أنه قد أخطأ في تماديه مع كبريائه، بل وضع اللوم على رب العالمين، ودخل في تحد معه، وعزم على أن يغوي آدم وذريته.

 

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوٓا۟ إِلَّآ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌۭ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ (12) قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّـٰغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِىٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَـَٔاتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ (17) [الأعراف: 11-17].

 

مخلوق صغير يتحدى الخالق العظيم، يريد أن يفسد في الأرض، ويحرف الخليفة الذي جعله الله فيها عن دوره ليوقعه في الرذيلة التي وقع هو فيها، رذيلة الكبر والتعالي والتمرد والكفر والفسوق.

 

إنه يوقظ في نفوس البشر كبرياء مهلكة، تحول بينهم وبين طاعة الله والإيمان بآياته ورسله.

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِىٓ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـٰنٍ أَتَىٰهُمْ ۙ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌۭ مَّا هُم بِبَـٰلِغِيهِ ۚ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [غافر: 56].

 

وقد كانت الكبرياء وراء كفر الأقوام السابقة برسلهم، فالملأ من قوم صالح أعلنوا كفرهم ترفعاً منهم عن أن يسلكوا سبيل الإيمان لأن المستضعفين قد سلكوه. قال تعالى: ﴿قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوٓا۟ إِنَّا بِٱلَّذِىٓ ءَامَنتُم بِهِۦ كَـٰفِرُونَ (75) فَعَقَرُوا۟ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْا۟ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا۟ يَـٰصَـٰلِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ (76) [الأعراف: 75-76].

 

إذاً لم يمنعهم من الإيمان بصالح عليه السلام، وما يدعو إليه من توحيد الله تعالى أن صدقه لم يتبين لهم، أو أن الدلائل على نبوته لم تكن كافية، إنما هو حرصهم على مخالفة المستضعفين الذين آمنوا، وعلى الترفع عن أن يكونوا معهم في زمرة واحدة.

 

فلئن كانت الجنة في آخر الطريق التي اختارها المستضعفون، فإن الكبراء المتعالين يفضلون الطريق الأخرى، ولو أدت بهم إلى نار جهنم.

 

عجيب أمر هذا الإنسان، يتكبر، ويحطم نفسه من أجل كبريائه.

 

والله الذي حرم الكبرياء، لم يحرمنا الكرامة، فهو الذي كرم بني آدم، والناس أحياناً يخلطون بين الكرامة والكبرياء، فيقولون: "منعته كبرياؤه من كذا وكذا، أو:  منعتها كبرياؤها من كذا وكذا"، وهم يشيرون إلى مواقف إنسانية رائعة، والدقة تقضي أن يقولوا: "منعته كرامته، ومنعتها كرامتها".

 

والحرص على الكرامة فضيلة، أما الانسياق وراء الكبرياء فرذيلة ما بعدها رذيلة.

 

( ب )

قال تعالى: ﴿إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌۭ وَٰحِدٌۭ ۚ فَٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْـَٔاخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌۭ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [النحل: 22].

 

وقال أيضاً: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌۭ مُّهِينٌۭ (6) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًۭا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِىٓ أُذُنَيْهِ وَقْرًۭا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) [لقمان: 6-7].

 

إن الكبر الذي يمنع كثيراً من الناس من الإيمان بالله ورسله، والاستجابة إليه، لا ينحصر في استعلائهم على من حولهم من البشر، ولا ينحصر في تعاليهم على رسول منهم يأنفون من اتباعه، أو في تعاليهم على المستضعفين من قومهم الذين آمنوا، أن يكونوا معهم في فريق واحد، بل الاستكبار لا يقف عند حدود.

 

إنهم يستكبرون عن عبادة الله والخضوع له، ويستنكفون، أي: يأنفون ويمتنعون استكباراً منهم عن أن يسجدوا لله، ويبتغوا رضاه. 

 

إنهم يعيشون في أنفسهم إحساساً طاغياً بعظمة وهمية، تجعلهم يتجرؤون على تحدي الخالق، وعلى إساءة الأدب في حقه.

 

قال تعالى عن أحدهم: ﴿أَوَلَمْ يَرَ ٱلْإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍۢ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌۭ مُّبِينٌۭ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًۭا وَنَسِىَ خَلْقَهُۥ ۖ قَالَ مَن يُحْىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌۭ (78) [يس: 77-78].

 

مجادل وقح، أوله نطفة وآخره جيفة، يقف خصماً مبيناً يجادل في آيات الله، يريد أن يثبت كفره، ويدحض الإيمان بالخالق العظيم واليوم الآخر، ولولا استكباره، وإحساسه بوهم العظمة، لما وقف موقف التحدي هذا.

 

وقد بين الله تعالى أن الكافرين يرفضون الهداية، ويعرضون عنها، لأنهم يأنفون، ويستكبرون عن عبادته جل جلاله، وذلك في آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًۭا لِّلَّهِ وَلَا ٱلْمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِۦ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًۭا [النساء: 172].

 

وقال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـٰتِىَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَإِن يَرَوْا۟ كُلَّ ءَايَةٍۢ لَّا يُؤْمِنُوا۟ بِهَا وَإِن يَرَوْا۟ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًۭا وَإِن يَرَوْا۟ سَبِيلَ ٱلْغَىِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًۭا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا۟ بِـَٔايَـٰتِنَا وَكَانُوا۟ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ [الأعراف: 146].

 

والاستكبار يصد الإنسان عن الإيمان، رغم أن الآيات والدلائل واضحة أمامه، ذلك أن الله لم يجعل في الكون من الآيات ما يلزم العقل إلزاماً بالإيمان به وبرسله، بل دائماً ترك فسحة للعقل، بحيث يؤمن من يؤمن إيماناً بالغيب، ولا يقول: أروني، وأسمعوني، إنما يكفيه أن الآيات والدلائل من حوله قد تجاوبت مع الفطرة المغروسة في أعماق قلبه، في اللاشعور منه، وعندها يشعر بالطمأنينة في قلبه وعقله لهذا الإيمان.

 

فالإيمان بالله ورسالاته يقوم على الاستقراء تماماً، كما تقوم العلوم الحديثة كلها، اللهم باستثناء الرياضيات التي تعتمد على الاستنتاج، والاستقراء بطبيعته لا يصل إلى درجة اليقين الملزم للعقل، بل لا بد للإنسان بعد أن يشير الاستقراء إلى حقيقة ما إشارات قوية، بحيث يبلغ احتمال صحتها ما يقارب المئة بالمئة، لا بد للإنسان مع هذا الاستقراء من نفحة إيمانية، تجعله يتعامل مع ما قاده إليه الاستقراء تعامله مع أي فكرة يقينية يؤمن بها.

 

فالإيمان بالله من خلال آياته في الأنفس والآفاق، قائم على الطريقة التي يقوم عليها العلم، وليس قائماً على الطريقة التي نؤمن بها بوجود الشمس التي تسطع علينا أشعتها كل يوم، والتي يستحيل على العقل إنكارها، ولو كان الإيمان بالله من هذا النوع الملزم المكره للعقل البشري، لما كان لأحد القدرة على الكفر، ولفقد الإنسان حريته في أن يؤمن أو أن يكفر، ولما كان لهذا الإيمان من فضل يستدعي الثواب العظيم.

 

وهنا تتدخل كبرياء المستكبرين، إذ يتمكنون من الكفر، مستفيدين من الفسحة التي تركها الله للعقل البشري، ومن الحرية التي أعطاها له.

 

قال تعالى: ﴿وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ ... [الكهف: 29].

 

وقال سبحانه: ﴿لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ... [البقرة: 256].

 

وقد قال نوح لقومه: ﴿قَالَ يَـٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَءَاتَىٰنِى رَحْمَةًۭ مِّنْ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَـٰرِهُونَ [هود: 28].

 

إن الكبرياء وكراهية الهداية التي تقتضي طاعة الله، والخضوع له، تجعل المستكبر يخدع نفسه، ويتعامى عن آيات الله من حوله، وبهذا لا يكون الكفر والإيمان مجرد معطيات عقلية، وتفكير منطقي فحسب، بل هما فعلان إراديان، تقرر النفس القيام بأحدهما استجابة للدواعي النفسية التي ترضاها.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة