فهو في سبيل الله
فهو في سبيل الله
Whatsapp
Facebook Share

فهو في سبيل الله

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

كان النبي ﷺ مع بعض أصحابه، فمرّ عليهم رجل ذاهب إلى عمله، وكان الرجل قويّ البنية، ويبدو عليه النشاط والجلد، فخطر ببال الصحابة أن لو كان سعي هذا الرجل القويّ في الجهاد في سبيل الله، وكانوا يظنون أنّ قوّة البدن والجلد والنشاط لا تكون في سبيل الله إلا في مواطن الجهاد، وأنّ إنفاقها من أجل السعي والعمل اليومي في سبيل الرزق إضاعة لها، فقال أصحاب النبي ﷺ عندما رأوا ذلك الرجل القويّ النشيط في طريقه إلى عمله اليومي "...فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ : إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ(رواه الدمياطي).

 

إذاً هما الدافع والنية اللذان يجعلان من العمل اليومي، ومن السعي إلى الرزق عبادة أو معصية. إن كان الإنسان يقوم بما يقوم به تدفعه إلى ذلك إرادة العلوّ في الأرض، أو إرادة الفساد فيها، فإنّه في معصية. أما إن كان المؤمن يسعى وراء الرزق، ويبذل ما يستطيع ليستزيد منه بالحلال، ونفسه متحرّرة من شهوة التعالي، أو من أيّة نزعة إلى الفساد في الأرض، فإنّ ما يبقى في نفسه من دوافع وراء سعيه يكفي ليحيل عمله اليومي إلى عبادة والى سعي في سبيل الله... ويبقى المقياس قوله تعالى: ﴿تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلْأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّۭا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًۭا ۚ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].

 

لقد قامت نهضة الغرب العلمية والتقنية على رجال أفنوا أعمارهم في العلم، أو الصناعة، أو التجارة، يحرمون أنفسهم من المتع وهم الأثرياء لا بخلا على أنفسهم، إنمّا نسيانا لها في خضم استغراقهم في التّعلّم، أو البحث العلمي، أو توسيع تجارتهم وصناعتهم، لكن الدافع النفسي لديهم كان في اغلب الأحيان إرادة العلوّ في الأرض... إنهم يريدون المجد العلمي، أو بناء إمبراطورية شخصية من شركات ومصانع تشبع شهوتهم إلى العظمة والكبرياء.

 

ورغم الدافع الرديء وراء جهودهم، وجلدهم، ونشاطهم، فإنّ ما حققوه صبّ وتجمّع في تيار قوي حققت أممهم من خلاله التفوق والغلبة على باقي الأمم. إنّ سعيهم إنمّا هو سعي في سبيل الشيطان: لأنه سعي قائم على الرياء، والمفاخرة، وحبّ الظهور. لكن المؤمن يستطيع أن يفعل مثلهم دون أن يسعى مثلهم إلى العلوّ في الأرض، إنمّا له أن يعمل ليل نهار في سبيل الاستزادة من العلم، ومن أجل البحث العلمي والاكتشاف، أو أن يعمل ليل نهار حتى ينجح مشروعه التجاري، أو الصناعي، ويتوسع ويصبح مشروعا عملاقا قادرا على المنافسة الشريفة، ويأتيه بالأرباح العظيمة.

 

وإذا ما نجح المؤمن في إبعاد إرادة العلوّ في الأرض، أو إرادة الفساد فيها عن نفسه، فإن سعيه هذا يكون في سبيل الله. فالنفس لا تخلو أبدا من الدافع والنية وراء أيّ عمل تقوم به، وإن هو تجنّب الدافعين المحرمين، فلا بدّ لدافع آخر أن يبقى في نفسه، ويكون دافعا يرضى عنه المولى، وبذلك يكون السعي وراء المال الكثير الحلال سعياً في سبيل الله، ولا حاجة للمؤمن التقيّ إلى أن يتردّد في ذلك، فنعم المال الصالح للعبد الصالح كما قال النبي ﷺ.

 

وهذا المؤمن الثري، حتى لو لم يعط من ماله الكثير سوى الزكاة، فإنّه بمشاريعه يوجد فرص العمل الكثيرة لباقي المؤمنين، وبجلده ونشاطه يساهم في الاستقلال، والاكتفاء الذاتي لأمتّه وبلاده، بحيث تستغني عن أعدائها في طعامها ولباسها وكلّ احتياجاتها، فكيف إن كان هذا المؤمن الغنيّ ممن ينفقون مع الزكاة الكثير؟ إنه سيكون على طريق عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهما من أثرياء الصحابة؛ الذين كانوا يمتلكون الثروات الواسعة، وينفقون في سبيل الله منها المبالغ الطائلة.

 

لقد كانت ثرواتهم بمثابة مركب حملهم إلى الجنة، وهم المبشّرون بها، وما كانت هذه الثروات لتتكوّن لديهم بضربة حظ، إنما هو الجهد والدّأب دون تردد، أو إحساس بالذنب أو سوء فهم لدين الله، أو ظنّ أنّ إقبالهم على جمع المال الكثير الحلال إنما هو انكباب على الدنيا، وإعراض، وغفلة عن الآخرة.

 

إنّ المال والعلم هما عصبا القوة في هذا العصر، ولئن كان المؤمن القادر على طلب العلم والإبداع فيه كالمجاهد في سبيل الله إن هو أقبل على العلم متحررا من حبّ الظهور أو الفساد، فإنّ المؤمن الماهر في التجارة والصناعة إن هو أقبل على تجارته وصناعته بأقصى اهتمام ونشاط واندفاع، فإنّه سيكون في سبيل الله أيضا ما دام متواضعاً لله، ساعياً إلى الصلاح في الأرض، ولا يدفعه إلى ما يقوم به إرادة العلوّ  أو الفساد.

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة