بل عباد مكرمون
بقلم الدكتور محمد كمال الشريف
قال تعالى عن الذين ادعوا أن الملائكة بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} الأنبياء26
بل عباد مكرمون أي الملائكة عباد لله مكرمون، وهي عبارة تجمع الأضداد حيث تصف الملائكة أنهم عبيد أو عباد لله وتثبت لهم الكرامة والمكانة العالية فهم مكرمون مع أنهم عبيد، وهكذا هي دوماً العبودية لله تعالى ترفع ولا تخفض، وتعز ولا تذل، قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} المنافقون 8
العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.. وليس المؤمن ذليلاً إلا على والديه أو على باقي المؤمنين ذلاً من الرحمة لا ذلاً من المهانة وانخفاض القدر، قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} الإسراء24. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} المائدة54
وقال أيضاً: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يونس26
وقال عن الكافرين الرافضين لهدايته: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} المعارج44
وقال: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} القلم43
وقال عن عصاة بني إسرائيل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } الأعراف152
هكذا تكون الذلة عقوبة للمستكبرين الرافضين للهداية جزاء من جنس عملهم حيث الكبر دافعهم الأول للعصيان، ولا تجد المؤمن مطالباً بالذلة أو مشجعاً عليها إلا ذلة الرحمة للوالدين وقد بلغا الكبر وتقدمت بهما العمر وأحنت ظهريهما، أو ذلة المؤمن للمؤمن حيث المودة والرحمة هي العلاقة اللائقة بمجتمع المؤمنين.
ولا تجد فرضاً للذلة على المؤمن حتى لخالقه جل وعلى رغم أنه ربه ومالكه، بل تجد العلاقة المثلى بين هذا الخالق الكريم وعباده الصالحين هي علاقة الحب المتبادل والطاعة من قبل العبد لمولاه، طاعة تليق بعظمته وحكمته التي نؤمن بها، يقابلها ربنا برضاه عنا وحمايته لنا، وهذه قضية يجب أن تكون واضحة في أذهاننا حيث كثرت الدعوات من بعض المؤمنين إلى التذلل لله والتركيز على الذل أمام الله الذي يستحق منا ما أكثر من التذلل له، لكنه الرحمن لم يطالبنا بالذلة له بل أكد على تكريمه لنا كبشر وأكد على أن أكرم الناس عنده أتقاهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات 13
فالأتقى عند الله كريم مكرم لا ذليل مستذل، وكلما زاد المؤمن تقىً زاد عند الله كرامة. ولعل الرجلين الذين حققا العبودية لله حق التحقيق هما إبراهيم ومحمد ﷺ فاستحق كل منهما أن يكون لله خليلاً، وكم في هذه المرتبة من تكريم!
نحن مخلوقات لله وملكاً له لكنه جعلنا مستخلفين في الأرض نحقق في أنفسنا صفاته وأخلاقه وإن كان حرم علينا أن نستكبر أو نستعلي لأن العظمة والكبرياء لا تنبغيان إلا له جل في علاه، لكن الإنسان مكرم على سائر المخلوقات قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } الإسراء70
وقد أمر الله ملائكته أن يسجدوا لآدم عندما خلقه، سجود التحية، مما استفز إبليس وأغضبه أن الله كرم آدم عليه، وهذا يؤكد لنا أن المطلوب من المؤمن هو الحب والطاعة لا الذلة والمهانة، ولعل الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحافظ على كرامة الإنسان حتى في علاقته مع ربه ومولاه.
والعلاقة بين المؤمن وربه في الإسلام علاقة حب متبادل، وهي علاقة شخصية بين ذات إنسانية مخلوقة لتكون خليفة لله في أرضه وذات إلهية ليس كمثلها شيء لكنها موصوفة في القرآن الكريم والحديث الشريف بما يقربها إلى نفس الإنسان ويجعلها قابلة للحب والمناجاة، بينما المبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى تجعل التوجه له بالحب، والشعور بالعلاقة الرائعة معه، أمراً عسيراً على النفس البشرية المحكومة بقدرتها على الإدراك والتعاطف، كل ذلك دون أن ينسى المؤمن أن الله ليس كمثله شيء كما قال هو عن نفسه: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الشورى11
وهذا يعني أن أفضل منهج للاعتقاد بصفات الخالق سبحانه وتعالى هو منهج سلف هذه الأمة الذي كانوا عليه قبل أن يتأثر المسلمون بالفلسفات والثقافات التي اطلعوا عليها لدى الأمم الأخرى، أي الإيمان بصفاته التي وصف بها نفسه بلا تأويل ولا تعطيل، لأنها كما وردت تمكن قلب المؤمن من التفاعل الوجداني مع خالقه، حيث الحب هو الدافع الأكبر للإيمان ومنه تستمد حلاوة الإيمان بالخالق العظيم.
ولنتأمل ما يقوله ربنا سبحانه وتعالى في الحديث القدسي عن حبه للمؤمن الصالح، فقد قال النبي ﷺ: (إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته). (رواه البخاري)
حب ورحمة ومراعاة للمشاعر في أرقى صورها لا يليق غيرها بالودود الرحمن اللطيف الكريم جل في علاه.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا