حديث النفس وحضور القلب
حديث النفس وحضور القلب
Whatsapp
Facebook Share

حديث النفس وحضور القلب

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

إن واحدة من أهم مزايا الإنسان: قدرته على أن يفكر بما وراء اللحظة الراهنة، وبما وراء المكان الذي هو فيه.. إنه قادر على تذكر الماضي، وعلى التفكير بالمستقبل وعلى العيش من خلال خياله في أماكن ومواقف غير التي هو فيها.

 

إنه قادر على استباق الأحداث، وتصوّرها والتخطيط لها وقادر على إعادة النظر في الماضي، ومراجعة النفس، والحكم على ما فعلته ليستحسن ما يراه صواباً، وليلومها على ما أخطأت فيه.

 

وهذه القدرة على تجاوز الواقع الراهن، واللحظة الراهنة مفيدة جداً للإنسان، ولا بدّ منها ليتمكن من الإبداع والتخطيط في أي مجال.

 

لكن التفكير بما وراء اللحظة الراهنة والواقع القائم يجعل الإنسان حاضراً بجسده، غائباً بعقله، وإذا ما سيطر هذا التفكير على الإنسان صار عقله في حالة مستمرة من (حديث النفس) حيث يتوقع شيئاً، ويفكر كيف يمكنه أن يتصرف عند حدوثه، ثم يتوقع احتمالاً آخر، ويقلّب الفكر فيما عساه يقول أو يتصرف.

 

وتتعدد الاحتمالات ويستمر التفكير وانشغال البال وهكذا يستمر غياب الإنسان الجزئي عن واقعه ولحظته الراهنة، فتراه شارد الذهن كلما خلا بنفسه، أي: كلما صمت، ولم يتحدث مع غيره، حتى لو كان بين ألف إنسان، انه معهم لكن فكره في زمان آخر ومكان آخر... حتى حين يستمع إلى الآخرين وهم يحدثونه فإنه لا يجيد الإصغاء إليهم، فلربما كان أثناء استماعه إليهم مشغولاً في تحضير ما سيقوله عندما يسكتون، ويأتي دوره في الحديث.

 

إنه يسمع، لكن قلبه لا يصغي، وهو ينظر، لكنه لا يكاد يرى، وهكذا وبمرور الوقت يتحول ما كان جميلاً في عينيه عندما رآه لأول مرة إلى شيء عادي لا جمال فيه، لأن عقله في انشغال دائم عن اللحظة الراهنة، والبقعة الراهنة ولا يخرجه من انشغاله وشروده هذا إلا الجديد والصارخ.

 

وهكذا عندما تنشغل النفس في حديثها شبه الدائم يحرم الإنسان من التمتع بالجمال الذي حوله، ويقل إحساسه بواقعية ما حوله ومن حوله وحقيقتهم، فيقوم بأفعاله بطريقة فيها قدر كبير من الآلية، ويصبح التفكير بما يفعله أو يقوله يتم بعيداً عن بؤرة الوعي والشعور، فقد تراجع إلى خلفية الوعي وهكذا يؤدي هذا الإنسان ما يؤديه وعقله غائب مستغرق في تفكير حالم لأنه في حديث النفس كالذي يسرح في أحلام اليقظة، إنه غافل عن العالم الحاضر الذي تدركه حواسه، ولم يترك لهذا العالم الحاضر سوى جزء من وعيه، لذا فهو يؤدي ما يؤديه بطريقة شبه آلية، إنه يقوم به لكنه (لا يعقله) أي: لا ينتبه لما يؤديه من قول أو فعل، إنه كالذي يمشي في الأسواق ويرى الأشياء والأشخاص وفكره مشغول بغير ما يرى... إنه يمشي بينهم دون أن يصطدم بهم، لكنه لم يرهم حق الرؤية، الرؤية التي يكون فيها القلب حاضراً، أي: منتبهاً لما يقول، أو يفعل، أو يحس.

 

صحيح أن قدرة الإنسان على القيام بالكثير بطريقة شبه آلية فيه توفير للطاقة العقلية كي تتفرغ لما هو مهم، لكن إن صارت هذه الطريقة شبه الآلية في القول والفعل والإدراك غالبة على الإنسان أغلب وقته، تشغله بحديث النفس عما هو قائم ( الآن)  و ( هنا) بل يكون في حالة من التفكير الحالم المقيم في الماضي أو المستقبل.. بينما يشكل حضور القلب والعيش في اللحظة الراهنة الأساس للقدرة على الابتهاج والتمتع بما أنعم الله علينا في دنيانا، كما يشكل الأساس للقدرة على الشعور بالعواطف والمشاعر الحميمة وتبادلها فيما بيننا سواء منها المشاعر الأخوية أو الجنسية، أما من يعيش مع الذكريات في الماضي أو المخاوف في المستقبل فإنه يفقد قدراً كبيرة من القدرة على الابتهاج والتمتع والشعور بالعواطف، لأنه حاضر بين الناس بجسده، وقلبه ولبه شارد ساه غائب.

 

إن حدث هذا فإن الإنسان يفقد حالة (الانتباه) و (حضور القلب) الممتعة، وتصبح عودته إليها أمراً صعباً ويفقد هذا الإنسان الكثير من سكينته وطمأنينته، ويكون لا بدّ له من أن يدرّب نفسه على الانتباه، وحضور القلب، وعلى التحرر من حديث النفس والتفكير الحالم حتى يتسنى له أن يعيش لحظته الراهنة، بما فيها من مدركات ومشاعر وأفكار وأفعال، ليحس بالوجود الحقيقي لكل شيء من حوله، فلا يبقى خارج حدود الزمان والمكان القائمين.

 

وليس كالإيمان والعبادة معيناً على ذلك التحرر، وعلى تلك العودة إلى الانتباه وحضور القلب بحيث لا تحزنه الذكريات، ولا تقلقه احتمالات المستقبل المجهول.

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة