المقالات
استعادة الحب المفقود
Whatsapp
Facebook Share

استعادة الحب المفقود

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

تبدأ زيجات كثيرة بحب عظيم ورومانسيَّة طاغية، لكن مع مرور السنين يفتر الحب في بعض الأسر، وتصبح العلاقة بين الزَّوجين باردة لا يظهر دفء الحب فيها، وقد غادرتها الرومانسية، وتحوَّل حتّى الجنس فيها إلى روتين لا بهجة فيه، وربما ضعفت رغبة كل من الزَّوجين في الآخر، وربما انعكس ذلك على قدرتهما على الأداء والتَّفاعل. وهذا الوضع لا يريح الزَّوجين اللّذين ارتبط مصير كلٍّ منهما بالآخر، وصار من المستبعد أن يفترقا وبخاصّة بعد مجيء عدد من الأطفال لا ذنب لهم.

 

بعض الأزواج والزَّوجات يظنُّ أنَّ الحب في حياتهم الزَّوجيَّة قد توفاه الله، ويستسلم إلى الحالة الّتي وصل إليها، وتمضي سنون كثيرة وهم على هذه الحال. ذلك أنّهم يظنون أنَّ الحب انفعال وتأثر، وطالما أنّهم لا يشعرون به فإنَّه لا مجال لفعل شيء وإنَّ الذّنب ذنب الطرف الآخر الّذي لم يبق محبوباً كما كان من قبل، وإن كان هنالك ما يمكن فعله فهو واجب الطّرف الآخر وعليه وحده تقع المسؤوليَّة، وهو وحده الّذي عليه أن يتغيَّر ليعود محبوباً كما كان.

 

أمّا الأزواج والزَّوجات الأكثر قدرة على فهم نفسيّة الإنسان فيعلمون أنَّ الحب فعل إرادي وقرار يتخذه المحب وليس انفعالاً سلبياً يكون فيه المحب متأثِّراً لا قدرة له على المقاومة، ولهذا أُمِرْنا في ديننا أن نحب الله ورسوله أكثر ممّا سواهما، وأُمِرْنا أن نحب صحابة الرَّسول ﷺ وأهل بيته، ولو كان الحب انفعالاً لا يد لإرادتنا فيه لكان في أمر ديننا لنا بحب أشخاص معينين تكليف لنا بما لا نطيق.

 

يقوم الحب على أساسين هما الإعجاب والامتنان، والإعجاب هو الانفعال، وهو الشّعور الّذي لا يد لنا فيه، إذ نحن مفطورون على الإعجاب بمن تتجسّد فيه الصفات والخصال الّتي نراها مثاليَة ونقدرها كثيراً، أمّا الانتقال من الإعجاب إلى الحب فإنّه فعل إرادي، وبأيدينا أن نحب (حب الرّجل للمرأة، وحب المرأة للرجل) ذاك الّذي أعجبنا به، وبأيدينا أن نبقى في مرحلة الإعجاب إن كنا نعتقد أنّ حبنا لهذا الشّخص أمر غير متناسب مع ظروفنا وسيكون شيئاً يصعب عيشه بكل مقتضياته وبكل ما يترتّب عليه عادة، أو أنّه حب لا حاجة لنا به إذ لدينا محبوب آخر ملأ علينا دنيانا العاطفية فاستغنينا به عن غيره.

 

والامتنان هو الدافع الثاني للحب (والمقصود بالامتنان هنا: امتنان المحب للمحبوب على ما تلقاه منه من خير يلبِّي رغبته وحاجته).

 

لكن هنالك اختلاف بين الحب المتولِّد من الإعجاب والحب المتولِّد من الامتنان، إذ الحب المتولِّد من الإعجاب يكون رومانسيّاً، أمّا الحب المتولِّد من الامتنان فهو حب هادئ سمّاه علماء النفس "حب الصحبة"، وفي الحياة الزّوجيّة يمهِّد الحب الرومانسي الطريق لحب الصحبة الّذي يدوم عادة حتّى النهاية.

 

وبرود الحب في الحياة الزَّوجيَّة علاجه أن يحب كلّ من الزَّوجين الزَّوج الآخر من جديد. نعم الحب فعل إرادي، لكن الكثير من الأزواج والزَّوجات الَّذين هم في حالة برود وفتور عاطفي في حياتهم الزَّوجيَّة يجدون صعوبة في أن يحبوا الطرف الآخر من جديد حتّى لو أرادوا ذلك وحاولوه، إنَّ قلوبهم لا تطاوعهم في ذلك، وإذا حال شيء بين المرء وقلبه فقد الإنسان قدرته عل توجيه مشاعره الوجهة الَّتي يريدها.

 

لكن ما الّذي يمكنه أن يشكِّل جداراً يحول بين الإنسان وبين أن يحب من يريد حبه وبخاصّة في الحياة الزَّوجيَّة؟

 

إنَّ الحائل إمّا أن يكون إصابة شديدة في الإعجاب حوّلته إلى نفور، وإمّا أن يكون إصابة في الامتنان حوَّلته إلى غيظ وغلٍ وعداوة مخبوءة أو ظاهرة.

 

وهذا يعني أنَّ إزاحة العوائق في وجه الحب بين الزَّوجين تقتضي التَّخلّص من النفور والتّخلّص من الغيظ والغل والحقد والعداوة، قبل أن يكون بمقدور الزَوجين أن يحب أحدهما الآخر من جديد.

 

والمشكلة في الحياة الزّوجيّة تكون في كثير من الأحيان في جهل كل من الزَّوجين لما ينفر الزَوج الآخر منه أو لما سبب الغل والحقد والعداوة لدى الطرف الآخر نحوه. وهذا يعني أنَّه قبل كلّ شيء لا بدَّ من جلسة أو أكثر بين الزَّوجين يستمع فيها كلّ منهما إلى الآخر استماع من يريد أن يفهم وجهة نظر الآخر ليرى لعلَّ الحقَّ معه فيها، وليس استماع من يريد الدفاع عن نفسه وردّ التّهم عنها وإثبات أنَّه ليس مخطئاً وأنَّ كل الخطأ خطأ الطرف الآخر، إذ في هذه الحالة تنعدم المحاولة لفهم الطرف الآخر، وبالتالي يستحيل أن يفهم كلّ منهما الآخر، وبالمقابل على كلّ من الزَّوجين عندما يحكي للآخر شكواه أن يتجنّب لوم الآخر وأن يتجنَّب اتهام الآخر.

 

إذ الهدف من بث الشكوى إنّما هو جعل الآخر يفهم معاناة الأَّوّل، ويدرك دوره فيها كي يغيّر من نفسه أو من سلوكه، حتّى تنتهي هذه المعاناة، وليس الهدف محاكمة الطَّرف الآخر ومعاقبته على ما ارتكبه في حق صاحب المعاناة، ويتم ذلك بأن يقول صاحب الشكوى للآخر "عندما فعلتَ كذا وكذا شعرتُ أنا بكذا وكذا" وهذا أسلوب يحقِّق التعبير عن المشكلة دون الاتهام واللوم للآخر، إذ الاتهام واللوم يجعل الآخر دفاعيَّاً وليس مستمعاً يريد الفهم.

 

إنَّ هذه المصارحة في إطار من الرّحمة كثيراً ما تحقِّق التّغيير، فيقوم الطّرف الآخر بتغيير ما يستطيع تغييره في نفسه كي يستعيد بعض إعجاب الزَّوج الآخر به، ويقوم بتغيير سلوكه الَّذي كان يسيء فيه للطرف الآخر بوعي أو دون وعي.

 

أمَّا ما لا يستطيع الطَّرف الآخر تغييره في نفسه من طباع مثلاً فلا بدّ فيه للطرف الأوَّل من التَّقبُّل لهذه الطِّباع الّتي لا يحبها في زوجه، ولا بدَّ له من تقبًّل العيوب الخَلْقيَّة الجسديَّة الّتي من العسير أو المستحيل تغييرها، فالتَّقَبُّل يمهّد الطريق للحب، والحب يؤدِّي إلى مزيد من التَّقبُّل.

 

وتبقى لدينا مشاعر الغيظ المتراكم في النَّفس بسبب إساءات سبقت ومضت، فتحوَّل إلى غلٍّ وحقد وعداوة، وبخاصّة أنّ المرء تجنَّب في عملية المصارحة توجيه اللوم والاتهام للطَّرف الآخر.

 

إنَّ هذه المشاعر الدَّفينة في النَّفس لا تذهب ولا تزول وحدها، ولا يستطيع الزَّمن وحده أن يمحوها من النَّفس، قد تتمكّن النَّفس من إزاحتها عن دائرة الشّعور والوعي لكنَّها لن تتمكَّن من النَّجاة من تأثيرها في مشاعرها وعواطفها، ومهما خبَّأها الإنسان فستبقى جداراً يحول بين المرء وحب الزَّوج الآخر حتّى تزول ويشفي الله صدره منها.

 

وللشِّفاء من هذه المشاعر طريقتان، الأولى: هي الانتقام والعقوبة الّتي تحقِّق العدل فتريح النَّفس، وتزيل منها مشاعر الغيظ والحقد والعداوة المتراكمة، وواضح أنَّه لا مجال لمثل هذه الطّريقة في حياة زوجيَّة نسعى إلى إعادة المودَّة والرَّحمة إليها.

 

أمّا الطّريقة الأخرى فهي المسامحة والعفو والغفران من أعماق القلب، لا المسامحة بالعقل واللسان فقط.. وحتّى تكون المسامحة والعفو من أعماق القلب لا بدَّ أن يتذكّر الإنسان أنّه هو المستفيد الأوّل منها، وأنَّ الله سيعوِّضه عمَّا لاقاه من الإساءات لأنَّ الله دعانا إلى المغفرة حتّى للكفار المعاندين، ووعدنا الثَّواب عليها، ومستحيل أن يكون ذلك حباً لهم، بل هو من أجل أن تتخلَّص نفوس المؤمنين من مشاعر مزعجة للنفس فيكون بذلك العفو وتلك المغفرة شفاء لما في صدور الّذين عفوا وغفروا وسامحوا، إنَّها مسامحة في سبيل الله ترضي الله وتريح النَّفس، ولا خلاف أنَّ الزَّوج أو الزَّوجة أولى بها من الكفار أو الغرباء، ذلك أنَّ الأقربين أولى بالمعروف.

 

إنَّ التّصرف المثالي عندما نتلقى إساءة ممن نحب هو كظم غيظنا الّذي لا بدَّ أن يثور في نفوسنا، لكن هذا الغيظ لو بقي فيها فإنَّه يتراكم ويتحوَّل إلى غلٍ وحقد، وقد ننساه لكنه باقٍ في النَّفس ليحول بيننا وبين حبنا للزَّوج أو الزَّوجة، لذا لا بدَّ أن يتبع كظم الغيظ عفو عن الإساءة، وذلك بعد مرور بعض الوقت وهدوء النَّفس والمشاعر، والمرحلة الأرقى والفعَّالة جداً في التّأثير في الزَّوج (أو الزَّوجة) الّذي أساء هي الدفع بالّتي هي أحسن، أي الإحسان إليه بإخلاص ومن القلب رغم إساءته، وهذا مستحيل ما لم يسبقه العفو والمسامحة، لذا عندما امتدح الله المتقين قال عنهم: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾ [آل عمران: 133- 134].

 

إذن ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ وبعد كظم الغيظ ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ وبعد العفو دعوة إلى الإحسان للمسيء أي إلى الدّفع بالّتي هي أحسن ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وليس أَوْلى من الزّوج والزَّوجة بهذه المعاملة، وإذا قدرنا عليها عاد الحب إلى الحياة الزَّوجية بعد غياب.

 

وحتّى يكون العفو والمسامحة من أعماق القلب يحتاج الإنسان إلى تكرار هذا العفو بلسانه وفي غياب الطرف المسيء مراراً وتكراراً، إذ التكرار باللسان مع محاولة الشّعور بما يقوله اللسان يجعل الأمر يصل إلى أعماق القلب ليطهره ممّا فيه.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة