المقالات
الأسس النفسية للقوامة
Whatsapp
Facebook Share

الأسس النفسية للقوامة

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

لم تكن سلطة الزّوج في بيته محل تساؤل وجدلٍ على مر العصور إلى أن جاء القرن العشرون، وقامت النّساء في أوربا وأمريكا تنادي بالمساواة، ولم تتصوّر النّساء هناك وجوداً للمساواة بين الجنسين ما لم تتطابق الأدوار، فتعمل المرأة عمل الرّجال خارج البيت ويعمل الرّجل عمل النّساء داخله، وإذا قامت الأسرة على المساواة كان لا بدّ للمرأة من أن تمتلك القَدْر ذاته من الحقّ في اتّخاذ القرارات الخاصّة بالأسرة دون أن يكون لقرارات الزّوج أي وزن زائد على ما لقرارات الزّوجة وآرائها.. هكذا فهمت النّساء في أوربا وأمريكا المساواة بين الجنسين، وأصبحت سلطة الزّوج على زوجته غير مقبولة بعد أن كانت عندهم سلطة لا ضابط لها، وصار الزّواج المثالي هو الزّواج الّذي لا قوامة فيه للزّوج على زوجته أو للزّوجة على زوجها، بل هو زواج يشترك فيه الزّوجان في اتّخاذ القرار بحيث لا يخضع أحدهما للآخر، وهو زواج يعمل فيه الزّوجان خارج البيت وداخله، فلم تبقَ المرأة حبيسة البيت ومتفرّغة للأطفال، وكان التّعليل لهذا التّغيير في موازين السّلطة في الحياة الزّوجيّة أنّ المرأة في عصرنا استقلّت اقتصاديّاً، وصارت قادرة على كسب قوتها كالرّجل تماماً، ولم تبقَ معتمدة على الرّجل في تأمين احتياجاتها، وبالّتالي لا مبرّر كي تتنازل له عن حقّها في المشاركة في السّلطة في الحياة الأسريّة، وجاءت الدّراسات النّفسيّة المعاصرة لتقوّي من حجّة النّساء، إذ بيّنت أنّ معدّل ذكاء الإناث لا يقلّ عن معدّل ذكاء الذّكور، وإن كانت هنالك فوارق في بعض النّواحي يتفوّق فيها الذّكور في جوانب، وتتفوّق الإناث في جوانب أخرى، فتكون المحصّلة النّهائيّة أنّه لا فرق بين الإناث والذّكور في الذّكاء.

 

وإذا تساوى ذكاء الجنسين فَلِمَ يكون للذّكر الحقّ في السّلطة في الأسرة من دون الأنثى؟

 

لكن العليم الخبير الّذي يعلم من خلق ويعلم ما يُصلح شأنهم قال: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34]. والآية واضحة وقاطعة في أنّ الزّوج قوّام على زوجته وله حقّ إمارة الأسرة، وعلى الزّوجة أن تطيعه إن اختلفت آراؤهما ولم يصلا إلى رأي يُجمعان عليه، وذلك ما لم يأمرها بمعصية، كما أنّ ذلك يكون فيما يخصّ حياتهما الأسريّة، فلا تعني الآية الكريمة أن يتحكّم الزّوج في جميع شؤون زوجته. وفي هذا المقال لا بدّ لنا من تناول معنى التّفضيل المذكور في قوله تعالى ﴿بِمَا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ وعلاقة المال بالقوامة، وهل الخالق جعل اعتماد الزّوجة على زوجها في نفقاتها أحد مبرّرات قوامته كما ظنّت النّساء في أوربا وأمريكا أم إنّ الأمر مختلف.

 

قد يظنّ البعض أنّ الله فضّل الرّجال على النّساء فجعل الرّجال أعلى قدراً والنّساء أدنى منزلة، ممّا يبرّر لبعض الرّجال أن يستعلوا على النّساء، ويجعل بعض النّساء ينظرن إلى الرّجال على أنهم جنس أكرم من النّساء فيرضين بما يقع عليهنّ من إذلال وإهانة طالما أنّها آتية من رجل. وهذا يأتي من الخطأ في فهم قوله تعالى ﴿بِمَا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ومن الخلط بين مفهومين مختلفين هما "التفضيل" و"التكريم"، فالتّفضيل يعني إعطاء مزيّة لم تُعطَ للآخرين، وزيادة خصّ بها الله البعض دون البعض الآخر، إذ الفضل في اللغة هو الزّيادة، وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النساء: 32] وواضح في قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: 55]. أمّا التّفضيل بمعنى الرّغبة في شيءٍ أكثر من غيره فقد جاء في قوله تعالى عن ثمار الزّروع: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون﴾ [الرعد: 4]، وحتّى هذا التّفضيل بين ثمرة وأخرى لا يكون إلّا لمزيّة وخاصيّة في ثمرة تجعلها مرغوبة منّا أكثر من الثّمرة الأخرى. أمّا مفهوم التّكريم فيعني إعطاء القدر والمكانة الأعلى، وهذا ما أحسّ به إبليس عندما أمره الله مع الملائكة أن يسجد لآدم عليه السّلام، الّذي جعله الله خليفةً له في الأرض من دون الجنّ والملائكة، فقال إبليس مجادلاً الخالق ومتحدّيّاً له: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 62]، ولو أراد الله تكريم الرّجال على النّساء لقال في آية القوامة: بما كرّم الله بعضهم على بعض، ولَما قال: بما فضّل الله بعضهم على بعض. والله الّذي فضّل بني إسرائيل على العالمين غضب عليهم ولعنهم وردّ ادّعاءهم أنّهم أبناء الله وأحباؤه. وهذا التّفصيل في معنى التّفضيل والتّكريم ضروري حتّى لا تشعر المرأة بالغبن إذ أمرها الله بطاعة زوجها مع أنّها لديها من الذّكاء مثل ما لديه، وحتّى لا يرى زوج في الآية الكريمة مبرّراً للاستعلاء على زوجته.

 

والّذي لا بدّ من تذكّره هو أنّ الحياة الأسريّة لا يمكنها الاستمرار على حال المشاركة المتساوية في السّلطة بين الزّوجين، إذ الادّعاء انّ الحياة الزّوجيّة يمكن أن تكون حياة تفاهم وتعاون ومشاركة في القرار، هذا الادّعاء الجميل كفكرة لم يمكن تطبيقه في الواقع حتّى في الأسر الأمريكيّة والأوربية الّتي يؤمن فيها الزّوجان به، إذ الأصل في عقول النّاس وآرائهم الاختلاف والتّنوّع، ثمّ إذا تذكّرنا الأهواء والشّهوات تبيّن لنا أن الاختلاف سيكون أكثر، وأنّ تطابق الآراء سيكون أندر -اللّهمّ إلّا في المرحلة الرّومانسيّة من الزّواج- أي في شهر العسل الّذي مهما طال فإنّه لا يدوم أكثر من عامٍ واحدٍ أو عامين في أغلب الزّيجات. وهو ليس تطابقاً حقيقيّاً في الآراء، بل هو مسايرة طرف لآخر من أجل الإرضاء وكسب الودّ، ثمّ هو من قبيل قول السّيدة عائشة رضي الله عنها لنبيّنا محمّد ﷺ: "واللهِ إنِّي أُحِبُّ قُرْبَكَ، وأُحِبُّ ما يَسُرُّكَ"، إذ من خصائص مرحلة الرّومانسيّة أن يحبّ الإنسان ما يحبّه محبوبه. لكن طور الشّغف والافتتان هذا يصل إلى نهاية دوماً، وبعدها يتمسّك كلّ طرفٍ بوجهة نظره وبما يريد هو، فيعود الاختلاف الطّبيعيّ المتوقّع بين آراء اثنين من البشر ورغباتهما، يعود إلى الظّهور، وما لم يكن هنالك اتّفاق سابق على توزيع السّلطة في الأسرة فإنّ الزّوجين يدخلان في صراعٍ على السّلطة، وهذا ما تُعاني منه غالبيّة الأسر في أمريكا وأوروبا، حيث ينتهي هذا الصّراع بعد سنتين أو أكثر إلى تسلّم الزّوج للسّلطة (أي القوامة) في الغالبيّة العظمى من الحالات، وإلى تسلّم الزّوجة للسّلطة في حالات قليلة.

 

ولنعد لبحث الجوانب الّتي فضّل الله فيها الرّجال على النّساء فكانوا بها أكثر أهلية لتولّي القيادة في الأسرة وحمل مسؤوليّتها، أي كان لهم حقّ القوامة على زوجاتهم. ولسوف نجد المزايا المؤهّلة للقوامة هي نفسها المزايا المؤهّلة للملك والحكم في المجتمع، إنّها البسطة في العلم والجسم، ذلك أنّ المولى تعالى عندما طلب بنو إسرائيل من أحد أنبيائهم أن يعيّن الله لهم ملكاً عليهم واحداً منهم، فاستغربوا أن يختار الله لهم رجلاً لا يرونه جديراً بالملك عليهم ذلك أنّهم أغنياء وهو فقير، فبيّن الله لهم ما فضّله الله به عليهم وزاده بحيث صار أهلاً للملك، قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 247].

 

والقوامة قيادة، ومن أهمّ مؤهلات القيادة في الحياة العامّة: "البسطة في العلم والجسم"، والدّراسات النّفسيّة المعاصرة تؤكّد أهميّة العلم والخبرة في جعل الآخرين يطيعون صاحبهما، فالبسطة في العلم -أي الزّيادة فيه- تعطي صاحبها سلطة في المجالات الّتي تكون فيها هذه الزّيادة وهذه الخبرة. وكلّنا يعرف السّلطة التي يمارسها الطّبيب على مريضه فيما يخصّ الحالة الّتي يستشيره فيها، وكيف نميل جميعاً إلى طاعة الطّبيب الّذي نثق بعلمه وخبرته. 

 

وهذا حال كلّ صاحب علمٍ وخبرةٍ، حتّى إنّ العالِم في علمٍ أو موضوعٍ ما يُقال عنه: هو سلطة في هذا العلم أو هذا الموضوع، وتستخدم كلمة سلطة في هذا السّيّاق كمرادف لكلمة "مرجع"، وهذا الرّبط بين المرجعيّة والسّلطة على المستوى اللّغوي يدلّ على الإدراك الحدسي لدى المتكلّمين لقيمة العلم والخبرة في جعل صاحبهما سلطة في المجالات الّتي يشملانها.

 

والبسطة في العلم لا تعني بالضّرورة تفوّقاً في الذّكاء على الآخرين، بل قد يُوجد بين مَن هم أقلّ علماً وخبرةً مَن هو أعظم ذكاءً، فالبسطة في العلم تأتي مِن توفّر الحدّ الأدنى مِن الذّكاء اللّازم لها مع توفّر قدرٍ أكبر مِن فرص التّعلّم واكتساب الخبرة... وبالتّالي فإنّ إعطاء القوامة للرّجل لا يدلّ أبداً ولا يُستنتَج منه أنّ الرّجل أذكى من المرأة، إنّما الذّكورة تُعين على تحصيل الخبرة الحياتيّة أكثر، وهذا التّفاوت ليس ناتجاّ دائماً عن تحيّز المجتمع لصالح تعليم الذّكور، إنّما الخبرة الحياتيّة تتوفّر للذّكور أكثر ممّا توفّر للإناث لأنّ الأنثى عرضةً للمخاطر أكثر، وتميل هي ويميل المجتمع إلى حمايتها أكثر من الذّكر، وهذه الحماية الضّروريّة تقلّل من فرص اكتساب الأنثى للخبرة الحياتيّة إلى حدٍّ ما، مقارنة بالذّكر، ومهما أكّدنا على المساواة بين الجنسين وعلى حقّ المرأة في ارتياد كلّ المجالات، فإنّ ما يقع على النّساء في المجتمعات الغربيّة المعاصرة في أوربا وأمريكا من إيذاء وعدوان يجعل الميل إلى تقليص حركة المرأة وجعلها حركة محسوبة ميلاً منطقيّاً وطبيعيّاً.

 

ثمّ بعد مرحلة الطّفولة يأتي الحمل والولادة والرّضاعة ورعاية الصّغير لتساهم في تقليص فرص المرأة عموماً في اكتساب الخبرات الحياتيّة مقارنة بالرّجل... وقد يقول قائل: إنّ المرأة المعاصرة يمكنها منع الإنجاب أو تحديده كما تشاء، لكن هذا يعني أنّ المرأة يمكنها أن تكتسب الخبرات الحياتيّة بشكلٍ مقارب للرّجل إنّما على حساب دورها الفطريّ كأمّ، وليس هنالك من كسب يقابل هذا الثّمن الفادح إلّا إرضاء نزعة الكبرياء الّتي يحاول دعاة تمرّد المرأة إثارتها وحثِّ النّساء على إرضائها.

 

والميّزة الثّانية الّتي تؤهّل الرّجل للقوامة على المرأة هي البسطة في الجسم -أي الزّيادة فيه- وهي متحقّقة في الزّوج بالنّسبة إلى الزّوجة، ومتحقّقة عموماً في الرِّجال بالنّسبة إلى النّساء، فالذّكور أطول قامة مِن الإناث وأكثر قوّة عضليّة. وطول القامة ومتانة البنيان الجسدي يجعلان اختيار الرّجل لدور القوامة في الأسرة اختياراً متمشيّاً مع طبائع النّفوس وما جُبِلَت عليه مِن مَيل إلى الاحترام لمن هو أطول وأقوى. وهذا نجده حتّى في الحيوانات الّتي هي أقلّ ذكاءً مِن البشر بكثير، فإنّها بالغريزة تحترم طول القامة وقوّة الجسد، ونحن لا نجد عادة طفلاً قصير القامة نحيل الجسم يقود أطفالاً أطول منه وأقوى إلّا إن كان لديه مِن المواهب الخاصّة به الّتي يحترمها الآخرون ويقدِّرونها ما يجعلهم يغضّون الطّرف عن افتقاره إلى البسطة في الجسم، وكذلك هو الحال في عالَم الكبار، إذ قلّ مِن النّاس مَن لا يندهش لقصر قامة نابليون بونابرت وضآلة جسمه وهو القائد الّذي قاد الجيوش وحكم البلاد الكبيرة... إنّ نابليون مثالٌ على الاستثناء الّذي يؤكّد القاعدة ولا يُلغيها، إذ الفطرة تميل إلى الإحساس بالهيبة أمام مَن أوتي بسطةً في الجسم أكثر بكثيرٍ ممّن حُرِمَ مِن هذه البَسطة، أمّا نجاح أفراد قلائل في التّغلّب على هذا الشّرط فإنّما يكون عادةً نتيجة امتلاكهم بسطةً في العلم والدّهاء عظيمة تعوّض النّقص في البَسطة في الجسم. وعندما يختار الخالق الرّجل ليحمل مسؤوليّة القوامة في الأسرة فإنّه يشرِّع للأغلبيّة وليس للحالات القليلة أو النّادرة.

 

ومِن جهة أخرى فإنّ القوامة ومثلها أيّ سلطة يتولّاها إنسان لا تنجح إلّا إن كان لدى الرّعيّة إيمانٌ بوجوب طاعة هذا السّلطان، وإلّا إن كان لدى هذا السّلطان مِن القوّة ما يمكِّنه مِن جعل سلطته واقعاً ملموساً، إذ ضعف صاحب السّلطة بالنّسبة إلى رعيّته يُغريهم بالتّمرّد عليه وبخاصّة إن هو أمرهم بما لا تهواه أنفسهم. ولو تخيّلنا أنّ الخالق اختار النّساء ليكنّ قوّامات على الرّجال، فإنّنا نتوقّع أنّ نسبة الأزواج الّذين سيتمردّون وينشزون ستكون أضعاف نسبة الزّوجات المتمردات النّاشزات عندما تكون القوامة للرّجال، وذلك حتّى لو كان الأمر بقوامة النّساء على الرجال آتياً مِن الله، إذ النّفوس مفطورة على اتّباع الهوى، والبسطة في الجسم وما ينتج عنه مِن تفوّق في القوّة تغري بالتّمرّد والنّشوز، وسلطة لا تُطاع لا تختلف عن سلطة مفقودة، والأسرة ومثلها المجتمع لا يمكنها الاستمرار دون سلطة مُطاعة، والأهواء تدفع الكثيرين في المجتمع إلى مخالفة أوامر الحاكم، وتدفع الزّوجات إلى مخالفة أوامر أزواجهنّ.

 

وقد قامت في الغرب دعوة إلى تحرير المرأة مِن الرّجل، وتطرّفت بعض النّساء هناك في دعوتهنّ، فكانت دعوتهنّ في حقيقتها دعوةً إلى التّمرّد وازدراء الطّاعة للزّوج، ودعوة إلى الكبرياء إلى حدّ رأت الكثيرات منهنّ في اللّقاء الجنسي بين المرأة والرّجل خضوعاً مِن المرأة للرّجل وإذلالاً لها، وصار الشّذوذ بينهنّ واكتفاء النّساء بالنّساء، أي استغناء النّساء عن الرّجال جنسيّاً صار ذلك دلالة على مدى التزام إحداهنّ بقضيتها ودعوتها. وكل حجتهنّ أنّه لا مبرّر لخضوع المرأة للرّجل طالما أنّ الرّجل لا يزيد على المرأة ولا يتفوّق عليها بشيءٍ... لكن الأمر في ديننا ليس خضوعاً بل هي طاعة لله الّذي جعل الرّجال قوّامين على النّساء، والخالق سبحانه وتعالى لم يجعل القوامة للرّجل لأنّه متفوِّق على المرأة عموماً، بل إنّ المرأة تتفوّق على الرِّجل في ميّزات كثيرة أخرى، أي أنّها فُضِّلَت على الرّجل في أشياء كما فُضِّل الرّجل عليها في أشياء غيرها، وبذلك يكون الجنسان متساويين في مجموع الميّزات، إنّما يختلفان في الميّزات الّتي يتفوّق فيها أحدهما على الآخر، وما يتفوّق فيه الرّجل يجعله الأنسب للقوامة في الأسرة، لكنّه لا يجعله الأكرم أو الأعلى قدراً، فالمرأة والرّجل في القدر والمكانة والكرامة سواء، كما أنّ الحاكم والمحكوم في الكرامة سواء... أمّا إن أخطأ الكثيرون فاستعلى الأبيض على الأسود، واستعلى الرّجل على المرأة، فإنّ الحلّ لا يكون بخطأ مِن مثله: استعلاء من المرأة على الرّجل، وتهديم لأسس استقرار الحياة الأسريّة.

 

ونصل الآن إلى الأساس الثّاني الّذي تقوم عليه قوامة الرّجل على المرأة في الحياة الزّوجيّة وهو تكليف الله الزّوج بالإنفاق لتأسيس الأسرة منذ البداية، وبالإنفاق عليها ما دامت قائمة، وبالإنفاق على الأطفال إن تفكّكت الأسرة وافترق الزّوجان. وفي الغرب شددت داعيات تمرّد المرأة على ضرورة أن تعمل المرأة كالرّجل كي تستقلّ عنه اقتصاديّاً وتتحرّر من سلطته وتَحَكُّمِهِ فيها، وفسَّرت هؤلاء المتمردات طاعة المرأة لزوجها على أنّه خضوع بسبب الحاجة الماديّة والفقر من جهة المرأة وامتلاك المال من جهة الرّجل. لقد تناست تلك المتمردات علاقة المودّة والرّحمة الّتي فطر الله الجنسين عليها، وحرصن على إثارة كبرياء النّساء كي يستنكفنَ عن طاعة أزواجهنّ ويستكبرنَ على دورهنّ الأسري أمهاتٍ وربّاتِ بيوتٍ.

 

إنّ قوامة الرّجل على زوجته في الإسلام لا تقوم على أساس احتياج المرأة واستغناء الرّجل، إذ تبقى القوامة للزّوج حتّى لو كان فقيراً وكانت الزّوجة ثريّة، ذلك أنّ القوامة لم تمنح له لأنّ واقع الأمر أنّه هو الّذي يعمل ويكسب بينما المرأة فقيرة لأنّها متفرّغة للبيت والأطفال، بل لأنّ الرّجل مكلّف بالإنفاق على أسرته، والمرأة معفاة من هذه المسؤوليّة حتّى لو كانت غنيّة.. وحتّى لا يفقد الرّجل حماسه واندفاعه ليعمل ويكسب المال ثمّ ينفقه على زوجته وأطفال جعل الله له القوامة. فالقوامة تتضمّن اتّخاذ القرار في أوجه إنفاق المال من جهة، وامتلاك الزّوج للعصمة من جهة أخرى، والمعروف أنّ البشر يحافظون على العلاقة الّتي يبذلون في سبيلها الجهد والمال، ويسعون في تحسينها ولا يميلون إلى إنهائها بسهولة.

 

إنّ في جعل القوامة للرّجل حافزاً له على التّفاني والاجتهاد في سبيل تأمين احتياجات أسرته، لأنّ قوامته في البيت تجعله في موقع المسؤوليّة، وتجعله يحسّ بالخزي وبأنّه ليس أهلاً لأن يُطاع إن هو قصّر في تأمين ما تحتاج زوجته وأولاده من نفقة، وبذلك يُثابر ولا يتكاسل أو يتقاعس، أي إنّ القوامة ترفع من درجة الدّافعيّة عند الزّوج للعمل والتّضحية من أجل زوجته وأطفاله.

 

وخلاصة القول:

  • إنّ تكليف الرّجل بالإنفاق على الأسرة يؤهّله أكثر للقوامة، والقوامة بدورها تدفعه إلى القيام بواجبه في كسب الرّزق وإنفاقه على زوجته وأطفاله بشكل أفضل، وهكذا تتداخل العوامل النّفسيّة لتُرينا حكمة العليم الخبير فيما شرّعه لنا.

  • إعطاء القوامة للمرأة (وما تقتضيه من سلطة) يتنافى مع دورها كأم (مصدر للحنان والحب غير المشروط للأطفال).

  • الرّجل مخلوق يستمدّ ثقته بنفسه من شعوره بالقوّة، وهو بالتّالي يعتمد على نفسه واستقلالي في قراراته، أمّا المرأة الّتي ترى نفسها كائناً جميلاً ضعيفاً مفطوراً على التّعلّق العاطفي والولاء فتكون أقلّ قدرة على القيادة، وأكثر صبراً على الانقياد.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة