المقالات
الأبعاد النفسية للتكبر بين الزوجين
Whatsapp
Facebook Share

الأبعاد النفسية للتكبر بين الزوجين

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

التكبر شعور بالاستعلاء على الآخرين قائم على أساس اعتقاد المتكبر أنه أعلى قدراً ومكانة وأعظم قيمة من الآخر الذي يتكبر عليه، إما لأنه يملك من الصفات ما يضعه فوق ذلك الآخر أو لأن الآخر فيه صفات تحطه دونه مكانة وكرامة وقدراً، أو لاجتماع السببين معاً. التكبر موقف واتجاه (attitude) يتبناه المتكبر لأن القيم التي نشأ عليها وآمن بها تسمح له أن يرى الناس متفاوتين في القدر والكرامة لا سواسية كأسنان المشط أكرمهم عند الله أتقاهم. لذا يحتقر المؤمن بتلك القيم من يعتبره دونه ويتنافس مع من يراهم أنداداً له ويذل نفسه لمن يراهم فوقه دون أي اضطرار لذلك إنما يبدو له ذلك الأمر الطبيعي، حيث من حق الأعلى أن يتذلل له الأدنى، فهي أقدار الناس المتفاوتة وعلى كل منهم أن يعيش قدره.

 

أحد الأمراض النفسية الناجمة عن خلل في فعالية مواد كيماوية في خلايا المخ تسمى "النواقل العصبية" مرض يجعل الشخص يشعر بسعادة بالغة دون سبب تترافق مع شعور لا مبرر له بثقة عظيمة بالنفس كثيراً ما تصل إلى الشعور بالعظمة والتفوق على الناس واستصغارهم واستصغار مواهبهم مقارنة به وبمواهبه المتوهمة؛ هذا المرض يسمى باللغة العربية "المرح" أو "الهوس"، وكلمة المرح تعبر عنه أكثر من الهوس. في هذا المرض العقلي الذي يختل فيه التفكير يستعلي المريض ويتكبر على الناس بسبب أوهام التفوق المسيطرة عليه، وهو في استكباره ذاك غير ملوم لأن الله إذا أخذ ما أوهب من عقل أسقط ما أوجب من تكليف ومسؤولية. ومرض المرح مرض عضوي مظاهره نفسية ويتحسن ويشفى بالأدوية الخاصة به. ولعل هذا المرض يساعدنا على فهم السر وراء تسمية الخالق للتكبر والاختيال على الناس والفخر عليهم بالمرح والفرح ثم يقول إنه لا يحب المرحين ولا يحب الفرحين لكنه لا يستنكر الفرح الطبيعي الذي لا يلابسه الشعور بالكبر والتعالي على خلق الله فيدعونا للفرح ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الروم: 4]، و ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].

 

التكبر عند العقلاء مرض وآفة في أخلاقهم يستحقون عليه اللوم والذم والعقوبة، لذلك لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر إلا إن غفرها الله له يوم القيامة. والتكبر وثيق الصلة بالتمييز العنصري بأشكاله المختلفة، والإنسان يتعلم هذه الرذيلة من والديه ومن غيرهما من حوله؛ ومع أن الإنسان قادر على التعامل بلا احترام مع الآخرين منذ السنوات الأولى من عمره كما نرى ونسمع عن إهانة الخادمات من قبل أطفال صغار، إلا أن الشعور بالكبر والاستعلاء والتفوق في القدر والقيمة والكرامة يحتاج إلى حد من النضج في المخ ليصبح قادراً على إدراك المعاني التي يتضمنها التكبر واستشعارها كالكبار؛ والدراسات على التمييز العنصري وجدت البداية لمشاعر التكبر تكون حوالي السنة العاشرة من العمر، وبالتدريج تنمو هذه القدرة حتى تماثل الكبار عند البلوغ العقلي الذي يتزامن عادة مع البلوغ الجنسي.

 

وكما ينتشر التكبر في المجتمع الكبير نجده في الكثير من الأسر وبخاصة بين الزوجين. ومع وجود حالات تتكبر فيها الزوجة على زوجها فإن أكثر الحالات هي تكبر الزوج على زوجته.

 

وعندما يكون التكبر بين الزوجين مرافقاً للاعتزاز الزائد بالأصل والنسب، كما قد يقع أحياناً عند الزواج من جنسية أو قومية أخرى، أو الزواج بين من يفخر بأصل أسرته من حيث القبيلة أو سلسلة النسب التي غالباً لا يعلم مدى صدقها إلا الله سبحانه وتعالى وغيره ممن لا يهتم بذلك بل المهم عنده حاضره فكلنا لآدم وآدم من تراب، فإن استكبار الزوجة قد لا يكون أقل من استكبار الزوج.. كالتي زوّجها أبوها الثري من أجيره الفقير لما رأى من أمانته ومهارته وأراد أن يضمن ولاءه بهذا الزواج، فقد تبقى ابنة الأصل والغنى كما ترى نفسها تشعر أن أباها أعطاها لمن ليس أهلاً لها وتتكبر على زوجها. ومثلها المتحدرة من أمة غالبة متفوقة في قوتها العسكرية أو التقنية عندما تتزوج من رجل ينتمي إلى أمة مستضعفة فإنها تتكبر عليه مع أنها ما تزوجته إلا لأن ظروفها الشخصية لم تمكنها من الحصول على زوج صالح من بني قومها.

 

التكبر الأكثر شيوعاً بين الأزواج هو تكبر الزوج على زوجته الذي غالباً ما يكون امتداداً لتكبر الرجل على المرأة. وعندما يتكبر الزوج على زوجته تموت كل إمكانية لأن يحبها الحب الذي يتغنى به الناس وتحلم به الفتيات قبل الزواج. فالزوج المتكبر لا يحترم زوجته، ولا وجود للحب بلا الاحترام، إنما هو شعور بالامتلاك يحل محل الحب، فيعتبر الزوج المتكبر زوجته ملكية له خاضعة لإرادته ولا أهمية لإرادتها أو رغبتها أو مصلحتها.

 

الزوج المتكبر على زوجته قد لا يناديها باسمها إنما قد يصرخ "وينك" أي "أين أنت؟" أو قد ينادي "يا بنت" أو ينادي اسم طفله الصغير ويتوقع منها أن تهرول إليه تقول "لبيك يا سيدي لبيك" بينما يبخل سموه عليها بمجرد الاعتراف أنها مثل باقي بني البشر لها اسم تنادى به وتعرف به، أي أنها إنسان له هويته الخاصة به مثل باقي بني آدم عليه السلام.

 

والزوج المتكبر لا يصغي إلى زوجته إذا تكلمت، فهو يسمع ما تقول لكنه لا يأخذه على محمل الجد ولا يتفكر فيه آخذا في الاعتبار أن قولها قد يكون صواباً وأن كلامها قد يكون مفيداً.. بل هو يقرر ما يشاء دون اعتبار لقولها وربما حرصاً منه على مخالفة قولها ومعاكسته. وهكذا ينعدم الحوار بينهما، لأن الحوار لا يكون حقيقياً إلا بين اثنين يحترم كل منهما الآخر ولا يستنكف أو يستكبر أن يأخذ ببعض ما قاله الآخر. وهو عندما تكلمه أو يكلمها يظهر تعاليه عليها وازدراؤه لها في جميع أشكال تواصله غير اللفظي معها، يظهر ذلك في نبرة صوته وفي جلسته وهو يخاطبها وفي حرصه على النظر في عينيها وهو يستمع إليها أو حرصه على التشاغل بشيء ما وهي تتكلم ليفهمها رسالة واضحة تقول: "لا قيمة لكلامك عندي ولست حريصاً على استيعابه"، كلها وغيرها كثير وسائل لإفهام الطرف الآخر رسائل لا تحملها الكلمات، وسائل توصل المعاني المراد إيصالها دون توريط النفس بقول يحمل مسؤوليته ولا يستطيع إنكار محتواه، لذا كانت أشكالاً للتواصل غير اللفظي.

 

والزوج المتكبر لا يتلطف مع زوجته إن أراد أن يطلب منها شيئاً، بل يأمرها أمر السيد للعبد.. إنه لا يريد أن يقر بأنه محتاج إليها ومعتمد عليها، نعم معتمد عليها، لأن الزواج في أصله علاقة اعتماد متبادل بين اثنين من البشر يكمل أحدهما الآخر وهما متساويان في القدر والكرامة ومختلفان في الأدوار والقدرات، فيعتمد كل منهما على صاحبه في تأمين بعض حاجاته النفسية والبدنية مما يصعب عليه تأمينه بنفسه، وهكذا يعتمد الزوج المتكبر على زوجته لكنه لا يحبها.

 

ولأن الزوج المتكبر على زوجته لا يحترمها فإنه لا يغازلها ولا يمتدح جمالها أو ذوقها في انتقاء ملابسها، ولا يقول لها: "أحبك" لا صادقاً ولا كاذباً، وإذا عاشرها جنسياً دخل في الفعل الجنسي دون مقدمات، وكان خلال ذلك مستعملاً لها ليشبع رغبته وشهوته دون اهتمام بإشباع رغبتها وشهوتها، معاشرة أخذ لا عطاء معه.

 

إن التكبر يقضي على أية إمكانية للرومانسية بين الزوجين، لأن الرومانسية تقوم على نظرة إلى المحبوب تبالغ في صفاته الإيجابية وفي قيمته حتى يصبح في نظر المحب كامل الأوصاف وفريد زمانه وعظيم القدر والقيمة بسبب تفرده هذا، ومثل هذه النظرة إلى المحبوب تصبح مستحيلة مع التكبر عليه.

 

والزوج المتكبر لا يشكر زوجته على شيء، ولا يعتذر لها عن شيء مهما أساء إليها، إنما إذا أراد أن يصالحها بعد خلاف أو إساءة منه إليها فإنه يكتفي بالتعامل معها وكأن الخلاف لم يقع وكأن الإساءة لم تحدث، أي إنه يطوي صفحة الخلاف أو الإساءة طياً بلا اعتذار ولا تطييب خاطر ولا طلب للمسامحة.

 

أما إن أخطأت هي فإنه لا يلتمس لها الأعذار ولا يصبر على أخطائها كما يصبر على أخطاء الغرباء، بل ينهرها دون احترام أمام الناس وأمام أولادهما، ويهينها دون مراعاة لمشاعرها؛ وإن هي جادلته وصفها بالغباء وسفه آراءها أمام من حضر دون أي حذر.

 

والزوج المتكبر لا يسمح بأي مكانة لزوجته، فكلمتها على الأولاد تُكْسر بسهولة، ولا تعطى السلطة على الخادمة، بل يبقى الزوج هو صاحب الكلمة على الأولاد والخادمة، وتكون مكانة الزوجة مماثلة لمكانة أولادها أو خادمتها.

 

أما إن أراد المزاح فإنه يمزح عليها لا معها، أي يسخر منها خلال مزاحه ويجعلها مادة ضحكه، ولا يمازحها المزاح الممزوج بالاحترام ومراعاة المشاعر كما يجب أن يكون المزاح بين أي اثنين من البشر، ناهيك عن اثنين ارتبطا بعهد الله وكلمته ليكون كل منهما لباساً للآخر يستره ويحميه ضمن علاقة المودة والرحمة التي جعلها الله بين النساء والرجال.

 

وهو لا يحترم أي شيء يخصها، فلا يذكر أهلها باحترام ولا يذكرهم بمودة، ولا تعجبه درجتها العلمية بل يسخر منها مع أنه رافض أن تعمل خارج بيته رفضاً باتاً وبالتالي يستوي بالنسبة له الأمر أيًا كانت الدرجة العلمية التي تحملها وأياً كان الاختصاص الذي تعلمته، إضافة إلى أن الشهادة الثانوية هي الحد الأقصى الثقافي في الحياة الزوجية لأن ما يأتي بعدها من دراسة جامعية أو متوسطة تكون عادة دراسة تعد الطالب للعمل في مهنة معينة لا تنمية لثقافته العامة التي يتفاوت فيها أصحاب الاختصاصات المختلفة. ولا أنسى زوجين في جلسة يمكن اعتبارها جلسة علاج زوجي، كان الزوج فيها يمتع نفسه بالسخرية من درجة زوجته العلمية، إذ كانت خريجة المعهد الزراعي بعد الثانوية العامة، بينما يتفاخر عليها بالدكتوراه في الهندسة التي يحملها، متناسياً أنها تزوجته رغم أنه يكبرها بخمسة عشر عاماً ولديه طفل من زواج سابق.

 

والسؤال الآن عن العوامل والأسباب التي تدفع أو تغري زوجاً ليتكبر على زوجه.

 

قد يكون تكبر زوج على زوجته محصوراً بها فهو متكبر عليها لا على جنس النساء، وكذلك إن كانت المتكبرة هي الزوجة فقد لا تكون متكبرة على جنس الرجال، لكن للأسف أغلب حالات تكبر الأزواج على الزوجات يكون فيها الزوج متكبراً على زوجته ومتكبراً على جميع نساء الأرض من ورائها.

 

هنالك شعور يكاد يكون عاماً في جميع الشعوب يزدري فيه الذكور دور الأنثى في العملية الجنسية، ويعتبرون الفعل الجنسي انتصاراً على الأنثى وتلطيخاً وتدنيساً لها، ويرونه إهانة وإذلالاً لها، حيث يفعل الذكر بها ولا تفعل به. ولعل ارتباط النصر العسكري على مدى التاريخ باستباحة الجيش المنتصر لنساء البلد المهزوم له دور كبير في ترسيخ النظرة التي تعتبر دور الأنثى في الاتصال الجنسي دور هزيمة ومذلة، ولعل لذلك صلة بأن المسبات والشتائم لدى شعوب الأرض كلها تتضمن وصف الآخر بأنه كالمرأة يقع عليه الفعل الجنسي من الشاتم أو بشكل عام، وأكبر إهانة توجه لرجل هي أن يوصف أنه يُفعل به كما يُفعل بالنساء في العملية الجنسية أو أنه يُفعل بنسائه استباحة وإذلالاً له. ومما يرسخ وضع المذلول للمرأة أو من يقوم بدورها في الجنس أن المرأة ضعيفة عضلياً ومعرضة دائماً لأن يفعل بها رغماً عنها من قبل رجل أقوى منها جسدياً بكثير.. وهكذا يرتبط ضعف المرأة العضلي مع دورها كمتلقية للفعل الجنسي وبالتالي كونها المنفعلة لا الفاعلة. كما تسود في المجتمع قيم فيها عودة إلى الجاهلية ضمن مجتمعات مسلمة، فيقول الناس في مدينة كدمشق وفي النصف الأول من القرن العشرين: "الرجل إذا زنا كالسيف إذا انجلى" فالزنا يزيد الرجل مضاء وبريقاً مثل سيف جلاه صاحبه ونظفه مما علق به، بينما الأنثى في المجتمع نفسه إن هي مكنت رجلاً من نفسها ولو بما هو دون الزنا بكثير وبما لا يزيد على القبل أو الملامسات فإنه لا يغسل عارها إن افتضح أمرها إلا موتها.

 

وأكثر الذكور ينشؤون نشأة تعلي من قيمة القوة العضلية وتزدري الضعف، ويؤدي ذلك إلى إعلاء قيمة الذكورة القوية الفاعلة والتقليل من قيمة الأنوثة الضعيفة المنفعلة. وفي مثل هذا الجو من الفصل التام بين صفات الذكورة وصفات الأنوثة ينشأ الفتى مستعلياً بذكورته على المرأة أختاً كانت أو زوجة أو حتى أماً، ولا يمكن لمثل هذا الذكر إلا أن يتكبر على زوجته عندما يتزوج.

 

وبعض الرجال يظن أن الخالق هو من وضع الأنثى في الموقع الأدنى لأنه كما قال في كتابه الكريم فضل الرجال على النساء ولذلك جعلهم قوامين عليهن. وهذا فهم خاطئ جداً لكلام الله يبدأ بعدم الانتباه لحقيقة أن الخالق لم يقل أبداً إنه فضل الرجال على النساء بل قال: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34].. والآية صريحة أن التفضيل شامل للجنسين فكما فضل الله الرجال على النساء في جانب فضل النساء على الرجال في جانب آخر. ثم يخطئ من يظن التفضيل يعني رفع مكانة و إعلاء قدر المفضل فوق الذي فضل عليه، أولاً لأن الكلمة العربية لرفع قدر مخلوق على آخر هي كَرّم لا فضّل، أما التفضيل فهو إعطاء مزية زائدة لأن الفضل هو الزيادة، والله فضَل بني اسرائيل على العالمين فظنوا بجهلهم أنه كرّمهم على العالمين وجعلهم شعبه المختار، بينما لا يعدو الأمر كونه خصّهم بالرُّسل والأنبياء من بعد إبراهيم عليه السلام حتى محمد ﷺ، ورغم هذا التفضيل فهم المغضوب عليهم وهم المضروب عليهم الذلة والمسكنة.

 

ومن عجائب بني آدم أن تقوم دعوات اجتماعية وحركات سياسية عنصرية ترد على استكبار البيض على السود باستكبار مضاد فتنادي بتفوق العرق الأسود على جميع العروق البشرية، أو ترد على استكبار الرجال على النساء باستكبار مماثل في الشدة معاكس في الاتجاه ينادي بأن الأنثى هي الأصل ويدعي زوراً أن البشرية مرت بطور كانت السيادة فيه للنساء قبل أن ينتزعها الرجال منهن.. دعوات تداوي الداء بالداء والرذيلة بالرذيلة نجدها في هذا الزمان لدى بعض الإناثيات feminists في أمريكا وأوروبا حيث تحولت دعوتهن لإنصاف المرأة إلى دعوة لظلم الرجل والاستعلاء عليه. هذا هو الإنسان ذكرا كان أو أنثى قابل لأن يكون ظلوماً جهولاً.

 

وللفارق الثقافي والعلمي بين الزوجين دور كبير في التشجيع على التكبر على الطرف الآخر، حيث لا يكون هنالك إمكانية لحوار يعبر من خلاله كل من الزوجين عن ذاته ومعارفه، ولا يخفى حال بعض الأسر التي تفوقت فيها الزوجة ثقافياً أو علمياً على زوجها ولم تعد قادرة على احترامه وتقديره وتقبل قوامته عليها، لكن تفوق الرجال ثقافياً وعلمياً على النساء هو المشكلة الأكبر من حيث شموله للغالبية العظمى من الأسر والعائلات.

 

عند الزواج يكون المستوى الثقافي للزوجين متقارباً ومناسباً، لكن مع السنين يزداد الزوج ثقافة وعلماً وتضمر ثقافة الزوجة وتنسى علمها وتنحصر اهتماماتها في الشؤون المنزلية التي لا يمتع الزوج الحديث فيها إلا بمقدار ما يلزم لحل مشكلة ما، كل ذلك والزوجة لا تدرك مدى الفجوة الثقافية التي صارت تفصلها عن زوجها فتستغرب منه قلة الرغبة في محادثتها وقضاء الوقت في مسامرتها. أما هو فتبدو له زوجته ساذجة جاهلة محدودة أو قل متخلفة كأنها من جيل أمه أو حتى جدته.. وفي هذا الوضع إغراء شديد للزوج للتعالي والتكبر على زوجته؛ والوصول إلى هذا الوضع المؤسف تقع مسؤوليته على الزوجة أولاً وعلى الزوج ثانياً وعلى بعض الأعراف الاجتماعية التي تبالغ في عزل النساء عن الرجال. الزوجة تتوقف عن الاستزادة العلمية والثقافية وبخاصة في المجالات التي يشترك الرجال والنساء في الاهتمام بها، والزوج لا يشجع زوجته على التعلم بل يضع في سبيلها العقبات ويطالبها بالاهتمام ببيتها وأطفالها وكأنها مقصرة دائماً مما له دوره الكبير في تعميق الهوة المعرفية والثقافية بين الزوجين.

 

ثم إن الحضارة المعاصرة عموماً تشجع على النظر إلى المرأة كجسد جميل ومثير للغريزة والشهوة، فهاهن يعرضن أنفسهن في الطرقات ويتنافسن على الفوز بنظرات الرغبة من الرجال الغرباء، وينسى الرجال أن كل امرأة جميلة كانت أو غير جميلة إنما هي نفس بشرية ذات مشاعر وأحلام ومخاوف وآلام، ولها حاجات تتمناها وتسعى إليها في هذه الحياة بغض النظر عن مقدار جمالها. ولعل حضارة عروض الأزياء وابتكار الجديد منها كل فصل من فصول السنة، وحضارة الإعلانات التجارية التي تقحم عري المرأة في كل إعلان، وحضارة القصص الجنسية والأفلام الإباحية التي تصور العملية الجنسية حلبة يعرض فيها رجال أقوياء الأجسام هزيلو القيم والأخلاق قوتهم وقدرتهم على الانتصار الجنسي على أجساد نسائية جميلة، فيجسدون بذلك النظرة الذكورية المستعلية على المرأة وعلى دورها في العملية الجنسية، بينما الأصل في الاتصال الجنسي أن يكون فعلاً يتجسد فيه الحب والرحمة بين الإثنين فيصح وصفه بما وصفه به المولى فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} الأعراف189، فتتحول في أفلامهم إلى غزو وانتهاك لجسد المرأة ولكرامتها وتدنيس وتلطيخ لجمالها، وإلى التعامل معها كشيء وليس كنفس بشرية وكإنسان.. إنما تصبح بين أيديهم دمية جميلة يلهو بها رجال ليسوا أهلا للهو ببهيمة الأنعام لا ببنات البشر.

 

كل هذه العوامل تدرب الذكور على "تشييء" المرأة أي على النظر إليها كشيء لا كإنسان، وعلى النظر إلى جسدها لا إلى ذاتها التي تطل من خلال عينيها، حيث يتم من خلال التواصل البصري الشعور بالتواصل بين الإثنين كإنسانين وكنفسين بشريتين متساويتين في الكرامة والقدر والقيمة، وحيث لا يكون للفعل الجنسي تلك المعاني العدائية السقيمة، بل يعود إلى أصله "تغشاها" فيكون التحام نفسين متحابتين.

 

ثم إن المرأة تساهم أحياناً في تكبر زوجها عليها وذلك عندما تكون مثله لا تحترم الأنوثة بقدر ما تحترم الذكورة، وتكون مقتنعة بموقف الرجل المتكبر على النساء، لأنه رجل ومن حق الأعلى أن يستعلى على من هو دونه. نعم هنالك نساء ضد النساء.. وقليل منا من لم يسمع عن نساء يقمن بالتمييز بين أولادهن على أساس الجنس، ومثلهن العمات والجدات، حيث يعطين الطفل الذكر كل التقدير والتدليل بينما يكون حظ الأنثى منهن الازدراء والحرمان.

 

على الزوجات قبل غيرهن أن يؤمنّ بأن الله خلقهن مساويات لأزواجهن في الكرامة والإنسانية فلا يقبلن من أزواجهن أي معاملة متكبرة عليهن، أي عليهن أن يفرضن احترامهن على أزواجهن لا أن يستجدينه استجداء من زوج متكبر.

 

وأسر المتكبرين على زوجاتهم تنجب أجيالاً جديدة من المتكبرين على النساء، لأن التكبر سلوك اختياري يتعلمه الإنسان تعلماً، فالصبي الذي لا يجبره أبوه على احترام أمه والذي لا يرى أباه يحترم أمه لن يحترم زوجته في المستقبل إلا إن هداه الله للحق والقيم الإيمانية الأصيلة التي تعترف بالمساواة بين النساء والرجال من حيث الكرامة والقدر والإنسانية. ولن تنقطع السلسلة المشؤومة ما لم يرجع الناس إلى الحق وإلى تقوى الله بالنسبة للرجال، وما لم تتحرر نساؤنا من عقدة الدونية ومن الاعتمادية الزائدة والضعف غير المبرر؛ ففي مجتمعاتنا تربى البنات بطريقة ترسخ لديهن الاعتمادية على الغير وعدم القدرة على الاستقلالية، أي بطريقة ترسخ لديهن ضعفاً في الشخصية من خلال نقص الثقة في النفس، كما ترسخ أحياناً شعوراً بالدونية والنقص وقلة القدر الذاتي وقيمة أنفسهن عند أنفسهن وذلك منذ الطفولة، لذلك يكون سلوكهن مع الزوج مشجعاً ومغرياً له كي يتكبر عليهن ويحرمهن مما هن أهل له من الاحترام بحكم إنسانيتهن. إن الأسرة التي تخطيء في تربية ابنتها تهيؤها لتكون ضحية لتكبر زوجها عليها في المستقبل، لذا علينا جميعنا أن نراجع أنفسنا ونحن نربي أولادنا ذكوراً وإناثاً، لأن لتربيتنا لهم أبعاداً بالغة في جميع مجالات حياتهم بما في ذلك حياتهم الزوجية عندما يكبرون.

 

والمتأمل فيما سبق يصبح من السهل عليه فهم كثرة حالات تكبر الأزواج على زوجاتهم بين من تزوجوا بالطريقة التقليدية القديمة حيث لا يكون هنالك حب قبل الزواج ولا محاولة من الرجل للفوز بقلب المرأة التي أعجبته، فذلك يتعارض مع تكبره على النساء، كما تبقى كبرياؤه هذه غير مكتشفة حتى يتم الزواج ويجتمعان تحت سقف واحد، وحيث يحمل الزوج من الأفكار القديمة الخاطئة عن المرأة ما يساهم في استكباره على زوجته وعلى النساء عموماً.

 

أما المرأة المخطوبة التي تبين لها أن خاطبها مستكبر عليها وعلى بنات جنسها فإن نصيحتي لها أن لا تهين نفسها، بل تستغني عن هذا الخاطب وتسأل الله زوجاً صالحاً يحبها وتحبه.

تعليقات
العدد الكلي: 1 (20 في الصفحة)
ALI ALQERSHI
منذ: الأربعاء, 20 آذار / مارس 2024 04:08
احسنت المقال في الصميم و شمل جميع النواحي.

تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة