اغفر وادفع بالتي هي أحسن
اغفر وادفع بالتي هي أحسن
ليس العدوان غريزة في الإنسان، ولكن الميل إلى الانتقام فطرة في البشر، فإذا ما أحس الإنسان برغبة في الانتقام ممن أساء إليه، فذلك لا يعني أنه إنسان سيء شرير.
إنما الرغبة في الانتقام أمر طبيعي ومتوقع، عندما يتعرض أحدنا لعدوان، أو إساءة، أو ظلم.
والمنتقم من أسماء الله الحسنى، لكن الله عادل، وقد حرم الظلم على نفسه، وجعله بيننا محرماً.
لذا فإن الله تعالى عندما أذن للمؤمن بالانتقام ممن اعتدى عليه، أكد على ألا يسرف المؤمن في الانتقام، وأوجب عليه العدل في انتقامه، ومع إباحته للانتقام كان الحض المتكرر، والترغيب للمؤمن بالصبر على الأذى والعفو عن المسيئين إليه.
ومع أن الإسلام يعلي كثيراً من قيمة العفو والصفح، فإنه في الوقت نفسه دين الفطرة، يراعيها بواقعية رائعة، ويراعي رغبة المظلوم في الانتقام لنفسه ممن ظلمه، واعتدى عليه دون حق.
قال تعالى: ﴿...فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُوا۟ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194].
تذكير بالتقوى، وترغيب بها، بأن جعل الله من نفسه نصيراً للمتقين يقف إلى جانبهم، وإذا ما أدرك المؤمن أن الله معه، خفت رغبته في الانتقام حتى لو أحس بالظلم، فما عليه إلا أن يلزم صف المتقين، وعندها يكون الله معه، ويكون منصوراً حتى لو عفا، وصفح، ولم ينتقم.
قال تعالى مؤكداً على العدل في الانتقام، ومرغباً بالصبر: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا۟ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌۭ لِّلصَّـٰبِرِينَ﴾ [النحل: 126].
ولنتدبر سوية هذه الآيات الكريمة:
قال تعالى: ﴿فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍۢ فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌۭ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلْإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا۟ هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُوا۟ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَٰٓؤُا۟ سَيِّئَةٍۢ سَيِّئَةٌۭ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ (40) وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ (43)﴾ [الشورى: 36-43].
فبعد كل شيء يبقى الصبر والمغفرة من عزم الأمور، وليس للانتقام هذه المكانة.
إنها ثلاثة أساليب للتعامل مع الغيظ والرغبة في الانتقام المتولدة منه عندما يتعرض المؤمن للإساءة:
الأول: وهو الأقرب إلى الطبع البشري، هو الانتقام والعقوبة، لكن بعدل المؤمن التقي.
الثاني: وهو الأرقى، ويتمثل في الصبر والمغفرة.
الثالث: والذي تتجلى فيه قوة شخصية المؤمن، وقدرته على التحكم بغيره في أروع تجلياتها، وفيه يرتفع سلوك المؤمن عن أن يكون مجرد رد فعل لسلوك الآخرين.
وهذا الأسلوب الثالث للتعامل مع الإساءة، هو الدفع بالتي هي أحسن، أي: الرد على الإساءة بحسنة.... وإذا ما تم ذلك بإخلاص، وكان من القلب، ولم يقم به المؤمن ليقول لمن أساء إليه وذلك بطريقة غير مباشرة.، ليقول له: "أنا خير منك، فها أنا ذا أرد على إساءتك بحسنة"، إنما يرد بالحسنة، ويدفع بالتي هي أحسن، بصدق، دون أن يهدف إلى الانتقام عن طريق التعالي الخلقي..... إنه بذلك الصدق والإخلاص في الدفع بالتي هي أحسن، ينجح في التأثير بمن أساء إليه، وفي تحويل عداوته إلى مودةٍ وولاءٍ.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ۚ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٌۭ كَأَنَّهُۥ وَلِىٌّ حَمِيمٌۭ (34) وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُوا۟ وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ (35)﴾ [فصلت: 34-35].
الانتقام يشفي النفس من الغيظ، ومما يمكن أن يسببه تراكم الغيظ من مشاعر مزعجة.
والعفو، والصفح، والمغفرة، تقوم بالشيء ذاته. إنها تطهر القلب، وتشفيه من الغيظ، ولا تدعه يتراكم ليصبح غلاً وحقداً.
قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَـٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّۭا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
وإن الثواب العظيم الذي يتوقعه المؤمن من الله تعالى على مغفرته لمن أساء إليه مؤمناً كان المسيء أو كافراً..... هذا الثواب، فيه خير تعويض عن المعاناة التي تسببت بها إساءة المسيء، بل هو الربح الكبير، ولن يخسر من يتاجر مع رب العالمين أبداً.
وعلينا أن نذكر دوماً أننا إن غفرنا لمن أساء إلينا فلن نخسر حقنا في التعويض عن الإساءة إنما نغفر مرضاة لله وهو يعوضنا من فضله ورحمته أكثر بكثير مما يمكننا الحصول عليه ممن أساء إلينا سواء في الدنيا أو الآخرة. ونحن لا نغفر حباً بالذي أساء إلينا إذ كيف نحب من آذانا ونفوسنا مفطورة على حب من يحسن إليها لا من يسيء إليها، إنما نغفر حباً لله ورغبة في ثوابه وبذلك نستطيع أن نفهم دعوة الله لنا أن نغفر حتى للكفار المعاندين الرافضين لهدايته سبحانه وتعالى ولا يمكن أن يدعونا للمغفرة لهم من أحلهم بل من أجلنا، لما للمغفرة من أثر رائع في النفس، قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ يَغْفِرُوا۟ لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْمًۢا بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ﴾ [الجاثية: 14]، والآية واضحة أن مغفرتنا لهم لا تعني أن الله لن يجزيهم على ما اكتسبوا وقد لا تنفعهم مغفرتنا لهم طالما أصروا على كفرهم، لكنها تريحنا من مشاعر الحقد عليهم وتجعلنا أقدر على دعوتهم لدين الحق دعوة من القلب علها تصل إلى قلوبهم الغافلة.
وقد دخل مفهوم المغفرة عمن أساء إلينا في العلاج النفسي الحديث لما للمغفرة عن الآخرين من فائدة نفسية علاجية تساعد النفس على تجاوز الأذى الذي أصابها على أيدي الآخرين، ولأن الحقد والرغبة في الانتقام تجعلنا نتوقف عند الإساءة نجترها وتتجدد معاناتنا منها كلما ذكرناها فتطول معاناتنا وقد لا تصل إلى نهاية لها لأن الانتقام الدنيوي ليس ميسوراً للجميع، وهكذا تكون المغفرة للمسيء وإحالة الأمر إلى الله مخرجاً مشرفاً للمظلوم الذي يتجاوز عن الإساءة لا لأنه ضعيف ذليل بل لأنه استجاب للغفور الرحيم فتخلق بأخلاقه سبحانه وتعالى وغفر كما يغفر، والمؤمن المتوكل على الله ليس ضعيفاً وكيف يكون ضعيفاً من يستطيع أن يرفع كفيه ويدعو العزيز القدير أن ينتقم له وهو يعلم أن الله تكفل أن ينصر دعوة المظلوم ولو بعد حين.