Articles
هل يجوز قتل العلوي لأنه علوي؟ - الطائفية والثورة في سورية
Whatsapp
Facebook Share

هل يجوز قتل العلوي لأنه علوي؟

الطائفية والثورة في سورية

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف

تمت كتابته في 19/01/2012م
وتم تنقيحه وإعادة نشره في 01/06/2013م


 

  1. التدخل العسكري
  2. يريدون تفتيتنا
  3. تقطيع أوصال بلا تخدير
  4. خطر الطائفية حقيقي
  5. النظام يستغل الطائفة
  6. لا دماء مهدورة
  7. الإكراه في الدين استثناء
  8. حماية من التلاعب
  9. سيادة فقدناها

 

1. التدخل العسكري

طالت المدة كما توقعت ولم يسقط النظام في سورية، ويوماً بعد يوم يزداد قلقي على بلدي الحبيب وأمتي الغالية، ويكبر خوفي من المستقبل. يوماً بعد يوم تتصعد في سورية لهجة طائفية مرعبة تنذر بما لا يسر ولا يرضي.

 

كثيرون يعتقدون أنه لا أمل للسوريين بالتغيير إلا بمعونة دولية أمريكية بالدرجة الأولى وهم في نفس الوقت يرون أن أمريكا ليست راغبة في التدخل العسكري في سورية لإسقاط النظام، فقد أصبح من الواضح للجميع أن النظام السوري رغم ممانعته الشكلية للمخططات الإسرائيلية والأمريكية ورغم تعاونه مع إيران تعاوناً مزعجاً للدول الغربية فإنه يبقى في نظرهم أفضل من مستقبل مجهول وغير مضمون بالنسبة لهم وبالتالي هم لا يمانعون في بقائه لكن مع إجراء بعض الإصلاحات التي تهدّئ خواطر السوريين وتعيد الاستقرار إلى المنطقة. لكني ما زلت لا أطمئن لنوايا أمريكا وإسرائيل نحو سورية، فهم لديهم مخطط استراتيجي يعتقدون أنه من خلاله يمكن أن تنعم إسرائيل بالأمان والرفاهية والسيطرة على المنطقة كلها لأجيال عديدة قادمة.

 

علينا الحذر، وألا نظن أنه عدو عدونا هو صديقنا في جميع الأحوال، فقد يكون عدو عدونا ألد أعدائنا، وقد يتعاون معنا ضد العدو المشترك لكنه يبقى عدونا يخطط للإيقاع بنا ويتحين الفرصة للانقضاض علينا، لذا، حتى لو كانت أمريكا معادية للنظام السوري فإنها أبداً لن تكون مخلصة للثورة والثوار إلا بمقدار ما يحقق ذلك لها مصالحها، وأمن إسرائيل على رأس تلك المصالح.

 

2. يريدون تفتيتنا

لذا إن تعذرت المحافظة على النظام السوري، أو إن حانت الفرصة المواتية، فإن أمريكا وإسرائيل سترجعان إلى خطتهما القديمة وهي تفتيت سورية ولبنان إلى خمس دول طائفية، وربما إلحاق أكراد سورية بكردستان العراق. الخطة تقضي بإقامة دولة علوية تضم الساحل السوري وطرابلس لبنان وحمص وحماة، وإقامة دولة مارونية في وسط لبنان، ودولة شيعية في جنوب لبنان ودولة درزية تمتد من السويداء إلى المناطق الدرزية في لبنان ويكون الجولان إن تحرر جزءاً منها، وتبقى دمشق وحلب لتتكون منهما دولة أو دولتان سنيتان.

 

هذا التفتيت سيجعل إسرائيل دولة عظمى بالنسبة لما يحيط بها من دويلات يراد لها أن تكون دويلات متناحرة تنشغل بالصراعات والحروب فيما بينها، وقد تمارس إسرائيل يومها دور الحَكَم والمُصْلِح بعد أن كانت هي العدو الغاصب. لا تحسبوا أنني واهم، فقد أنجزوا خطتهم في تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية وشيعية وسنية.. ولا يخدعنا بقاؤه متحداً ظاهرياً، فالكراهية ترسخت بين طوائفه ولم يبق غير إعلان الدويلات الثلاث، والعراق لن يكون بعد اليوم دولة قوية خطيرة على إسرائيل كما كان من قبل.

 

قد لا يبدو هنالك مؤشرات واضحة على سعي أمريكا وإسرائيل إلى تقسيم سورية ولبنان قريباً، لكن يجب ألا يخدعنا ذلك فهم ينضجون طعامهم على نار هادئة كما يظنون. العراق لم يبدأ تقسيمه مع الغزو الأمريكي عام 2003م، إنما بدأ منذ فرضوا مناطق الحظر الجوي فوق شماله وجنوبه عام 1991م، لتترسخ فكرة الدولة لدى كل من أجزائه الثلاثة.

 

3. تقطيع أوصال بلا تخدير

وقد يقول قائل وما الضرر من تشكيل أقاليم متعددة تتحد في دولة فيدرالية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي هي عبارة عن مجموعة دول متحدة فيدرالياً؟ نعم، لو كان التقسيم سيتم بالتراضي والتفاهم ودون ضحايا وعذابات وستبقى المودة بين الطوائف قائمة لقلنا لا ضير من ذلك كبيراً، وبخاصة أن الدولة المتحدة إندماجياً لم تحقق لنا شيئاً أمام إسرائيل. المشكلة هي في حرصهم على ملء نفوس طوائف السوريين بالحقد والعداء تجاه بعضهم بعضاً ليكون التقسيم حقيقياً، لا مجرد تقسيم إداري قد يفيد أكثر مما يضر.

 

حتى يتم التقسيم في العراق أفسحوا المجال للموالين لإيران من الشيعة وللزرقاوي وغيره من التكفيريين كي يقتلوا كل المودة والإخاء الذين كانا سائدين ما بين السنة والشيعة في العراق. يقال إنه كان في العراق قبل الغزو مليونان من الأسر مكونة من تزاوج سني شيعي، وهل مع التزاوج يكون هنالك طائفية؟ لقد أعطى الأمريكان إيران الفرصة لتعبث بالعراق كما تشاء لا عن ضعف منهم أو غباء، إنما هم جاؤوا لتقسيم العراق وتقسيم الشعب العراقي، وهذا الهدف مشترك مع إيران التي عانت من العراق ما عانت في حرب طويلة أرهقتها وبددت طاقاتها، ففي تقسيم العراق أمان لإيران، وفي إنشاء دولة شيعية في العراق ضمان لاستمرار النفوذ الإيراني في العراق إلى آجال لا يعلمها إلا الله.

 

إذن التقت العدوتان اللدودتان على أهداف مشتركة في العراق، فكانت الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، وكان القتل على الهوية من الطرفين، ومارسوا في حق بعضهما بعضاً أشد مما مارسه الصرب مع المسلمين في البوسنة. ومن لا يصدق ما عليه إلا أن يسأل بعض اللاجئين العراقيين في سورية ليسمع منهم حكايات لا تخطر بالبال من الفظائع والعنف الطائفي الذي وقع ومازال يقع في العراق. لم يكن العراقيون طائفيين، ولم يكن حكم صدام حكماً سنياً يهمش الشيعة، بل كان حكماً قومياً همش الأكراد مع أنهم عراقيون من آلاف السنين لمجرد أنهم ليسوا عرباً، وكان حكماً اعتمد على عشائر معينة يضمن ولاءها وهمش الباقين سنة كانوا أو شيعة، وقد كان الشيعة في حكومة صدام وفي جيشه يشكلون أكثر من النصف. نعم لم يكن العراقيون طائفيين لكن قلة آثمة منهم استطاعت أن تضرب الأسافين العميقة بين السنة والشيعة هناك، وأن تخلق في النفوس عداوات وأحقاداً لا يعلم مداها إلا الله، ولا يعرف العراقيون كيف ومتى سيتجاوزونها ليعودوا شعباً واحداً متآلفاً.

 

من أجل تقسيم سورية ولبنان ستدعم أمريكا بعض الحاقدين والموتورين من أبناء السنة ومن العلويين وغيرهم من الطوائف السورية لِتُدْخِلَ السوريين في حرب أهلية تطول السنين العديدة وتقضي على الأرواح الكثيرة بحيث يصبح التقسيم أمنية الجميع ووسيلة الخلاص الممكنة.

 

هذه ليست أوهام.. نحن نواجه أعداءً لا يرحمون، ومتى كان الصهاينة رحماء؟ إن الأمر بالنسبة لهم مسألة وجود، وهم لا يتورعون عن أي شيء يضمن لهم البقاء في أرضنا والتمتع بخيرات بلادنا. أمريكا يتنافس رؤساؤها في إرضاء اللوبي الموالي لإسرائيل هناك ولا مانع عند الكثيرين من سياسييها أن يكسبوا تأييد اليهود وأموالهم وأصواتهم على حسابنا نحن.

 

4. خطر الطائفية حقيقي

كثيرون من السوريين من أبناء الطوائف المختلفة متفائلون ويؤكدون أن النظام لن ينجح في خلق فتنة طائفية يكون فيها نجاته من السقوط، وأنا معهم أدعو الله أن يصدق ظنهم وتتحقق أمانيهم، لكن ما الضمان؟ لو نجح النظام في تحويل ثورتنا إلى فتنة طائفية سنية علوية فسيطول عمره وقد ينتصر على الثورة ويقضي عليها. إذ لو نشبت الفتنة الطائفية على أساس ديني هل سينضم أبناء باقي الطوائف السورية الأخرى إلى السنة أم إلى العلويين؟ لا أعتقد أن الجواب صعب علينا معرفته.

 

عندما تثار القضية دينية طائفية وتكفيرية وتخوينية، هل سيطمئن المسيحيون على مستقبلهم مع السنة الذين قد يسعون إلى دولة دينية على النمط الإيراني أو الطالباني؟ أم سيكون أمانهم مع النظام والطائفة العلوية التي لن تنشئ دولة إسلامية ولن تكون قادرة على اضطهادهم أو تهميشهم، لا عن طيب أخلاق، بل لأنها بحاجة إليهم للوقوف في وجه السنة؟

 

هل سيختلف موقف الدروز والإسماعيليين وغيرهم من الأقليات الدينية والكثير من السوريين الغير مؤمنين بالأديان الذين يعتبرون أنفسهم علمانيين أو يساريين، هل سيختلف عن موقف المسيحيين؟ لو كنت واحداً منهم لاخترت الوقوف مع نظام ضعيف مستعد أن يقدم لي الامتيازات والضمانات لأقف معه في معركة البقاء بينه وبين السنة.. هل سأكون مخطئاً حينها أم سأكون ذكياً ومدركاً لمصلحتي؟

 

لو تحولت الثورة إلى ثورة طائفية فسينقسم السوريون إلى جبهتين أولاهما السنة في مقابل جبهة متحدة من العلويين والدروز والمسيحيين والاسماعيليين واللادينيين وغيرهم. عندها سيكون عند النظام شبيحة من الطوائف كلها ولن يكون لديه أزمة رجال كما هو الحال الآن، وفي أحسن الأحوال سيقف كل أولئك على الحياد ويبقى السنة يصارعون النظام وحدهم مما يقلل فرصهم في الإطاحة به ومما يجعل الثمن من أرواح السوريين وأموالهم باهظاً جداً.. فالنظام لديه من الأسلحة الثقيلة والخفيفة ما يكفي وقتها لسحق الانتفاضة السنية، ولن يأتي أحد لإنقاذنا، بل سيأتون لتقسيمنا كما هو حلمهم الذي عندها سيصبح حلمنا نحن أيضاً.

 

إن أخطر غلطة وأثمن هدية يمكن للثوار أن يقدموها للنظام هي تحويل الثورة إلى نزاع طائفي، فالنظام منذ الأيام الأولى للثورة حاول جاهداُ أن يثيرها حرباً طائفية بين السنة والعلويين. لأن الحرب الطائفية ستجعل الطائفة العلوية لا بديل لديها عن الاستماتة في الدفاع عن النظام حيث وقتها يكون الدفاع عن النظام دفاعاً عن الطائفة ذاتها، بينما الآن ما يزال من الممكن أن تنقلب الطائفة كلها أو بعضها على النظام وتتبرأ منه، هذا إن لم تشارك في الثورة مشاركة فعلية. النظام يخشى أن تتخلى الطائفة العلوية عنه ويبذل كل وسعه لربط مصيرها بمصيره، وإن أي توجيه للأمور في سورية باتجاه طائفي يخدم النظام لأبعد الحدود.

 

قد يقول قائل دعها تنفجر طائفية، أليست النهاية ستكون لصالح السنة بحكم كثرتهم العددية والدعم المتوقع لهم من الخارج لأنهم سيقفون في وجه النفوذ الإيراني في المنطقة؟

 

إن كنا نريد تفتيت البلاد كما تحلم إسرائيل فهذا هو الطريق إلى ذلك. أما النظام فقد تعوَّد على الرئاسة والتَّسَيُّد على الناس، وهو إن عجز عن الاستمرار في السيطرة على جميع السوريين فسيكون البديل المفضل عنده البقاء في الحكم ولو على دويلة علوية تكون أقل من ربع سورية الحالية. حب الرئاسة شهوة بشرية ومن لم يستطع أن يشبعها بالترؤس على عشرين مليون فسيرضى بإشباعها بالترؤس على مليونين. عندها سيصبح النظام مجموعة من الأبطال الذين أنقذوا طائفتهم من الإبادة على أيدي السنة وأقاموا لها دولة مستقلة. إن كل من يتفوه بعبارة أو كلمة تثير الطائفية في سورية إنما هو يعين النظام ويعين إسرائيل وأمريكا على تفتيت سورية ولبنان دون أن يقصد ذلك ودون أن يشعر.

 

5. النظام يستغل الطائفة

المستفيدون من الطائفة العلوية قلة، أما البقية فيستغل النظام فقرهم وجهلهم ليتخذهم جنوداً له يموت منهم من يموت في سبيل حمايته. الجميع الآن يعرف أن الشبيحة يقاتلون مع النظام مقابل أجر يومي ألف وخمسمئة ليرة باليوم وألفان يوم الجمعة. لو كانت الطائفة غنية مرفهة لما استجاب للنظام كل هذا العدد من الرجال الذين يعرضون أنفسهم للخطر من أجل المال. العلويون بشر مثلنا وليسوا طائفة مهووسة بعقيدة دينية تريد أن تفرضها على الآخرين وتستبسل في سبيل ذلك. إنها الدوافع المعيشية هي التي تحرك الغالبية العظمى منهم، ولو اطمئنوا على مستقبلهم المعيشي من دون النظام لقل حماسهم للدفاع عنه كثيراً.

 

العلويون طائفة استمدت اسمها من عقيدة دينية خاصة لكنها في هذا العصر آخر ما تفكر فيه هو العقيدة الدينية، وعلينا أن نميز بين العلويين من حيث هم أبناء منطقة واحدة وعشائر معينة ومن حيث هم طائفة دينية ذات معتقدات معينة. وإن أي تحول في الثورة إلى الطائفية لا بد أن يلجأ إلى التحريض على أساس ديني ليضمن إقدام الشباب من الطرفين على الموت، ولا بد من أن يقوم على تكفير الطرف الآخر ثم استباحة دمه لمجرد أنه كافر.

 

النظام أقنع شبيحته أن الثوار عملاء لدول أجنبية وخونة ولذلك لا إثم في قتلهم أو تعذيبهم. الإنسان دائماً بحاجة إلى أن يجد المبرر الأخلاقي لأفعاله وبخاصة قتل الآخرين وتعذيبهم، وليس شبيحة العلويين استثناءً لهذه القاعدة.

 

6. لا دماء مهدورة

وهذا يقودنا إلى الكلام على استباحة دم الكافر التي ستجعل أبناء السنة يقتلون العلويين وغيرهم من أبناء الطوائف السورية الأخرى التي هي كافرة من منظورهم، يقتلونهم بضمير مرتاح وربما يتقربون إلى الله بقتلهم. كل الأديان والملل تسمي من لا يؤمن بها كافراً، لذا يجب ألا نتحسس من هذه الكلمة. أنا مسلم سني لكني بالنسبة إلى مسيحي أو درزي أو غير ذلك كافر. القضية نسبية وبالتالي كل من أنكر عقائدنا هو كافر بها مثلما نحن كافرون بعقائده. كلنا مؤمن بعقيدة وكافر بغيرها في الوقت ذاته، لكن السؤال هو هل يبيح الكفر لنا قتل الناس لمجرد أنهم كفار؟

 

سأجيب على هذا السؤال من منظور الإسلام السني لسببين، الأول أنني سني وهذا المجال الذي أظن أنني أفهم فيه، والثاني لأن السنة في سورية هم من يمكن أن يقود البلاد إلى الحرب الطائفية وليس بقية الطوائف. بالطبع النظام أيضاً يريدها طائفية.

 

الطوائف الأخرى ولأنها أقليات ليس من مصلحتها تفجير الحرب الطائفية في سورية، لكنها ستكون مضطرة إلى ذلك إن هي حوربت من منطلق طائفي، ولا لوم على أحد إن هو دافع عن نفسه. إذن السنة هم المرشحون في سورية لارتكاب أكبر غلطة وهي تحويل الثورة إلى حرب طائفية، لا لأنهم أشرار، إنما لأنهم هم من عانوا من الاستبداد والتهميش والإساءات على مدى أربعين عاماً من حكم آل الأسد، ولأنهم الأكثرية، والكثرة تغري الإنسان باللجوء إلى القوة، لأنه يتوقع أن تكون له الغلبة.

 

سؤالي هو لشباب السنة في سورية: هل إذا تحولت الثورة إلى حرب طائفية ستجدون مبرراً يبيح لكم قتل العلويين وغيرهم دون الشعور بالذنب والخطيئة؟

 

ستقولون هم كفار فهم يؤلهون علياً بن أبي طالب، وهذا شرك ورِدَّة، وستخرجون فتوى ابن تيمية رحمه الله فيهم وتسمعونا إياها. ابن تيمية هو شيخ الإسلام وعبقري من عباقرته، لكن ذلك لا يعني أنه لا يخطئ، ولا يعني أن كل ما قاله علينا الأخذ به دون نقاش. الإمام مالك رضي الله عنه ذات مرة قال: كل رجل يؤخذ من كلامه ويُرَدّ إلا صاحب هذا القبر وكان يشير إلى قبر محمد ﷺ. ستقولون دعنا من ابن تيمية وفتاواه، ألم يقل النبي ﷺ: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّ الإسْلَامِ، وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ.»؟ وسأجيبكم بلى قال ذلك، وهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم لا أشك في ثبوته، لكني أشك في فهم أغلب المسلمين بعد جيل الصحابة له.

 

الأصل في الإسلام أنه لا إكراه في الدين، فقد قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{256}﴾ [البقرة: 256].. والإسلام أول دين عالمي قدس حرية الاعتقاد الديني وحرم الإكراه في الدين، وإن كان ذلك لا يعفى الناس من تبعة اختياراتهم عندما يَقْدُمون على الله. قال تعالى مخاطباً محمداً ﷺ ومخاطباً لنا من بعده: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ{99}﴾ [يونس: 99]. لو شاء الله أن يُكْرِهَ كل البشر على الإيمان لآمنوا جميعهم، لكنه يريد منا الإيمان الذي يكون بمحض اختيارنا، حتى أنه جعل في الكون آيات تدل عليه، وأخفى نفسه، فلا نراه ولا نشعر بوجوده بشكل لا نستطيع معه إنكاره والكفر به، لذا استنكر أن يخطر ببال النبي أو غيره أن يكره الناس على الإيمان. هذه آية واضحة الدلالة على حرية الاعتقاد مع تحمل المسؤولية عن هذا الاعتقاد، لكِنْ في القرآن آيات أخرى قد يظن البعض أنها تناقض هذه الآية أو تنسخها، مثل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{5}﴾ [التوبة: 5]. فهذه الآية تدعو لقتال المشركين وقتلهم إلا إن هم آمنوا وتحولوا إلى الإسلام، وهذ الآية مع حديث أمرت أن أقاتل الناس، فهم منهما كثيرون، أن المشرك بالله لا حرمة في قتله طالما أنه مصر على شركه، وما علينا إلا أن نثبت أن العلويين أو غيرهم مشركون لنستبيح دماءهم.

 

النفس البشرية معصومة مؤمنة كانت أو كافرة، وحرية الاعتقاد حق لجميع البشر لا يجوز الاعتداء عليه ولو من أجل إدخالهم في دين الله الذي فيه نجاتهم من النار. هذا هو الأصل، لكن لضرورة ما كان هنالك استثناء لهذا الأصل. لم يكن بنوا إسرائيل أول أمة موحدة في التاريخ المعروف كما يظن كثيرون، بل كان العرب الذين اتبعوا إبراهيم وإسماعيل أول أمة موحدة لله كأمة لا مجرد أفراد مؤمنين، وبقي العرب ما شاء الله لهم أن يبقوا موحدين يعبدون الله على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لكن مع القرون أشركوا مع الله آلهة غيره لتكون لهم واسطة تقربهم من الله زلفاً وصاروا بذلك مشركين. ومحمد بعث فيهم بالدرجة الأولى ليعيدهم إلى التوحيد الإبراهيمي الذي انحرفوا عنه وليجعل منهم أساتذة البشرية في التوحيد ودعاتها إلى الله. لم يكن العرب أمة وثنية كما هو حال القبائل الوثنية في مجاهل أفريقيا أو أستراليا أو غيرهما. صحيح أنهم عبدوا الأصنام مثلهم لكنهم كانوا يعبدون الله الخالق الكبير ويعرفونه جيداً، إنما أشركوا معه غيره، بينما الوثنيون في الثقافات الأخرى يعبدون آلهتهم ولا يعرفون الله.

 

صحيح أن من يقول: إن لله ولد، هو مشرك، لكن كلمة المشركين في القرآن لا تعنيه أبداً، بل اليهود والمسيحيون اسمهم في القرآن أهل الكتاب وليسوا مشمولين بكلمة المشركين. والمشركون المذكورون في القرآن هم «الذين أشركوا» أي أشركوا بعد توحيد وليسوا الوثنيين الذين لم يعرفوا الله من قبل، لذلك علينا أن نفهم من كلمة المشركين أو الذين أشركوا كلما وردت في القرآن الكريم أنها تعني المشركين العرب الذين كانوا في زمان محمد ﷺ وبعث فيهم ليصحح لهم عقيدتهم التي انحرفت، ولا تعني مطلق المشركين في الأزمان والأصقاع الأخرى.

 

7. الإكراه في الدين استثناء

كان لا بد لحماية الإسلام ولحفظ الذكر من التحريف أن يكون للإسلام دولة قوية، لذا كان النبي ﷺ رسولاً ورئيس دولة، وكانت الغزوات والفتوحات. سيدنا عيسى عليه السلام جاء بالتوحيد في أمة موحدة، لكن بسبب ضعف أتباعه واضطهادهم، تمكن أعداؤه من تحريف تعاليمه وإدخال ما ليس منها فيها، ولو لم تقم للإسلام دولة قوية لما نجا من التحريف ولما بقي القرآن دون أن تتبدل فيه كلمة واحدة إلى يومنا هذا.

 

من أجل أن تقوم للإسلام دولة تحميه من التحريف كان لا بد من إكراه المشركين العرب الذين كانوا في زمن النبي ﷺ على دخول الإسلام، وعلى العودة إلى التوحيد الخالص الذي كان عليه أجدادهم قبل أن يشركوا مع الله آلهة أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. لقد تم استثناؤهم من مبدأ لا إكراه في الدين لضرورة لا سبيل لتجنبها إلا بتعريض الإسلام للتحريف والضياع، وكان ذلك محاباة من الله لهم حيث أكْرَهَهُم على الإسلام وقبله منهم رغم أنهم دخلوا فيه رغماً عنهم، إذ الأصل ألا يقبل الله من العمل الصالح إلا ما كان نابعاً من القلب وبحرية كاملة. كان العرب بذلك أمة محظوظة تماماً كما يكون الطفل المريض الذي يجبره أبواه على تناول الدواء النافع رغماً عنه محظوظاً.

 

قد يجادل البعض ويقول إن الرسول ﷺ قال: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّ الإسْلَامِ، وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ.» (رواه البُخاريُّ ومسلِمٌ). ولم يقل أُمِرْتُ أن أقاتل العرب، وبالتالي العبرة بعموم اللفظ، ولفظة الناس تعني البشرية كلها.

 

صحيح أن لفظة الناس يمكن أن تعني البشرية كلها، ولكنها لا تعني ذلك دائماً، فلو قلتَ تكلم الناس على فلان لأنه فعل كذا وكذا فأنت بالتأكيد لا تعني أن كل البشرية قد تكلمت عليه، وبُعَيْدَ معركة أحد، التي قتل فيها سبعون من المسلمين وجرح الكثيرون، جاء من يقول لهم إن المشركين قد تجمعوا يريدون العودة والانقضاض عليكم ليبيدوكم، فكان جوابهم أن قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ{174}﴾ [آل عمران: 173-174]. إن كلمة الناس في هذه الآية بالتأكيد لا تعني البشرية كلها، إنما تعني بعض الذين هم بالنسبة للنبي والصحابة "الناس" أي بعض قومهم العرب، فهم الذين جمعوا لهم يريدون القضاء عليهم.. لذا كان من أساليب الكلام العربي أن يقول الرسول ﷺ: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ...» إلى آخر الحديث، وهو يعني أن الله أمره أن يقاتل قومه العرب الذين أشركوا، وأن يكرههم على الإسلام لضرورة ما، دون أن يكون ذلك نسخاً أو إلغاء لمبدأ لا إكراه في الدين الذي قررته آية قرآنية. نعم لم تكن نفوس مشركي العرب بعد نزول سورة التوبة، معصومة، إلا بدخولهم الإسلام أو خروجهم من أرض العرب، فقد قال النبي ﷺ: «...أخرجوا المشركين من جزيرة العرب...»، وهو حديث متفق عليه.

 

لقد فهم الصحابة أمر النبي ﷺ وحاربوا مشركي العرب حتى أدخلوهم في الإسلام، ثم حاربوا من ارتد منهم بعد وفاة النبي ومن امتنع عن الزكاة، لكنهم أبداً لم يجبروا أحداً خارج المنطقة التي كانت تسمى جزيرة العرب على الإسلام، ولم يجبروا يهودياً ولا مسيحياً من العرب على الإسلام، بل كان لهم أن يأخذوا ضريبة من القادرين منهم إن تغلبوا عليهم ودخلوا بلادهم عنوة، وأصروا هم على دينهم، اسمها الجزية. كانت معروفة قبل الإسلام، ثم عندما فتح المسلمون بلاد المجوس والهندوس وغيرهم من الوثنيين وأشباه الوثنيين طبقوا عليهم حكم اليهود والنصارى، حيث لا إكراه في الدين، واكتفوا بفرض الجزية عليهم، وتركوهم أحراراً في عقائدهم وعباداتهم. أي لم يُبِحْ الصحابة ومن جاء بعدهم لأنفسهم قتل رجل واحد لأنه غير مسلم، إلا إن كان من المشركين العرب الذين كان لهم حكم خاص، ولم يُشْكِل الأمر على الصحابة كما أشكل على بعض الشباب المسلم في زماننا.

 

إنه باستثناء المشركين العرب زمن النبي ﷺ كل البشر نفوسهم معصومة لا يجوز الاعتداء عليها مهما كانت عقائدها ومذاهبها، ولا يجوز إكراهها على الإسلام مع أن في اعتناقه خير لها.

 

8. حماية من التلاعب

وقد يجادل مجادل فيقول: لكن النبي ﷺ قال من بدل دينه فاقتلوه، ألا يعني ذلك استحقاق من يرتد عن الاسلام أو ينحرف بحيث يخرج من الملة القتل؟

 

في البداية كان الاسلام ديناً ناشئاَ وكان لا بد من حمايته من المشككين الذين تظاهروا بالإسلام ليرتدوا عنه ويوهموا الناس أنهم ارتدوا عنه لأنهم لم يجدوا فيه خيراً، فيكون بذلك تنفير للناس عن الإسلام. قال تعالى عن بعض يهود المدينة زمن النبي: ﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{72}﴾ [آل عمران: 72]، الناس يتأثرون ببعضهم بعضاً، وقد بينت العلوم النفسية المعاصرة ذلك، وسبقها النبي ﷺ، عندما قال إنه لو آمن به من يهود المدينة عشرة، لآمن به كل يهود المدينة. وكلنا يذكر كيف أبطل أبو لهب تأثير الإنذار الذي وجهه النبي ﷺ لقومه، يوم أن أمره الله أن يصدع بما يؤمر وأن ينذر قومه وعشيرته الأقربين، فقال له أبو لهب أمام الحضور: «...تَبًّا لَكَ، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟...»، لذا كان لابد لحماية الناس من هذا المكر، الهادف إلى تشكيكهم وإبعادهم عن الإسلام، من أن يَسُنَّ النبي ﷺ قانوناً، يعاقب فيه بالقتل، من يرتد عن الإسلام في تلك الأيام الحرجة، حتى لا يدخل في الإسلام إلا الجادون المخلصون، ثم كان قتل من يرتد من العرب الذين تم استثناؤهم من مبدأ لا إكراه في الدين. وعلينا أن نفهم التشريعات في إطار ظروفها التاريخية لنعرف هل هي تشريعات أبدية عامة، أم هي تشريعات لضرورات معينة وفي أزمان معينة.

 

ويبقى موضوع مُهْدَر الدم الذي على أساسه يستبيح البعض قتل من يعتبره مرتداً أو مشركاً. صحيح أن النبي ﷺ أهدر دماء ستة من المشركين عندما فتح مكة، وأمر بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، لكن الذي يجب الانتباه له أن ذلك لم يكن منه ﷺ بمثابة فتوى دينية، إنما كان حكماً قضائياً، بوصفه ﷺ الحاكم الأعلى، وبوصف هؤلاء الستة رعايا تحت سلطته، بعد أن فتحت مكة وصارت جزءاً من دولة المسلمين. الجرائم التي استحق أولئك أن تهدر دماؤهم بسببها جرائم قديمة وسابقة على فتح مكة، ومع ذلك لم يصدر النبي ﷺ حكمه عليهم إلا عندما صاروا من رعايا دولته وضمن سلطته كحاكم لا كمشرع ومفتي، لذا يجب ألا يُهْدَرَ دم أحد إلا بحكم قضائي يستوفي شروط القضاء العادل النزيه، فمن المعروف لكل متفقه أن المسلم مأمور إن هو رأى مسلماً آخر يزني أن يستر عليه وأن ينصحه، لا أن يقتله، مع أن الحكم الذي عليه الفقهاء هو قتل الثيب الزاني. هؤلاء الفقهاء أنفسهم، لا يرون استحقاق الثيب الزاني للقتل بمجرد الزنا، بل لا بد له من المجاهرة والإقرار المتكرر، أو أن يرتكب الفاحشة أمام أربعة رجال يرون الفعل الجنسي بأعينهم، ثم يشهدون عليه أمام القاضي. الدم البشري محرم ولا يهدر بفتوى عالم أو طالب علم، إنما إهداره يعني حكماً بالإعدام لا يحق لأحد إصداره إلا القاضي المختص.

 

بعد هذه الملاحظات لا أجد عذراً لمن يقتل غيره بحجة الشرك أو الردة أو غير ذلك، وعلينا الحذر من التورط في الهرج وهو فوضى القتل وإزهاق الأرواح دون حق. وعلى من أراد الجهاد من الشباب أن يتقي الله فلا يرتكب الجرائم التي سيحاسبه الله عليها وهو يظن أنه إنما يجاهد في سبيل الله، وعلينا الحذر من أن تدفعنا مشاعر الكراهية والحقد والرغبة في الانتقام إلى أن نتبنى فتاوى تبيح لنا قتل الناس بسبب معتقدهم فإننا نستطيع أن نخدع أنفسنا لكننا لا نستطيع أبداً أن نخدع الله، وأول شيء يقضى فيه يوم القيامة الدماء، ولئن كان الأصل في شريعتنا في كل شيء الإباحة، إلاّ ما ثبت تحريمه، فإن الأصل في الدماء الحرمة إلاّ ما ثبت استحقاقه للقتل، ولابد من ثبوت ذلك ثبوتاً قوياً، وإلاّ فإنه حتى الحدود تُدْرأ بالشبهات، فتعطل، ولا تقام على شخص إن كان هنالك ذرة شك في أنه استحقها، رغم ما للحدود من أهمية وتعظيم، فكيف بقتل الناس عند الفتنة والفوضى؟

 

9. سيادة فقدناها

يحلم كثير من الشباب المسلم أن يعيش في دولة إسلامية، تكون أخلاق الناس فيها إسلامية، وقوانينها إسلامية، والسيادة فيها للمسلمين. ولا يمكننا أن نصادر أحلام الناس، فهم لهم الحق في أن يتمنوا ما يحبون وما يعتقدون أن فيه سعادتهم، لكن الذي على الشباب المسلم أن ينتبه له، هو أن الظروف حالياً مختلفة عن الظروف التي عاشها المسلمون إبان عزة الإسلام والمسلمين وتغلبهم على غيرهم من الشعوب، وفتحهم لبلدانهم، حيث صار كل ما في تلك البلاد المفتوحة غنيمة للمسلمين الفاتحين، وكان على أصحاب الأرض الأصليين الذين يزرعونها أن يدفعوا أجر تلك الأرض إلى خزينة الدولة الإسلامية، وكان يسمى الخَراج, في تلك الظروف فرض المسلمون المنتصرون على غيرهم شروطاً يرويها لنا التاريخ، كانت من منطلق الغلبة والانتصار على المغلوبين والمهزومين، مع أن المؤرخين المنصفين يشهدون أن التاريخ ما عرف فاتحين أرحم من العرب.

 

عندما نقرأ التاريخ والشروط التي فرضها المسلمون على غيرهم، نظن أن هذه الشروط أحكام لا يجوز مخالفتها، وبالتالي نحلم، وبكل نية طيبة، أن نعيد هذا التاريخ، ليعود دين الله هو الدين الظاهر على الدين كله، ونفرض على غير المسلمين في أوطاننا ما فرضه الفاتحون المسلمون قديماً، لكن هنالك في التاريخ موقف أقرب إلى موقفنا هذه الأيام، وهو عندما هاجر النبي ﷺ وصحابته من مكة إلى المدينة. يومها لم يدخلوا المدينة غزاة فاتحين منتصرين، بل استقبلهم أهل المدينة كمهاجرين يشاركونهم العيش في المدينة، ويجدون فيها الأمان الذي افتقدوه في مكة. يومها كان في المدينة كثير من أهلها الذين أسلموا إما إسلاماً مخلصاً وإما نفاقاً من الخشية، وكان فيها الكثيرون من أهلها الذين لم يدخلوا في دين الله وكانوا ما يزالون مشركين مثل باقي العرب في ذلك الزمان، وكان في المدينة ثلاث قبائل يهودية تعيش فيها من زمن بعيد، وانضم المسلمون المهاجرون إلى كل هؤلاء وتكونت دولة يرأسها النبي ﷺ. يومها كتب النبي ﷺ «وثيقة» اتفق فيها أهل المدينة بكافة أطيافهم وأديانهم على ما يمكن اعتباره، أول دستور مكتوب في التاريخ، ينظم حياتهم المشتركة ويبين حقوقهم وواجباتهم. لم يكن في وثيقة المدينة المنورة أية شروط فيها تمييز للمسلمين على غيرهم سواء كانوا من المهاجرين أو الأنصار، وتجلت في تلك الوثيقة مفاهيم العدالة والمساواة للجميع، أي ما نعبر عنه هذه الأيام بالمواطنة، حيث للجميع حقوق متساوية في البلاد.

 

واليوم بعد قرون من التخلف والهزيمة وجدنا أنفسنا في دول أكثرها كان نتيجة تقسيم المستعمرين لبلادنا، حتى أن البلاد العربية تتميز بالحدود المستقيمة المرسومة بالمسطرة لا التي تتبع تضاريس طبيعية متعرجة. في هذه الدول التي خلقها الاستعمار الأوربي وجدت طوائف وأديان وقوميات، لكن كانوا جميعاً مغلوبين بالتساوي أمام المستعمرين الأوربيين، ثم استقلت كثير من تلك البلاد استقلالاً منقوصاً وأحياناً كاملاً، ووجدت الطوائف والأعراق في سورية نفسها شريكة في دولة ليس لطائفة فيها السيادة على أخرى.

 

قد لا يعجبنا الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه بعد قرون من العزة والغلبة، لكن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً ولا يعطينا أي حق في التعدي على حق باقي السوريين في المواطنة الكاملة معنا كسوريين، لهم ما لنا وعليهم ما علينا. صحيح أن المستعمر الأوربي هو الذي رجح كفة بعض الطوائف وأفقد المسلمين السنة الوضع الممتاز الذي كان لهم على مدى قرون عديدة، وصحيح أن ذلك كان فيه نوع من الظلم للسنة، وربما لم يكن مشروعاً، لكن لا بد من احترام الوضع الجديد الذي نتج عنه. أُشَبِّه الأمر بزواج تم بالإكراه ومشكوك في صحته وشرعيته، أو زواج بين رجل وامرأة يكتشفان بعد سنين طويلة وإنجاب ذرية كثيرة أنهما أخ وأخته وزواجهما باطل، ومع ذلك تحترم حقوق أولادهما بالنسب والميراث، وتحترم كل الحقوق كما لو كان الزواج شرعياً تماماً. زواج بالإكراه، آثم من فرضه على امرأة مسكينة، لكن ما ينتج عنه من قرابات وحقوق وواجبات أمر واقع لا مجال لإنكاره. وهكذا علينا القبول بالوضع الجديد الذي يماثل وضع المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة، وأن نتقاسم الحياة بالعدل والمساواة مع باقي السوريين بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم.

 

سورية لكل السوريين، وستكون الدولة فيها دولة السوريين جميعهم، الذين، إن ارتضوا دون إكراه، أن يُحَكِّموا بعض القوانين الشرعية أو كلها، فهذا من حقهم، وإن رفض أكثرهم ذلك، وقع الإثم على الذين رفضوا، وبرأت ذمة الذين دعوا وطالبوا، ولن يلومهم الله. ولا يحق لبعض السوريين فرض وجهة نظرهم على الآخرين، إلا إن كانت فكرته أو رغبته مقبولة من الغالبية، بشرط ألا تناقض الدستور، الذي يضمن حقوق جميع السوريين، ويعتبرهم مواطنين متساوين، مثلما اعتبرت وثيقة المدينة أهلها مواطنين متساوين، رغم اختلاف معتقداتهم الدينية وأصولهم العرقية. ويجب ألا نحزن لهذا الوضع الجديد فالبشرية في عصر صارت فيه الأرض قرية واحدة، وتداخلت الشعوب والثقافات، ولم يبق هنالك دولة واحدة صافية عرقياً أو دينياً. وحتى إسرائيل التي تحلم بدولة يهودية عليها أن تقبل أن غير اليهود فيها لهم الحقوق ذاتها، ومواطنون تماماً، كما إن اليهود فيها مواطنون.

 

لن تنجح ثورتنا إلا إن كانت ثورة كل السوريين ومن أجل كل السوريين، وسيكون مصيرها الإخفاق والفشل إن هي تحولت إلى ثورة طائفية.

Comments

There are no comments yet


Your Comment
* Full Name
* Email Address
* Your Comment
* Captcha
 
 

Copyright 2017 ©. All Rights Reserved.