خدمة المرأة زوجها وأولادها
خدمة المرأة زوجها وأولادها
Whatsapp
Facebook Share

خدمة المرأة زوجها وأولادها

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

يحتدم جدل كبير حول خدمة المرأة زوجها وأولادها والعناية ببيتها بلا مقابل، أفرض عليها هو أم تطوع منها. إن كان ذلك مفروضاً من الله فلا حق لها بأي مقابل. أم إن كانت خدمتها بيتها وزوجها وأولادها تطوعاً منها، لها الحرية الكاملة أن لا تقوم به دون أن تعتبر ناشزاً يسقط حقها بنفقة زوجها عليها؟

 

ليس هنالك آية قطعية الدلالة ولا حديث صحيح، يفرض على المرأة أن تعمل في بيت الزوجية، وأن تخدم الزوج والأولاد... لكن بعض علماء الأمة كأنهم خشوا أن تتمرد الزوجات فلا يقمن بخدمة أزواجهن وأولادهن، ويطالبن بخادمة، أو أجر مالي، احتجوا بدلائل واهية على أن ذلك فرض على الزوجة... احتجوا بها، وهم العلماء والفقهاء الذين أثبت التاريخ تميزهم وعبقريتهم، احتجوا بها رغم أنها مما لا يقوم دليلاً قاطعاً على دعواهم أبداً.

 

احتجوا أن محمداً ، لما أتت إليه ابنته الحبيبة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، تسأله أن يعطيها من مال الأمة خادماً يعينها، فقد أضناها العمل اليومي في خدمة زوجها وأولادها والعناية ببيتها، بل ربما العناية بفرس زوجها أيضاً، لم يعطها ﷺ الخادم الذي تطلبه، بل علمهما هي وعلي كرم الله وجهه، التسبيح قبل النوم، وقسم العمل بين فاطمة وعلي رضي الله عنهما، بحيث يقتصر عملها على ما هو داخل بيتها، ويقوم الزوج بما هو خارج البيت. استنتجوا من أنه ﷺ لم يواجه علياً رضي الله عنه، ولم يذكّره صراحة، بأنه ليس فريضة على فاطمة رضي الله عنها أن تخدم زوجها وأولادها، وقالوا هذا دليل على أن الله فرض على المرأة خدمة البيت والزوج والأولاد، وليس على الزوج شيء من ذلك، علماً أن فاطمة لم تشتكِ علياً أنه يجبرها على عمل غير مفروض عليها، كانت راضية أن تقوم بالعمل لكن لو كان معها خادم يعينها فسيكون أحسن. لم يكن هنالك خلاف على تحديد من الذي تقع عليه مسؤولية الخدمة، وما كان النبي ﷺ ليذكر علياً أن فاطمة ليست ملزمة بالخدمة، وأنها متطوعة في ذلك، ليفسد علاقة التعاون بينهما، بإرجاعها إلى علاقة "حقي وحقك"، بل هي المودة والرحمة التي سمت فوق الحقوق المقررة بالشرع.

 

وبما أن هذا الدليل، لا يكفي لاستنتاج الحكم بفرض الخدمة على المرأة، فإن منهم من انزلق إلى تبرير لا يليق بعبقريته وفقهه الواسع، فاستند إلى قوله ﷺ عن الزوجات إنهن عوانٍ عند رجالهن، وفهموا هذا التشبيه فهماً حرفياً، وقالوا: الزوجة أسيرة عند زوجها، وشأن الأسير أن يخدم، وبالتالي، فإن خدمة الزوجة لعائلتها فريضة، تأثم إن هي قصرت فيها. الحديث ذاته، الذي يستندون عليه، بأن الزوجات أسيرات عند أزواجهن بكل معنى الكلمة، يفند دعواهم أن الخدمة واجبة عليها كما تجب الصلاة، حيث يقول فيه النبي ﷺ للرجال: إنه ليس لهم على زوجاتهم، إلا أن لا يمتنعن عن فراش الزوج، وأن لا يستقبلن في بيت الزوجية أحداً يكرهه الزوج، وأن لا يخرجن من البيت إلا بإذن الزوج... وكلمة "إلّا" تحصر الفروض الزوجية على المرأة بهذه الأشياء الثلاثة، وبالمقابل بيّن ﷺ ما فرضه الله على الزوج مقابل ذلك، وهو أن يطعمها ويكسوها.

 

كنت كثيراً ما أتفكر: إن كان عمل المرأة في بيتها فريضة عليها، وعليها أن تستجيب للرجل كلما أرادها للمعاشرة الجنسية، وأن تطيعه في كل شيء، ولا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تأذن لأحد لا يحبه الزوج أن يدخل بيته، كنت أتساءل ما الفارق بين واجبات الزوجة الحرة، وواجبات الأمة المملوكة، التي يشتريها الرجل من سوق النخاسة بماله، ويبيعها إن شاء، كأي أداة أو آلة، يشتريها لمنفعته. نعم لمالك المملوكة أي العبدة أو الجارية، الحق الحصري أن يضاجعها مضاجعة الزوج للزوجة، وأن تنجب له الأولاد إن شاء، وأن تطيعه في كل شيء، فتخدمه، وتخدم ضيفه، وتنظف بيته، وتصنع له طعامه، وتقوم بخدمة أولاده... بالله عليكم أليست الزوجة عند الفقهاء الذين يوجبون على الزوجة أن تخدم في بيتها، وأن تطيعه، وأن لا تمتنع عن فراشه، إنما هي عبدة مملوكة، إلا أنه، لا يحق للزوج أن يبيعها، أو أن يزوجها لغيره، كما يحق له بالنسبة للأمَة المملوكة؟

 

عندما يستثير النبي ﷺ مشاعر الرحمة في قلوب الأزواج، وهو يوصيهم بزوجاتهم خيراً، فليلفت أنظارهم إلى أن زوجاتهم عندهم، كما الأسيرات، لا يخرجن إلا بإذن الزوج، فإن ذلك واضح لكل ذي فهم، أن النبي ، لم يقصد أن الزوجة رقيقة مملوكة عند زوجها، إنما كان ذلك تشبيهاً كي يستوصي الزوج بزوجته، التي هي عنده كالأسير عند آسره، وهي الحرة الكريمة، ولا يخفى أسلوب استعطاف قلوب الأزواج على زوجاتهم هذا، على من يملك البداهة والمنطق العقلي السليم المشترك، بين البشر جميعهم.

 

ثم إن لجوء ابن القيم وابن تيمية وغيرهما إلى الاستدلال بكلمة عوان عندكم على وجوب خدمة الزوجة زوجها وأولادها، دون مقابل، إلا الطعام والكساء، لجوءهم لذلك، وهم أئمة بين الفقهاء، لهو دليل واضح، على عدم توفر دليل لديهم معتبر، يفرض على الزوجة خدمة عائلتها، وإلا لما هبطوا في مستوى استنباطهم الأحكام من النصوص إلى هذا المستوى. وفي فعلهم هذا، تقصير عن فهم مكانة المرأة عموماً، والزوجة خصوصاً، في الإسلام، التي بلغت، أن كانت امرأة، مستشاراً لنبي الله ، في موقف من أصعب المواقف التي مر بها، بل موقف لم يمر به من قبل على الإطلاق، وهو امتناع الصحابة، وهم جنوده، وهو قائدهم، عن تنفيذ أمره، فيشكو ذلك إلى زوجته أم سلمة رضي الله عنها، لتشير عليه برأيٍ حكيم، لم يتردد في الأخذ به على الفور. هل كانت أم سلمة عانية عند محمد ؟ لقد كانت أماً للمؤمنين جميعهم بنص القرآن الكريم، ومع ذلك، كان عليها أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، وأن لا تدخل بيته أحداً لا يريده أن يدخل. نعم كانت في هذا الالتزام بالبقاء في البيت ما لم يأذن لها زوجها، كانت كالعانية، أي كالأسيرة، لكنها لم تكن عانية، ولا أسيرة، لتنطبق عليها أحكام الرقيق والأسرى. لقد كانت زلة لعلماء كبار، قدموا للأمة أروع الكتابات والاجتهادات، وزلتهم هذه لا تنقص من تقديرنا لهم، رحمهم الله، كما أن عظم مكانتهم كفقهاء، لا تمنعنا أن نرى ونعلن، أنهم أخطأوا في استدلالهم الهزيل هذا.

 

بقي لدى فقهاء اجبار الزوجة على خدمة زوجها وأولادها بالمجان، استدلال آخر، هو زلة ثانية، لا يُلامون عليها، لأنها أشكلت على الكثيرين غيرهم، وهي وجوب معاملة الزوجة بمقتضى العرف والتقليد، واستخراج حكم شرعي من هذا العرف، فكان قوله سبحانه وتعالى ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ كافياً، لأن يفرضوا على الزوجة، خدمة زوجها وأولاده وبيتها، دون مقابل، لأن العرف المتبع، هو خدمة المرأة في بيتها، وطالما أمرنا الله أن نأمر بالعرف، ففقهاؤنا يأمروننا، أن نوجب على زوجاتنا العمل في خدمتنا، ونعتبر ذلك عليهن فريضة دينية.

 

هنا تصحيح الغلط، وتبيين الالتباس، يحتاج إلى البحث عن مكانة العرف في ديننا، وعن تحديد أي عُرْفٍ، أمرنا الله أن نأخذ به، وإليكم هذه الفقرات من كتابي تربية الطفل والمراهق: رؤية نفسية إسلامية.

 

العُرْف والشَّرْع

 

(العُرْف في اللغة العربية هو المعروف، وهو مفهوم أسيء فهمه كثيراً، حتى ظن البعض أن الله في كتابه الكريم أمرنا بما تعارف عليه الناس من عادات وتقاليد.. وذلك مستحيل على إطلاقه، لأن الله أوحى الإسلام إلى نبيه ﷺ ليُخْرِج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؛ وبما أن اتباع من يحرم الحلال أو من يُحِل الحرام عبادة لهذا الذي يحل ويحرم - وهو ما أخذه الله على النصارى أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله-، وحتى لا يقع الفقهاء في مثل هذا المنزلق، ميزوا بين عُرْفٍ صالحٍ، وعُرْفٍ فاسدٍ، حيث العرف الصالح هو ما وافق الدين، أو على الأقل لم يعارضه؛ بينما العرف الفاسد هو ما تعارض مع الحلال البيّن والحرام البيّن، وقالوا نتبع العرف الصالح ولا نتبع العرف الفاسد.

 

دين الله اكتمل، ونعمته، أي هدايته، تمت قبل وفاة النبي ، أما قال تعالى: ﴿... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا...﴾ [المائدة: 3]؟ والدين يعنىي ضمن ما يعنيه أحكام الحلال والحرام، أما النعمة التي كثيراً ما تأتي في القرآن وتعني الهداية، فهي تعني العقيدة، وبالتالي، لقد كَمُلَ الإسلام فقهاً وعقيدة قبل وفاته .

 

نُحِلّ الحلال البيّن، ونحرم الحرام البيّن، وما سكت عنه ربنا فمتروك لحكمتنا، التي بالفطرة تستسيغ مكارم الأخلاق، وتهدف إلى تحقيق المصلحة لنا ودفع المضرة عنا. أي نحن لسنا في حاجة إلى عوائد الناس وما صار يسمى عُرْفهم كي نستمد منها أي تحليل أو تحريم، بل نلجأ فيما سكت عنه ربنا إلى العلم والخبرة والمنطق السليم، لتحديد ما يجب علينا فعله أو تركه، لكن دون تحليل أو تحريم، إنما نفعل ما نفعه أكبر من ضُرِّه، ونتجنب ما ضُرُّه أكبر من نفعه، تماماً كما كانت الخمر عند نزول قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 219]، حيث لم تُحرَّم الخمر في هذه الآية، بل كانت دعوة للمؤمنين، كي يُعْمِلوا عقولهم وحكمتهم في قضية الخمر، حتى لو كانت في تلك المرحلة ماتزال مباحةً.

 

أرسلت الرسل لتعلم الناس الكتاب والحكمة.. الكتاب: أي (ما كتب الله على الناس من أحكام وعقائد ما كانوا ليصلوا إليها وحدهم دون الوحي)، والحكمة: أي (كل ما كان بإمكانهم من خلال العلم والخبرة والمنطق السليم أن يصلوا إليه وحدهم)، لكن ما كان ذلك ليتحقق إلا بعد الوقوع في أخطاء كثيرة، وعنت شديد، قبل أن يكتشفوا ذلك الأمر بأنفسهم. فالخمر مثلاً تجعل شاربها عِدائياً وأقلّ قدرةً على المودة والرحمة، وذلك على مستوى المشاعر، وقد تجعله على مستوى السلوك عدوانياً، يرتكب أفعال الاعتداء على الآخرين، من أي شكل أو طبيعة، وقد يعتدي على نفسه فيوردها المهالك، فأكثر من ينتحرون في المجتمعات الغربية، ينتحرون وهم تحت تأثير الكحول، الذي يعطيهم جرأة وتهوراً وعدائية، تجعل قتل أنفسهم أهون عليهم. كل هذا وصلت إليه البشرية بعد قرون وقرون من المعاناة بسبب الخمر، فقررت أن تحرّم الخمر على نفسها في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1919 ميلادي، لأنهم عرفوا أن ضُّرّها أكبر من نفعها، لكن ربّنا الرّحمن حرّم الخمر على البشرية في القرآن الكريم، موفراً عليها الآم والمعاناة التي ستتعرض لها، ريثما تكتشف بنفسها أضرار الخمر. هذا مثال يقرب الفكرة من الأفهام.

 

وقد حرّم الله الإبداع أو الابتداع في ما هو من الكتاب، فكانت كل بدعة ضلالة، وشجع على الإبداع أي الابتداع في ما هو من الحكمة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أداء صلاة التراويح في المسجد جماعة: "نِعْمَ البِدْعَةُ هِيَ".

 

العلماء ورثة الأنبياء، منهم من تخصص في علوم الدين، فورث مهمة الرسول ﷺ فيما هو من الكتاب، ومنهم من تخصص في علوم الدنيا، من اقتصاد وصحة وسياسة وغير ذلك، فورث مهمة الرسول ﷺ فيما هو من الحكمة.

 

قد نجد في عوائد الناس في بلد ما، ما هو حكيم ونافع ولا بأس في العمل به، لكن دون إدخاله في الدين، أي في الحلال والحرام. بهذا يكون العرف بالمعنى المعاصر مصدراً لأحكام الحكمة في حياتنا، لا مصدراً لأحكام الدين.

 

إن "العرف" الذي أمر به ربنا هو "المعروف" ذاته، لا بمعنى ما تعارف عليه الناس من قواعد للسلوك، بل هو المعروف الذي تعرفه الفِطَر السوية وترتاح إليه، ويشمل مكارم الأخلاق، وكل عمل صالح أو خَيّرٍ، والتوسط والاعتدال في الأمر، فلا إفراط ولا تفريط، بينما "المُنْكَر" في القرآن فهو "النُّكْر"، -مثلما إن المعروف هو العُرْف-، وهو كل قبيح من الأفعال تنكره الفطرة السوية وتستغربه وتنفر منه.

 

روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي ﷺ: "لا تحقِرَنَّ مِن المعروفِ شيئًا ولو أنْ تلقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ ويقول الشاعر مؤكداً المعنى الأصلي لكلمة عُرْف:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه          لا يذهب العُرْف بين الله والناس

 

لم يكن العرب في عصر النبي ﷺ وصحابته الكرام يفهمون أو يعبرون بكلمة "عُرْف" أو "معروف" عن عادات الناس وتقاليدهم وعن ما توافقوا عليه واعتبروه صواباً أو عيباً وعاراً ، إذ لم تكن هذه الكلمة تعني ذلك على الإطلاق، وهذا ما يؤكده خُلُوّ الحديث الشريف، بل حتى خُلوّ القرآن الكريم، من أية إشارة للعُرْف أو المعروف يوحي سياقها أن المقصود هي عادات الناس وتقاليدهم، ثم خُلُوّ معاجم اللغة العربية القديمة كلها، من أي تفسير لكلمة عُرْف أو معروف على أنها العوائد والتقاليد، بينما نجد ذلك في المعاجم المعاصرة فقط، نجد فيها أن العرف هو ما اعتاده الناس وتوافقوا عليه، فلسان العرب الذي خصص لجذر (ع ر ف) أكثر من ثلاثة آلاف كلمة، يخلو تماماً من أية إشارة إلى أن من معاني كلمة عُرْف أو معروف، ما اعتاده الناس وتوافقوا عليه.. كما بالمقابل لا نجد في المعاجم القديمة أية إشارة إلى أن "العادة" تعني العُرْف أو المعروف.

 

لقد تطور معنى كلمة "عُرْف" عند أجيال أتت بعد الصحابة، لا ندري عددها، وصارت كلمة عرف ومرادفتها كلمة معروف، تعنيان بين ما تعنيانه، ما تعارف عليه الناس، أي ما تَوَافقوا عليه واعتادوه؛ ونحن في عصرنا نجد صعوبة في الكلام على التقاليد في مجتمع ما، أو في مهنة ما، دون أن نستعمل كلمة عُرْف. تطور اللغات شيء طبيعي، لكن القرآن الكريم، حمى اللغة العربية، من أن يكون تطورها طمساً لماضيها، بحيث لا تفهم الأجيال المعاصرة كلام الأجيال التي سبقتهم بقرون عديدة كما هو حال لغات كثيرة حية.

 

ونكرر إن "العرف" الذي أمرنا الله تعالى أن نأمر به هو "المعروف". قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسير الآية ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾: (العُرف: المعروف، وقد أمر الله نبيه ، أن يأمر عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات)، إذن لم يأمرهم الله بالعرف الذي نتحدث عنه في هذا العصر، إنما أمر نبيه ﷺ أن يأمر الناس بالمعروف، واستخدم كلمة العرف بدلاً عنها لأنها مرادفة لها. وقال القرطبي في تفسيره للآية نفسها: (قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ أي بالمعروف).

 

فكل حرام بيّن منكر، وكل حلال بيّن معروف، والعرف مرادف للمعروف. أما العرف بمعنى العادات والتقاليد، وما تعارف عليه الناس فيما بينهم، فإنه مصطلح نشأ بعد النبي ، والقرآن يُفهم حسب اللّغة العربية التي كانت أثناء نزوله، أما ما جَدَّ من معانٍ واصطلاحات، فمن الخطأ تفسير القرآن بمقتضى دلالاتها ومعانيها.

 

وقد يقال إن الفقهاء المسلمين أعطوا العُرف مكانة عالية في التشريع الإسلامي، والبيت المشهور بهذا الخصوص الذي أورده ابن عابدين في رسالة (رفع الانتقاد) يقول:

والعُرْفُ في الشرع له اعتبارُ          لذا عليه الأمرُ قد يُدار

 

صحيح أن للعرف اعتباراً في الشرع، لكن على أنه مفيد في فهم النصوص، وفي فض النزاعات، وفي القضاء بين المتنازعين، وفي تحديد بعض ما لم يحدده الشرع، كمقدار نفقة المطلقة الحامل، وعدد أيام الحيض، وكذلك عند الفتوى للناس.

 

وأما أن يكون العرف مصدراً للقيم والأخلاق والأحكام، من تحليل، وتحريم، وتحسين، وتقبيح، فلم يقل به فقيه معتبر.. إذ التحليل والتحريم من حقوق رب العالمين، ولم يرد في الإسلام أبداً أن المجتمع من خلال عاداته وتقاليده وأعرافه، له أن يُحل حلالاً، أو أن يُحرم حراماً. إنما للعرف السائد بين الناس في بلد من البلاد، أو بين أصحاب مهنة معينة، فائدة عظيمة في تحديد المقصود بالنصوص، كالعقود بين المتبايعين، أو المتآجرين، أو المتزوجين، وذلك عند اختلاف أصحاب هذه العقود، ولجوئهم إلى القضاء ليحكم بينهم، عندها يُحَكَّم العرف في هذه العقود، فيفهم الغامض فيها بحسب العرف المتعارف عليه في ذلك المجتمع؛ لذا كان مما قاله الفقهاء:

  1. (العادة في عُرف الشرع: كالشرط).

  2. (التوابع التي لا تُشْتَرط عند العقد يعتبر العرف فيها، وبه يفصل عند المنازعة).

  3. (إنّ الحكم والفتيا: يعتمد فيهما على العرف ويختلفان باختلافه).

  4. (التعيين بالعرف كالتعيين بالنص).

  5. (اعتبار الوسع - أي: في النفقة - مبني على العادة).

  6. (العرف: شاهد لمدعيه).

  7. (كل ما لم يُحَد شرعاً: يُحال على العرف).

إلى غير ذلك من أقوال تؤكد أهمية المتعارف عليه بين الناس عند الفتيا، وعند فض النزاعات؛ إذ يستعان بالعرف لفهم مدلول عبارة أو كلمة في عقد بين متعاقدين اختلف على مدلولها، كأن يختلف المتعاقدان على المقصود بالجنيه في العقد، هل هو الجنيه المصري، أم الجنيه الاسترليني.... وعندما لا يكون نوع الجنيه مذكوراً في العقد، يلجأ القاضي إلى العُرف كي يفصل في القضية، وليحدد المقصود بالجنيه الذي ذكر في العقد دون تحديد نوعه. وكذلك عندما يُسْتفتى عالم، في يمين حلفه رجل، أو عبارة مبهمة، هل هي طلاق أم لا.... إلى غير ذلك، حيث يفتي العالم، مستعيناً بعُرف البلد.

 

وقد أورد أبو عجيلة في كتابه: (العرف) قول البهوتي: (ولا يجوز أن يفتي فيما يتعلق باللفظ كالطلاق، والعتاق، والأيمان، والأقارير، بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ، دون أن يعرف عُرْف أهلها والمتكلمين بها، بل يحملها على ما اعتادوه وعرفوه، وإن كان الذي اعتادوه مخالفاً لحقائقها اللغوية).

 

وخلاصة القول إن الاستدلال على حجية العرف بالمعنى المستجد، الذي يقصد به ما اعتاده الناس، أي عاداتهم، بالآية الكريمة "وأمر بالعرف" استدلال خاطىء، لأن العرف في القرآن والحديث هو المعروف، أي مكارم الأخلاق، والأعمال الخيّرة، وليس العرف الذي نقصد به عوائد الناس وما توافقوا عليه، لأن هذا المعنى لكلمة عرف، استجد بعد نزول القرآن، ولا يصح الاعتقاد أن الخالق كان وقتها يقصده؛ قال تعالى في الآية (4) من سورة إبراهيم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. القرآن نزل على محمد ﷺ ليبلغه لقومه بلغتهم، بل نزل بلهجات أخرى غير لهجة قريش التي كُتب بها القرآن، وذلك حتى يفهمه الذين نزل عليهم، ولا يمكنهم أن يفهموا في وقت نزوله، أنه يقصد بكلمة "عرف" ومرادفتها "معروف" عادات الناس وما توافقوا عليه من سلوك، وهو معنىً نشأ بعدهم.) انتهى الاقتباس.

 

يبقى الخوف لدى الكثيرين، من أن الزوجات إذا علمن أن خدمة الزوج والأولاد، وتنظيف البيت، وغير ذلك من عمل منزلي، ليست فريضة عليهن، فإنهن سيمتنعن عن القيام بذلك، وسيكون الأزواج في ورطة، فليس الجميع بقادر على أجر خادمة دائمة، ولا بقادر على أن يقوم بذلك كله بنفسه، نعم كان رسول الله ﷺ يكون في مهنة أهله، أي يساعد زوجاته في عملهن المنزلي، لكن لم تكن زوجاته قاعدات لا يعملن شيئاً، وهو يعمل.

 

إن هذا الخوف غير واقعي، إذ إن الله الذي فرض على الزوجات واجبات محدودة تجاه الأزواج، فرض على الأزواج حداً أدنى من طعام وكسوة، حيث يطعمها من أوسط ما يأكل، ويكسوها ثوباً في الصيف وثوباً في الشتاء، واختلف الفقهاء هل عليه كلفة مداواتها إن هي مرضت، أم هو واجب أبيها. من منا خطر بباله أن يقتصر ما يقدمه لزوجته على ما فرضه الله عليه وكفى؟

 

ربنا لم يفرض على الزوج أن يلبس زوجته فاخر الثياب، ولا أن يلبسها الذهب، ولا أن يسافر بها لتحج، أو تعتمر، أو تسوح وتتمتع، لم يفرض عليه أن يشتري لها ما تشتهي، من طعام أو ثياب، أو جهاز جوال ذكي، تتواصل به مع من تشاء، ويسدد هو الفواتير. هل تتوقعون أن الأزواج لو علموا أن ما فرضه الله عليهم محدود، وأن ما يقدمونه من زيادة، إنما هو تفضل وهدية، أنهم سيقتّرون على زوجاتهم؟ بالتأكيد لا، إلا من هو بطبعه شحيح مبتلىً بداء البخل وهم قليل. كذلك زوجاتنا، لن ترفضن خدمة الزوج والولد، إن هن علمن، أن ذلك تطوع منهن، وعلمن في الوقت ذاته، أن واجبات الزوج محدودة، وأقل بكثير مما تتمتع به أغلب الزوجات، وترى ذلك عادياً ومسلماً به. وتجربتي الشخصية أنني، كلما شكرت زوجتي على أي جهد تبذله في البيت، وشعرتُ أنها قد تفضلتْ عليّ بعملٍ ليست مكلفة به، وأشعرتها بذلك، زاد اهتمامها بالبيت والأولاد، وزاد اجتهادها ونشاطها، هذه تجربتي مع زوجتي الاثنتين.

 

إن إدراك الأزواج، أن خدمة زوجاتهم، وعملهن في بيوتهم، إنما هو تطوع منهن، يجعل الأزواج يقدرون جهد الزوجة، ويشعرون بالامتنان لها، فيكبر حبُها في قلب زوجها، وكذلك هي، ستحبه أكثر، لأنه يشكرها ويدعو لها كلما قامت بشيء. والزوجة التي تعلم أن حقها على زوجها أقل بكثير مما يقدمه لها، ستكون شاكرة ومقدرة لعطائه، الذي لم يقف عند الحد الأدنى. وبذلك تعمل الزوجة وهي من مطمئنة إلى أن زوجها سيرى عملها، ويثني عليها، وذلك يسعدها ويقوي الرغبة لديها في عمل المزيد.

 

ربنا ترك عمل الزوجة في بيتها وخدمتها زوجها وأولادها تطوعاً منها، ولم يفرضه عليها، لكن المرأة السوية دائماً تشعر أن بيتها هو مملكتها، فتحرص على نظافته، وبالفطرة أيضاً هي أمٌّ تحرص على حماية أطفالها وخدمتهم، وهي أنثى، إن أحبت، عبّرت عن حبها برعاية المحبوب وخدمته، وهكذا يكون حب الزوجة للزوج الشكور، الذي يقدر تعبها، ولا يعتبره فرضاً، عليها القيام به على أية حال.

 

الإنسان، كما الحيوان، مفطور على أن يرغب أكثر، في كل أمر يجلب له لذة حسية أو معنوية، فيزداد قيامه بهذا الفعل الذي جلب له المتعة، ونقول في علم النفس، إن المتعة المصاحبة أو المترتبة على قيامه بعمل ما، هي معززٌ إيجابي لهذا العمل، سواء كانت هذه المتعة حسية، تدغدغ حواسه، وتثير فيها الشعور باللذة، كما هي لذة الاتصال الجنسي بين حبيبين، ولذة الطعام الشهي للجائع، والماء والعصير المثلج للعطشان.. الخ. أما المتع المعنوية، فهي متع يشعر بها الدماغ مباشرة، دون مرورها عبر حواسه، إنها متع تحقيق المعاني، التي فطرنا الله على محبة تحقيقها في أنفسنا. وللشكر والتقدير والامتنان يمتعنا ويسعدنا، عندما يأتينا ممن قدمنا له أي معروف، كلمة طيبة، أو هدية، أو غيرها من صور الإحسان، إن مشاعر العرفان عند من قدمنا له خيراً، وتعبيره لنا عنها، يعزز سلوكنا، ويقوي رغبتنا اللاشعورية والشعورية، في أن نقدم له المزيد.

 

لن تتمرد نساؤنا إن اعترفنا لهن بفضلهن علينا، عندما يخدمننا ويخدمن أطفالنا أو ضيفنا، وأن ذلك كله عطاء لنا منهن، يستحققن عليه شكرنا وامتناننا ودعاءنا لهن أن يجزيهن الله خيراً، وأن يرضى عليهن، وبخاصة إن ترافق الشكر مع لمسة حانية، أو قبلة حارة، تشعرهن أننا نحبهن.

 

زوجاتنا ينجبن لنا الأولاد صبياناً وبنات، وعلينا معشر الآباء رزقهم من مأكل وملبس وخدمة ورعاية وطبابة، لكن الأم بحبها الفطري لمن خرج من أحشائها، وكان يوماً ما قطعة منها، تقوم عن أبيه بالكثير، فهي ترضعه وتنظفه وتحميه من كل ما يؤذيه، وترعاه حتى تراه يكبر أمامها سعيداً وسوياً، لو اعترفن لهن أننا نعلم أن ذلك عطاء منهن لنا، وتكرم منهن علينا، علماً أن كل ذلك من حق أطفالنا على آبائهم، وشكرنا لهن ذلك، فإنهن سيتفانين أكثر في أداء ما هو تطوع وليس فريضة عليهن، مع أنه مغروس في فطرتهن. من السهل تعزيز الكائن للقيام بما هو مفطور عليه، وهكذا حال الزوجات المحظوظات بأزواج شكورين.

 

عندما تقدم الزوجة الكثير لزوجها وأولادها تطوعاً وتكرماً، فإن شعور الزوج بالامتنان، يجعله يحبها أكثر، لأن أي حب بين اثنين، يقوم على الإعجاب والامتنان كما بينت في هذا الكتاب، كما تمتلىء نفسه رضاً عنها، فيراها أجمل، ويستمر إعجابه بها مهما طال الزواج، فتدوم الرومنسية التي يحس بها الزوج، والتي تتمناها كل زوجة حتى وهي في التسعين. قال الشافعي رحمه الله من جملة أشعاره الرائعة:

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ          وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا

 

ومن الوظائف التي يعتبرها أكثرنا واجباً على الزوجة لا تفضلاً منها إرضاعها لطفلها، مع أن القرآن الكريم أمر بصريح العبارة، أن يعطي الأب زوجه التي طلقها أجراً على إرضاع ابنها أو ابنتها منه، وإن تعذر الاتفاق على الأجر، فيمكنه استئجار امرأة أخرى ترضع له ولده. بعض من يخاف أن تكلف الزوجات أزواجهن أكثر مما يستطيعون قالوا: الأم تستحق الأجر على إرضاع وليدها إن كانت مطلقة، أما وهي في بيت الزوجية تأكل وتشرب فلا أجر لها على إرضاعها أولادها، وحصل اختلاف وتخبط بما يخص هذا الحكم الفقهي، حتى حسمه ابن قدامة رحمه الله بمنطقه السليم، الذي يوافقه عليه كل عاقل. إنه استند على آيات الله التي أوجبت للأم المطلقة حقاً في تقاضي أجرها من طليقها إن أرضعت ولده الذي هو ولدها في الوقت نفسه، وهذا شيء من الحلال البين الذي لم يختلف فيه فقيهان، ومن هذا الحكم الفقهي القاطع توصل اب قدامة إلى أن الأم تستحق الأجر من الأب إن هي أرضعت ولدهما وهي ماتزال زوجته. وكان تحليله للقضية كالتالي: ليست الرضاعة حقاً للزوج، لأنه لا يحق له أن يجبرها على إرضاع طفل غير ولدها، حتى لو كان الطفل ولده من زوجة أخرى، يبقى الاحتمال الثاني أن يكون الإرضاع حقاً للمولود، وهذا منقوض بالآيات الكريمة التي توجب على الأب إعطاء الأجر لمطلقته مقابل أن ترضع ولدهما، ولو كانت الرضاعة حقاً للطفل ما كان حقه ليسقط إن طلقها أبوه، وبالتالي كان على الأم المطلقة إرضاع طفلها دون مقابل، لأن ذلك حق للطفل، عليها أن تؤديه له في كل الأحوال... إذن ليست الرضاعة حقاً للزوج ولا حقاً للطفل، ويبقى الاحتمال الثالث وهو أن الإرضاع واللبن الذي في ثدييها، إنما هو حق وملك لها هي، لأنه ليس حقاً للزوج وليس حقاً للمولود.

 

نقول ونفصل كل هذا، كي يقدّر الأزواج ما تقدمه لهم زوجاتهم، ويشعروا بالامتنان لهن، ويعبروا لهن عن ذلك. فالزوجة لم يفرض عليها ربها إلا ما حدده الرسول ، عندما أوصى الرجال بالنساء في خطبته في حجة الوداع؛ وكل ما سوى ذلك، هو إحسان وفضل منها على زوجها، وتستحق الشكر والعرفان والإثابة من زوجها ولو بكلمة طيبة. بالمقابل حقوق المرأة المفروضة على الزوج لا تزيد عن إطعامها وكسوتها، وعليها هي أن تقدر لزوجها كل ما يقدمه لها مما هو ليس حقاً لها، يوجبه عقد الزواج، وعليها أن تعبر له، وأن تثيبه، وكل زوجة أعلم بما يسعد زوجها. الزواج في الإسلام لا يقوم على المشاححة، فالحقوق الأساسية المفروضة، تطبق عند الاختلاف، والتقاضي، أما والزوجان سعيدان بحياتهما الزوجية، فإن زواجهما يقوم على البر والعطاء، والتهادي المتقابل، يقوم على المودة والرحمة، حيث الحب، وحيث حرص كل منهما على إسعاد الآخر.

Copyright 2017 ©. All Rights Reserved.