أثر الحج في النفس المؤمنة
أثر الحج في النفس المؤمنة
1. من الآثار النفسية للحج
خلق الله الإنسان وجعله سميعاً بصيراً وبث فيه الشوق لمعرفة كل شي، فترى الإنسان يبحث عن تصور لكل حادث، أو مكان، أو إنسان، أو أمر سمع عنه، فإن لم يتيسر له التصور الصحيح ربما أبدع خياله التصورات، حتى لو كانت سخيفة وغير منطقية، لكن يظن أنها تسد جوعة عقله، فعندما جهل الناس كيف تحدث الزلازل قالوا: إن الأرض محمولة على قرن ثور عظيم، فإذا تعب من حملها نقلها إلى قرنه الثاني فتهتز وهو ينقلها.
أما الذي يتنزه عن التخيلات والظنون، فإنه لا يبتدع الأساطير ليريح عقله الباحث عن التصورات، بل يفضل أن يتحمل عبء الغموض، وأن يصبر عليه حتى يجعل الله له نوراً.
لكن ماذا إن سنحت لي الفرصة أن أرى ما آمنت به بالغيب رأي العين، فتطمئن نفسي عندما تتصور ما سمعت عنه؟ هل أفوّت الفرصة؟ بالطبع لا.
ومن قبل قال سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 260).
لقد آمن إبراهيم وصدّق أن الله يحيي الموتى، لكن عقله كان يبحث عن تصوّر لكيفية إحياء الله للموتى، وكان يسعى إلى الاطمئنان القلبي الذي ينجم عن المعاينة لما آمن به بالغيب، فالرؤية ما كانت ستزيده إيماناً إنما كانت ستبث الطمأنينة في قلبه، الذي سيستريح من عناء البحث عن تصور لعملية إحياء الله للموتى، فما كان قلب إبراهيم في شك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، إنما كان في شك في صحة ما يخطر بباله من تصورات لكيف يحيي الله الموتى، وقد كان محقاً في شكه هذا طالما أن عقله كان يفترض الكيفيات التي يتوقع أن يتم الإحياء بها افتراضاً، فكانت الرؤية مصدر (الاطمئنان الناجم عن التصور الصحيح).
وعموماً فإن ارتباط أمر من الأمور بصورة يراها المرء ويتذكرها، يرسخه في النفس رسوخاً شديداً ويضفي عليه مسحة واقعية مريحة للنفس؛ لهذا كانت وسائل الإيضاح المختلفة من مجسمات، ورسوم ونماذج، كانت ذات أهمية بالغة للعلوم كلها. ولعل هذا يعود إلى أن التفكير في أي شيء من خلال صورة له، أو أية وسيلة إيضاح أخرى أهون على عقولنا، وبخاصة أن كلاً منا قد مر بمرحلة عقلية، طوال سنوات حياته ما قبل الثانية عشرة، ما كان يدرك فيها الأفكار المجردة إلا قبيل نهاية تلك المرحلة، إنما كان لا يدرك من الأفكار إلا ما كان مجسداً في شيء من الأشياء يراه أمامه، أو يتخيله في عقله، أو مجسداً في فعل من الأفعال القابلة للإدراك بالحواس.
وبعد تلك المرحلة تتكون وبالتدريج القدرة على إدراك الأفكار المجردة، دون ضرورة لحصرها بمثال، أو تجسيدها في شيء من الأشياء، أو فعل من الأفعال.
والإنسان الذي خلقه الله أطواراً ينتقل من الأهون إلى الأصعب؛ لذا يبقى الأهون مرغوباً ومريحاً ومطمئناً للنفس، فالمثال يجعلك تفهم الفكرة أكثر، وصورة الشيء تجعلك تشعر أنك تعرفه أكثر، فقد دخل إلى عقلك من خلال حواسك. والتاريخ واحد من تلك العلوم التي ترسخ في العقول بوسائل الإيضاح، فرؤيتك لصورة مدينة من المدائن أو قصر من القصور للذين عاشوا قبل مئات السنين أو آلافها تجعل هذه الشخصية تنطبع في ذاكرتك انطباعا وثيقاً لا يعادله تكرار اسمها المرات الكثيرة؛ لأنه صار لهذا الملك أو ذاك القائد في ذهنك اسم وصورة مرتبطة بآثاره، وليس الاسم فحسب.
وكذلك لو سمعت عن ملك أو شعب عاش في عصر من العصور، وكنت واثقا بصدق من أخبرك لآمنت أن هذا الشعب أو ذلك الملك قد وجد ذات يوم حقاً، لكن إن كانت لهم آثار، وقدر لك أن تراها فسيتعمق إحساسك بواقعية هذا التاريخ الذي آمنت به وصدقت بالغيب، وستبعث رؤيتك للآثار قدراً من الحياة في صورة هذا التاريخ في ذهنك، لأنك صرت أقدر على تخيلهم، فهذه قصورهم، ودورهم، وأسواقهم، وتلك مرابضهم، ومقابرهم، إن رؤيتك لذلك كله تعمق ذاكرتك لهم وتقويها، لأنك قد أضفت إلى ذاكرتك مع أسمائهم أشياءهم التي رأيتها رأي العين، والإنسان يتذكر مما يرى، ويلمس، ويختبر بحواسه أكثر بكثير مما يقرأ عنه أو يسمع عنه.
إن القوة والحيوية التي اكتسبتها ذاكرتك لهم تجعلك تشعر أن أولئك الذين قرأت تاريخهم قد وُجدوا على هذه الأرض وجوداً كوجودنا، فتطمئن النفس برؤية آثارهم، لا لأننا ازددنا إيمانا بأنهم وجدوا، بل لأننا ازددنا معرفة وإدراكاً، وتصوراً لما آمنا به من قبل، أي: أننا تعلمنا ما آمنا به تعلماً أكمل من خلال اشتراك حواسنا في هذا التعلم، ومن خلال ما أضفناه إلى عقولنا من صور وأحاسيس ارتبطت بالمعلومات التي آمنا بها بالغيب، فالذي تعمق هو التعلم والتصور، وليس الإيمان والتصديق.
وهكذا شأن الحاج الذي يقطع المسافات كي يصل إلى مكة المكرمة، فإنه عندما يقع بصره على الكعبة المشرفة لأول مرة ثم يتأملها المرة بعد المرة وكأنه يريد أن يختزنها في عقله فلا ينساها أبداً، يمتلئ قلبه بذلك الاطمئنان الإبراهيمي الناجم عن التصور لما آمن به من قبل، وتساءل كثيراً كيف هو، فكم من مرة صلى واستقبل الكعبة متوجها إلى الكعبة المشرفة، أتراه شك في وجودها لحظة واحدة؟ أبداَ. لكن ما أحلاها طمأنينة تغمر القلب لمرآها!.
وعندما يطوف المؤمن بالكعبة يتذكر انه هنا طاف رسول الله ﷺ، وهذه الأرض المباركة التي تطؤها قدماه قد وطئتها قدما رسول الله ﷺ، وعندما يذهب الحاج للسعي فإنه يرى الصفا والمروة ويسعى بينهما حيث سعت هاجر، ويقف فوقهما حيث وقفت تنظر إلى البعيد تبحث عن الماء من أجل إسماعيل عليه السلام وهو طفل صغير ظامئ.
إن محمداً ﷺ وإبراهيم وإسماعيل وهاجر، وكل ذلك التاريخ المجيد يكتسب بعداً واقعياً جديداً في قلب المؤمن الذي طاف بالكعبة، التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وسعى بين الصفا والمروة، وشرب من زمزم ذلك الماء الذي شربت منه هاجر، وشرب منه إسماعيل وإبراهيم ومحمد ﷺ. إن نفس المؤمن تزداد اطمئناناً، وإن ذلك التاريخ المجيد يزداد رسوخاً في نفسه، فيشعر أنه يعرفه ويدركه معرفة أعمق، وإدراكاً أوضح من ذي قبل، وإن كان إيمانه وتصديقه به لم يتغير، فالجاحد الذي لم يؤمن بشيء ما لأنه لم يره، إن رآه قال: سكرت أبصارنا، لأنه لا يريد أن يؤمن ابتداءً، فحتى الرؤية لا تجبر الجاحد على الإيمان، إنما هو شيء آخر، وبعد جديد لما عرفناه وآمنا به من قبل، ذلك الذي يأتينا من الرؤية والعيان بعد الإيمان.
وكذلك يكون عندما يقف المؤمن في عرفة، وعندما يرجم بحصياته الصغيرة تلك المواقع التي ظهر فيها الشيطان لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يريد أن يثنيه عن طاعة الله، وكذلك أيضا يكون عندما يدخل المؤمن مسجد رسول الله ﷺ زائراً للمسجد الذي فيه كان يجلس النبي ﷺ مع أصحابه، مصلياً فيه حيث ﷺ وصلى أصحابه، ثم يقف أمام قبره الشريف مسلّماً، وأمام قبري اللذين كانا من بعده أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويرى الحجرة الشريفة حيث كان يسكن ﷺ مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وعندما يزور البقيع وأحُداً، وقباء وغيرها من الأماكن التي شهدت أحداث السيرة العظيمة، سيرة رسول الله ﷺ وسيرة صحابته الكرام.
إن أحداث هذه السيرة وتفصيلاتها تأخذ بُعداَ واقعياً آخر في قلب المؤمن عندما يشهد مواقعها، ويزداد حضورها في هذا القلب؛ إذ أصبح بعضها (ولو كان الأماكن) جزءاً مما خبرته حواسه، فرآها المؤمن بعينيه ولمسها بيديه، أي: صار بعضها بالنسبة له من عالم الشهادة بعد أن كان غيباً.
ولئن كانت رؤية هذه الآثار الطيبة تضفي المزيد من الحيوية والوضوح على صورة هذه السيرة العظيمة في أذهاننا، فإنها أيضا تنشئ رابطة عاطفية إضافية بيننا وبين الرسول ﷺ، وبيننا وبين صحابته الكرام رضوان الله عليهم. فنحن قد مشينا حيث مشوا، وقد وقعت أبصارنا على الأرض والجبال التي وقعت أبصارهم عليها، وقد شربنا من الماء الذي شربوا منه.. أما كان الصحابة رضوان الله عليهم يتخاطفون شعر رسول الله ﷺ إذا حلق أو قصر؟ أما حرصوا على أن يفوزوا بشيء من أشيائه في حياته وبعد أن لحق بالرفيق الأعلى ﷺ تبركاً، ولأنها أثر من الحبيب؟ وإن فاتنا أن نفوز بما فازوا به من آثار من الحبيب ﷺ فها نحن نطوف حيث طاف، ونسعى حيث سعى، ونشرب من حيث شرب.
وإذا تعذر على المسلم أن يزور تلك البقاع الطاهرة، وأن يؤدي فريضة الحج بنفسه، فلن يتعذر ذلك على أهل بلده كلهم، فإنه لا بد من أن يذهب من كل بلد وفد الرحمن، ويعودوا من حجهم بما فازوا به، يتحدثون إلى الأهل والأصحاب عما رأوا وعايشوا، فينتقل بعض تلك الطمأنينة إلى نفوس السامعين.
فكما أن رؤية شيء مما تركه الأقدمون تضفي على الشعور بتاريخهم بعداً جديداً من الواقعية، فإن رؤية من رأى تلك الآثار يضفي على شعورنا بوجود تلك الآثار بعداً جديداً مماثلاً يخفف من غيبيتها بالنسبة إلينا قليلاً، فكأنهم قد رأوها نيابة عنا، فتحقق بعض المراد وإن لم يتحقق كله، إذ ليس الخبر كالمعاينة.
وهذه الطمأنينة التي تأتي من أن بعضنا قد رأى تلك الأشياء التي آمنا بها بالغيب دون أن نراها، نشعر بها عندما نقرأ في القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة السلام قد رأى كيف يحيي الله الموتى؛ لأننا عندما نعلم علم اليقين أن واحداً منا نحن البشر هو إبراهيم قد رأى ذلك، يسري في قلوبنا شيء من تلك الطمأنينة التي نعم بها قلبه، إذ بهذا يكتسب الغيب مسحة من الشهادة. ولعل هذا ما أحس به الصحابة رضوان الله عليهم وما نحسّ به نحن عندما يحدثنا الرسول ﷺ عما رأى في إسرائه ومعراجه، فقد رأى السماوات، ورأى الأنبياء السابقين، ورأى الجنة، واطلع على المعذَّبين وهم يعذبون ورأى الكثير الكثير مما آمنا به بالغيب. ولن ندرك الأثر الذي تركته رؤيته ﷺلكل هذا في نفوسنا نحن، إلا لو تأملنا أنفسنا، وتخيلنا أنه ﷺ لم يُعرج به إلى السماء ولم ير ما رأى؛ إن تلك المسحة الملطفة من الشهادة التي تأتينا عن طريقه ﷺ ستختفي، وسيعود لتلك المغيبات طابعها الغيبي المطلق في أذهاننا.
إنه لم يكن في الإسراء والمعراج تطمين لقلب محمد ﷺ دون قلوبنا؛ ولم تكن رؤية إبراهيم عليه الصلاة والسلام للطيور الأربعة تبعث حية أمام ناظريه، تطميناً لقلبه دون قلوبنا؛ وليس الحج تطميناً لقلب الحاج دون قلوب أهله وأصحابه إذا رجع إليهم. ولكن شتان ما بين الاطمئنان يفوز به من رأى، والاطمئنان يناله الذي يرى من رأى!
2. الحكمة من مناسك الحج
في كل عام، ومع اقتراب ذي الحجة، تهفو أفئدة مؤمنة كثيرة إلى بيت الله الحرام، وتتوق للحج إليه.. إنها تحلم برؤية البيت العتيق، والطواف حوله، والصلاة عنده، وتشتاق إلى الصفا والمروة لتسعى بينهما كما سعت هاجر.
إنها تتوق إلى عرفة، وإلى مزدلفة، وتتمنى أن تمسك بالحصى، وترجم تلك المواقف التي ظهر فيها الشيطان لسيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- محاولا إخراجه من إسلامه، وانقياده لله تعالى.
ويبقى السؤال الذي يخطر في البال: ما الحكمة من تلك الفريضة التي تحتاج إلى المشقة البالغة، والمال الكثير لأدائها؟ فالمؤمن يعرف أنه لا بد هنالك من حكمة وراء أي تكليف يكلفنا الله به، وبالتأكيد هنالك حكمة من أن الحج محدد بمكان واحد معين يقصده الحجيج من كل مكان، وليست الحكمة محصورة في المناسك نفسها من طواف، وسعي، ووقوف في عرفة، أو رمي للجمرات، أو حلاقة للشعر، أو ذبح للهدي. ذلك أن كل هذه المناسك يمكن القيام بها في مكان إقامة المؤمن، مثلما تقام الصلاة في كل حي أو بلدة. وكنت فصلت القول حول الأثر النفسي لكون الحج محدداً في مكة المكرمة وعند أول بيت وضع للناس، وبين الصفا والمروة وعند زمزم والجمرات.
غياب الحكمة حكمة:
سؤال متكرر: ما الحكمة، وما السر في الطواف حول الكعبة بعكس عقارب الساعة سبعة أشواط؟ وما الأثر النفسي لهذا الطواف؟
وسؤال مثله عن السعي بين الصفا والمروة وعن تكبد المشقة للوقوف بعرفة في وقت محدد من العام، ثم الوقوف بمزدلفة وبعدها منى، ورمي الجمرات، وحلق الشعر، أو تقصيره.
وقد يقول قائل: إن الطواف حول الكعبة بعكس عقارب الساعة يشبه دوران الكواكب في أفلاكها، وإن السعي بين الصفا والمروة إعادة لما قامت به هاجر وهي تبحث عن الماء لرضيعها.. وإن رمي الجمرات تكرار لما فعله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وهذا كله صحيح، ولكن أين الحكمة في ذلك؟ الحكمة التي تقتضي الرحلة الطويلة، والمشقة العظيمة، التي يزيدها أن هذه المناسك يجب أن تؤدى في موسم معين من السنة مما يؤدي إلى التزاحم عليها؟ أليس من الواضح أن التشبه بدوران الكواكب في أفلاكها، وإعادة ما فعله إبراهيم وهاجر لا يستدعي تلك المشقة البالغة؟ أو لم يقل النبي ﷺ عن الحج: إنه جهاد المرأة والضعيف لما فيه من مشقة وجهد؟
يبدو أن الحكمة المقنعة غائبة هنا، ولكن قد يكون غيابها هو الحكمة بعينها.
عندما يتلقى الإنسان أمراً صادراً عن شخص آخر بفعل شيء ما، سواء كان هذا الشخص صاحب سلطة عليه أو لم يكن، فإنه ينفذ هذا الأمر الذي تلقاه مدفوعاً في أغلب الأحيان بأحد ثلاثة دوافع، أو بمزيج اثنين منها، أو أكثر.
الدافع الأول هو الخوف من عاقبة فورية للعصيان، ويكون التنفيذ خضوعاً للإكراه، والتهديد، والابتزاز، فإنك قد تنفذ أمر لصٍّ مسلح بأن تخرج محفظة نقودك، وتضعها في يده، وقد يتخلى طفل صغير عن لعبة تشبث بها، ويتركها لأخيه عندما يستشعر من نبرة صوت أمه أو أبيه قرب العقوبة.. وقد يغادر الإنسان أرضه وداره حفاظاً على حياته، أو عرضه أو دينه.. والخضوع للإكراه يختلف عن الطاعة.
أما الدافع الثاني الذي قد يقود المرء إلى تنفيذ ما صدر إليه من أوامر، فهو الاقتناع العقلي بهذا الأمر، ورؤية مصلحة له في القيام به، أو أن يكون القيام به يشبع رغبة نفسية لديه، ويرضي هواه. ويكون التنفيذ هنا ناتجا عن موافقة الأمر لهوى الإنسان أو قناعته، فهو طاعة للهوى القلبي، أو القناعة العقلية، أو كليهما، وليس طاعة لصاحب الأمر.
أما الدافع الثالث فهو الطاعة لصاحب الأمر، إذ ينفذ الإنسان الأمر الصادر إليه طاعة للذي أمره، وإرضاء له دون خوف من سيف مسلّط على رقبته، أو إيذاء متوقع عند الرفض، وينفذه بغض النظر عن قناعته بالأمر الذي صدر إليه، وبغض النظر عن موافقته لهواه أو معارضته له.. إنه يطيع مُسَلِّماً قياده للذي أمره، لا يقاوم الأمر، ولا يتذمر، ولا يجادل، ولا يتردد. وهذا ما فعله إبراهيم عليه السلام عندما تلقى أمر ربه أن يحمل زوجته الضعيفة هاجر مع ابنها الرضيع إسماعيل عليه السلام، تلك الزوجة الشابة الحبيبة، وذلك الابن الغالي الذي أتى بعد طول انتظار، يحملهما ليتركهما في وادٍ غير ذي زرع حيث لا مؤنس ولا معين.
لقد أطاع إبراهيم عليه السلام، وهو المسلم المثالي في طاعته لله تعالى، ولم ينتظر أن تتبين له الحكمة كي ينفذ أمر الله، على الرغم من أن الأمر كان مخالفاً لهوى قلبه المحب لزوجته وابنه، ومخالفاً لعقله الكبير الذي على الرغم من كبره لا يعلم الغيب.
والطاعة والإسلام لله تعالى كان خلق هاجر عندما تركها إبراهيم مع رضيعها في ذلك الوادي القاحل، واستدار قافلاً فسألته: لمن تتركنا؟ آلله أمرك بهذا؟ فلما قال: نعم، قالت: إذاً لن يضيعنا الله. إنها الطاعة لله والتوكل عليه..
وتمر السنون، ويكبر الرضيع، ويصير شابا وقرة عين لأبيه العجوز الكبير.. فيأتيه أمر جديد: أن يذبح ولده الحبيب بيده دون ذنب اقترفه.. إنه أمر يخالف هوى إبراهيم، ذلك الأب المحب الرحيم، ويخالف عقله وقناعته، إذ ما الحكمة التي يمكن لإبراهيم أن يراها في أن يذبح ابنه بيده؟
ولم يكن لدى إبراهيم قناعة أو هوى يوافق هذا الأمر، ولم يكن واقعاً تحت الإكراه والتهديد.. لكن المسلم المثالي هو الذي ينقاد لله ويطيع، هو ذلك العبد الحقيقي الذي لا يتمرد على خالقه، ولا يتذمر من أوامره، ولا يتردد في تنفيذها..
لم يضع إبراهيم وقتاً، بل نقل الأمر إلى ولده الحبيب ليشاركه طاعة الرب العظيم فقال:
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ...﴾ [الصافات: 102]. لم يكن إبراهيم مترددا ينتظر التشجيع، أو التثبيط من إسماعيل، إنما أراد أن يخيّر إسماعيل في أن ينصاع لأمر الله طاعةً واستسلاماً، أو يقوم إبراهيم بتنفيذ أمر الله، سواء تعاون إسماعيل أو قاوم، ولكن إسماعيل سليل الأب المسلم المثالي والأم المسلمة المثالية كان مسلماً حق الإسلام مثلهما، فقال: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102].
وفي الطريق إلى مكان الذبح يظهر الشيطان لإبراهيم محاولاً بعث روح التمرد والعصيان فيه، فيرميه إبراهيم ويرجمه بالحجارة عند تلك المواضع التي يرجمها الحجاج.
ويجتاز إبراهيم وإسماعيل اختبار الطاعة لله تعالى، ويفدي الله إسماعيل بذبح عظيم، فالله أرحم من أن يفجع والداً محباً مطيعاً لله مثل إبراهيم بولده وبيده، لكنه البلاء والاختبار.
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)﴾ [الصافات: 103 - 107].
أما نحن فإننا عندما نقطع المسافات الشاسعة، وننفق الأموال الطائلة، كي نذهب إلى هناك، ونعيد تمثيل أفعال إبراهيم، وهاجر، وإسماعيل التي تجسدت فيها طاعتهم المطلقة لله، طاعة مجردة عن القناعة العقلية، أو الهوى القلبي، إننا عندما نقوم بذلك نقوم بطاعة مماثلة لطاعة إبراهيم، وهاجر، وإسماعيل، إذ نتكبد المشاقّ، ونضحي بالمال من أجل أن نقوم بمناسك لا يرى فيها عقل الإنسان ما يبرر تلك المشقة، والنفقات، والتزاحم، نؤديها بحماسة واندفاع على الرغم من خفاء الحكمة فيها، وغيابها عنا.
فبغياب الحكمة المقنعة من تلك المناسك تتخلص طاعتنا لله في أدائها من أي شائبة تشوبها من طاعتنا لعقولنا أو قلوبنا، فليس فيها ما يشبع الفكر إقناعاً، أو يحرك الأهواء ويستفزها.
هناك حيث يتدافع الأمي مع العالم العبقري ليرمي كل منهما حصياته، وهناك حيث يسعى الرجال والنساء بين كتلتين صغيرتين من الصخر إحداهما الصفا والثانية المروة، ويكررون السعي سبع مرات.
إنها مناسك تتجسد فيها طاعة أسرة نموذجية من حيث إسلامها وانقيادها لله تعالى إسلاماً كاملاً جعلها قدوةً وأسوةً، نسافر إلى هناك من أجل أن نقلد ونحيي بعض أفعالها تقليداً ظاهره البساطة والبدائية، وجوهره الطاعة الحقيقية، على الرغم من الذكاء والثقافة والعلم الراسخ. لذلك يعود المؤمن الذي يحج الحج المبرور من حجه ونفسه أكثر انقياداً لله تعالى؛ وأكثر إسلاما واستسلاما له، فقد مارست الطاعة الحقيقية المطلقة الخالصة لله تعالى، مارستها مع الألوف المؤلفة من المسلمين، ورددت معهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). إنه إعلان الاستعداد الدائم للاستجابة الفورية لله تعالى دون تردد ولا تذمّر، ولا جدال (لبيك اللهم لبيك).
أليست الحكمة العظيمة كامنة في غياب الحكمة المقنعة من تلك المناسك المعظمة؟! ﴿ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
ترسيخ الهوية الإسلامية:
عندما يصل الإنسان إلى البلوغ العقلي الذي يتزامن في الحالة الطبيعية مع البلوغ الجنسي، يشتد ميله إلى الفردية والاستقلالية، ويأنف من تبعيته السابقة للكبار فيأخذ في المحاولة كي يشق طريقه في الحياة بشكل مستقل وبطريقته الخاصة. في هذه المرحلة تتحدد ملامح الهوية التي يرتضيها لنفسه، وذلك إما نتيجة بحث شخصي ومحاولات يقوم بها المراهق يتشبّه فيها كل مرة بشخص قد أُعجب به، فيقلده في لباسه، أو طريقة كلامه أو نشاطاته حتى يتوصل إلى الصفات والأهداف الحياتية، والمهنة، والآراء، والاتجاهات التي يرضاها لنفسه، ويعتبرها خاصة به يعيش بها ولها.
والذي يعنيه علماء النفس بالهوية هو: جواب الإنسان على سؤاله لنفسه: (من أنا؟ وماذا أريد أن أكون، وأن أحقق في حياتي؟). إن هوية الإنسان تشتمل على مشروع حياته بكل جوانبه كما يحدده هو، أو كما يحدده له المجتمع متمثلاً بوالديه، ومدرّسيه، وباقي مصادر السلطة في المجتمع، ويقبل هو بهذا المشروع، ويحدد هويته على أساسه.
والهوية كما ذكرت تتضمن جواب الإنسان على سؤاله): من أنا ؟)، وعلى سؤاله: (إلى أين أنا ذاهب في هذه الحياة؟)، وهناك في الحج تتأكد صفة الإسلام كوصف أساسي للمسلم، فلو سأل: من أنا؟ لأسرع الجواب إلى ذهنه مبتدئاً بأنا مسلم.. فالحاج يعيش أياماً عدة مع الآلاف الكثيرة من المسلمين الذين أتوا من كل بلاد العالم، لا يجمعهم هنالك رابط أقوى من إسلامهم وإيمانهم بربٍ واحدٍ، وكتابٍ واحدٍ، ونبيٍ واحدٍ.
ومع أن إحساس الإنسان بتميزه القومي أو الوطني أو العرقي أو اللوني كمقوّم هام من مقوّمات هويته يشتد إن وجد في بيئة غريبة، في بلد غير بلده، وبين أناس من غير قوميته، فإنه في الحج الذي يأتي فيه المسلمون من كل قطر ولون وعرق ولغة توحدهم ملابس الإحرام، وهتافات: (لبيك اللهم لبيك)، هنالك في الحج يضعف إحساس المسلم بكل جوانب هويته التي تميزه عن باقي المسلمين من الشعوب الأخرى أو الأعراق والألوان المختلفة، ويبرز جانب الإسلامية والعبودية الموحدة لله تعالى الطائعة لأوامره، الملبية لندائه، وبذلك تترسخ الصبغة الإسلامية لهوية الحاج، ويتعمق شعوره بالإسلام لله تعالى كمميز له عن البشر الذين تمنعوا عن الانقياد لمولاهم، أو تمردوا عليه وحاربوه.
ولعل هذا أهم أثر نفسي لكون الحج مؤتمراً عاماً سنوياً للمسلمين، إنه مؤتمر، ومخيم، ودورة، وأكثر من ذلك (1).
--------------------
هامش: (1) يرجع الفضل في بحثي لأثر الحج في الهوية الإسلامية للحاج أخي الدكتور عبد الرحيم حسين هويدي المعالج النفسي بمستشفى أبو ظبي المركزي، إذ لفت نظري إلى هذا الأثر، وشجعني على الكتابة عنه، فجزاه الله خيراً، ونفع المسلمين بعلمه الغزير.
مغفرة شاملة، وعافية نفسية:
قال ﷺ: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (متفق عليه).
وقال أيضاً: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (متفق عليه).
لقد جعل الله في النفس الإنسانية القدرة على إدراك أخطائها، ومحاسبة ذاتها، فيكون شعورها بذنبها، ولومها لنفسها حافزاً لها، لتتوب، وتصلح ما أفسدت، وتعوّض الآخرين عن إساءتها إليهم.
ولوم النفس يدل على الخير في هذه النفس التي تحاسب ذاتها، وتعترف بخطيئتها. أما النفس الظالمة المكابرة المتبعة لهواها، فقلما تلوم نفسها، إنما هي دائما تتعامى عن أخطائها وعيوبها وتضع اللوم على الآخرين، وتحمّلهم مسؤولية ما أصابها، وما أصابهم على يدها.
فعندما عصى آدم وزوجه ربهما وأكلا من الشجرة التي نهاهما عنها قالا: ﴿...رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23]، أما عندما عصى إبليس ربه ورفض السجود لآدم فإنه اتهم الله أنه أغواه، ورفض إبليس أن يرى خطيئته، بل أنكر مسؤوليته عما فعل، فقال: ﴿...رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)﴾ [الحجر:39 - 40] وقال: ﴿...فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16 - 17].
ولأن النفس اللوامة تصدر عن موقف إيماني لا يبطر الحق، ولا يغمط الناس، ولا يستعلي على رب العالمين، موقف من طبعه الإقرار بالحق، لا الكذب على النفس وعلى الغير؛ لأن النفس اللوامة تصدر عن مثل هذا الموقف، فقد أظهر المولى تقديره لها عندما أقسم بها فقال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)﴾ [القيامة: 1 - 2].
لكن لوم النفس إن زاد عن حده تحول إلى مرض نفسي يشل الإنسان ويثبطه ويصبغ حياته بالكآبة والحزن والقلق وعدم الطمأنينة، فالذي يغلبه الشعور بالذنب يعيش خائفاً من أن يعاقبه الله في الدنيا والآخرة، ويزداد خوفه من أن يداهمه الموت قبل أن يتحرر من خطاياه، وبذلك يصبح قلقاً، ويكره نفسه لما تسببت به من معاصٍ بحق الخالق وإساءاتٍ بحق الناس فيكتئب.
وعلى الرغم من أن باب التوبة مفتوح دائماً، وعلى الرغم من أن الله قال في الحديث القدسي: "فاستغفروني أغفر لكم" فإن الكثير من النفوس المؤمنة ذات الضمائر الحية يبقى فيها قدر من الشعور بالذنب ولوم النفس، بانتظار طاعة كبرى كالحج، طاعة مجسدة، فيها المشقة والبذل، كي تحس تلك النفوس المتحرجة بأنها قد عوضت عما أخطأت بحق مولاها، فتطمئن إلى أنها رجعت من حجها كيوم ولدت نقية من الخطايا، قد غفر لها، وفتحت لها صفحة جديدة، فيكون في إحساسها ذاك راحة لها، وتحرر من الشعور بالذنب، ولوم النفس، وبالتالي شفاء من القلق والاكتئاب الناتجين عنهما، وهكذا يعود المؤمن من حجه المبرور أكثر عافية نفسية، تملؤه السكينة والطمأنينة، مندفعاً بحماسة ليخطّ في صفحته الجديدة كل فعل خير يرضي الله تعالى.
فالحمد لله الذي شرع لنا الحج، وجعل لنا عليه الأجر العظيم.
3. المزيد من الآثار النفسية للحج
إنّ للحج من الآثار النفسية الرائعة في نفس المؤمن ما يبرر ما ينفقه فيه من مال كثير، وما يبذله في أدائه من جهد كبير. ولعل في المشقة والنفقة الكبيرة التي يتطلبها الحج حكمة، إذ إن عدم تيسّر الحج لكل من شاء متى شاء، بالإضافة إلى كونه الركن الخامس من أركان الإسلام، كل ذلك يجعل أداء الحج إنجازاً هاماً في حياة المؤمن.
والإنجاز مطلب نفسي هام في حياة الإنسان، إذ عندما يتساءل إنسان عن معنى حياته، فإن أول مرتبة في مراتب المعنى في الحياة أن تكون حياة مليئة بالإنجازات، لأن ما يحققه الإنسان من إنجازات يجعل حياته ذات معنى، لا حياة ضائعة فارغة، فالإنجاز في الحياة يحمي النفس الإنسانية من القلق العميق؛ الذي يمكن أن يثيره فيها الظن أن الحياة كانت بلا معنى، والشعور باللامعنى في حياة الإنسان يسلبه السعادة، وقد يدفعه إلى البحث عن معنى زائفٍ في مجرد اللهو والمتعة، أو في غير ذلك من إنجازات قد لا تكون بريئة، بل قد تكون فاسدة مدمرة.
فلئن كان للإنجازات البشرية الدنيوية الأثر الكبير في إضفاء المعنى على الوجود الإنساني، وفي ملء النفس البشرية بالطمأنينة والسكينة والرضاء، وهي تستعرض إنجازاتها فيما مضى من عمرها، فإنّ الحج يحقق للمؤمن سكينة أعظم؛ إذ هو إنجاز باقٍ، ثوابه الجنة والمغفرة، وارتفاع المنزلة.
ومن ناحية أخرى فإن المؤمن الذي يحقق إنجازاً كبيراً في حياته كالحج يحسّ بالرضا عن نفسه، فيحبها أكثر، على عكس ما يحس به من سخطٍ عليها وكراهيةٍ لها إن وقعت في معصية كبيرة، تجعله يحس بالخزي أمام نفسه، وأمام الناس ويستحي من الله، ويندم على ما فعل.
وإن هذا الرضا عن النفس يزيدها عافية وتوازناً ويحميها من الأمراض النفسية وعيوب الشخصية، بينما السخط عليها وكراهيتها أو ازدراؤها يوقعها في الاكتئاب والقلق، وربما الإدمان وغير ذلك من الاضطرابات النفسية والسلوكية.
والحج كإنجاز في حياة المؤمن وما يرافقه ويتلوه من الرضا لدى المؤمن عن نفسه، يجعله ينظر إلى نفسه نظرة تقدير واحترام، فيراها نفساً صالحةً، وتكون في نظره جديرة بالتقدير والتوقير لصلاحها وتقواها، وهذا يُحسًن لدى المؤمن ما يسميه علماء النفس 'قدر الذات Self- Esteem'.
وقدر الذات أو احترام الذات لابد منه للتوازن والاستقرار النفسي حيث يقلل القلق لدى الإنسان، فالإنسان عموماً يزداد قلقه كلما نظر إلى نفسه فوجدها بعيدة عن الصورة المثالية التي يتمناها لها.
والحج وكل عمل صالح يجعل واقع النفس المؤمنة أقرب إلى الصورة المثالية التي يحلم المؤمن ويتمنى الوصول إليها، وبذلك يقلل العمل الصالح- عموماً والحج خاصةً - من القلق عند المؤمن؛ إذ يملأ نفسه بالرضا عن نفسه، والتوقير والاحترام لها.
وللحج اثر كبير في ترسيخ التقوى في النفس المؤمنة، فالحج التزام Commitment والمؤمن الذي يحج ويتكلف المشقة والمال والوقت يقطع على نفسه خط الرجعة، الذي ربما كان يحتفظ به قبل الحج، حيث كان يحتفظ بمساحة يعطي نفسه فيها بعض أهوائها المحرمة، فتراه ملتزماً بدينه، إنما قد يتراجع بين الحين والآخر استجابة لشهوة، أو لضغط اجتماعي يقع عليه، لكن عندما يحج فإنه يكون قد قرر أنه سيلتزم بدينه التزاماً جيداً، وأنه سيتقي الله ما استطاع، والحج يأتي بمثابة تجسيد لهذا الالتزام، فيكون بمثابة ميثاق وعهد يقطعه المؤمن على نفسه أنه لن يعصي الله بعده.
ومما يزيد دافعية المؤمن للتقوى والالتزام الكامل بعد الحج أن الحج يبيّض صفحة المؤمن فالذي يحج فلا يرفث، ولا يفسق يعود كما ولدته أمه نقياً من ذنوبه.. وبياض الصفحة يدعو المؤمن إلى الحفاظ عليها بيضاء نقية، أما امتلاؤها بالمعاصي فيشجع على المزيد من المعاصي؛ لأن من يلبس ثوباً متّسخاً لن يجد مانعاً من الجلوس على أرض وسخة، أو من أن يمسح بقايا طعام أكله بثوبه، فثوبه متّسخ، ولا يبدو له في إضافة المزيد من الأوساخ مشكلة، أما صاحب الثوب الأبيض النقي فإنه يحرص على بياضه ونقائه من أن يتلوّث بشيء، فتراه يتجنب كل ما يمكن أن يدنّس هذا الثوب أو أن يلطخه، وكذلك المؤمن العائد من حجه بالمغفرة الشاملة تزداد الدافعية النفسية لديه للحفاظ على صحيفته بيضاء تزينها الطاعات وتغيب منها المعاصي والخطايا.
وإنّ من طبيعة الإنسان أن نجاحه يقوده إلى المزيد من النجاح، إذ يشجّعه نجاحه الأول على المزيد، وقد لمس حلاوة النجاح، كما يكسبه نجاحه الأول ثقة بإمكاناته وقدرته على المزيد من النجاح، فتزداد همّته للسعي إلى نجاحات أخرى.
ونجاح المؤمن في أداء هذه الطاعة الكبيرة المتمثلة في فريضة الحج، يشجعه على المزيد من الطاعات، ويهوّن عليه الطاعة، إذ قد تمرّس فيها، وجرّبها في أشد أشكالها وضوحاً، وتجسيداً.
والحمد لله رب العالمين.