Articles
المواطنة والعلاقة بغير المسلمين
Whatsapp
Facebook Share

المواطنة والعلاقة بغير المسلمين

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف

الفصل الخامس من كتاب «الميزان: تجديد نظرية الإسلام السياسية»


 

  1. طور العزة والغلبة
  2. الجزية من قبل الإسلام
  3. تصحيح التصورات
  4. وهم صاغرون
  5. نهاية الغلبة
  6. أزمة ثقة
  7. الشروط العمرية
  8. خوف مبرر
  9. وضع جديد وأحكام جديدة
  10. من سياسة إلى دين
  11. المواطنة والانتماء عند المسلم
  12. أمة متحابة متماسكة رغم الاختلاف
  13. الحب غير الولاء
  14. المودة مع الكافر
  15. السلام على الكافر
  16. مواطنون لا ذميون

 

 

1. طور العزة والغلبة

من الإشكاليات الكبرى التي تواجه الإسلاميين مفهومهم للمواطنة، وطبيعة علاقتهم بغير المسلمين أو العلمانيين أو المخالفين في المذهب، فيما لو قامت لهم دولة إسلامية كما يتمنون. أكثرنا لا يعرف من التاريخ الإسلامي إلا مظاهر العزة والغلبة والذمي الذي يدفع الجزية والخراج ولا يُقبل جندياً في الجيش الإسلامي ولا يعهد إليه بأي منصب مهم في الدولة. لقد مات النبي ﷺ وترك دولة إسلامية قوية إلى حد أن أمرهم الله أن ينذروا مشركي العرب أربعة أشهر بعدها يُقاتَلون أو يخرجون من أرض العرب ما لم يؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ومع ذلك واجهت هذه الدولة مخاطر هائلة عندما استغل كثير من قبائل العرب التي لم يستقر الإسلام في قلوب أبنائها بعد، استغلوا غياب الرسول ﷺ عن المشهد بوفاته، فارتدوا عن الإسلام إلى شركهم القديم أو امتنعوا عن دفع الزكاة ومنهم من ادعى النبوة. جاهدهم المسلمون باستماتة وأخضعوهم من جديد للإسلام، وخلال سنوات قليلة ترسخ وجود الإسلام في أرض العرب واشتد عود دولته وأخذت تتوسع كي تنشر الإسلام في الشعوب المجاورة.

 

لقد أمر ربنا الرسول ﷺ والمؤمنين أن يكملوا مدة عهودهم مع أي قبيلة مشركة إلى مدتها إن كانت ملتزمة به، لكن لا يُجدد ولا يُمدد. أما الذين لم يكن بينهم وبين المسلمين عهد، فقد أمهلهم الله أربعة أشهر كي يدخلوا في الإسلام أو يرحلوا من أرض العرب وإلا يُقاتَلون وقد يُقتَلون. أما الكفار من أهل الكتاب فيُقاتَلون إن لم يدخلوا في الإسلام حتى يهزمهم المسلمون ويفرضوا عليهم الجزية. قال تعالى في سورة التوبة:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{28} قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{29}﴾ [التوبة: 28-29].

 

أي لو كان هنالك من أهل الكتاب مؤمنون بالله واليوم الآخر بلا شرك بالله، أي كانوا على الكلمة السواء التي أمرنا ربنا أن ندعوهم إليها فإن هؤلاء لا يُقاتَلون ولا تُفرض عليهم جزية.

 

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{64}﴾ [آل عمران: 64].

 

لم يكن القتال  متوجباً إن قبل أهل الكتاب الإسلام أو قبلوا أن يعطوا الجزية دون حرب، بل بموجب صلح يكتب بينهم وبين المسلمين، ويكون من شروط هذا الصلح أن يكونوا صاغرين، أي خاضعين للمسلمين، ومن لوازم خضوعهم وصَغارهم هذا أنه يحق للمسلمين أن يبعثوا الدعاة إليهم وأن تكون الحرية كاملة لمن أراد أن يدخل في الإسلام منهم، فلا يؤذونه ولا حتى بكلمة. قال ابن منظور في لسان العرب عن جذر (ص غ ر): ( الليث : يقال صَغَر فلان يصغر صغرا وصغارا، فهو صاغر إذا رضي بالضيم وأقر به. قال الله تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛ أي أذلاء. والمصغوراء: الصغار. وقوله عز وجل: سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله؛ أي هم وإن كانوا أكابر في الدنيا فسيصيبهم صغار عند الله أي مذلة. وقال الشافعي رحمه الله في قوله عز وجل: عن يد وهم صاغرون؛ أي يجري عليهم حكم المسلمين. والصغار: مصدر الصغير في القدر. والصاغر: الراضي بالذل والضيم، والجمع صغرة. وقد صغر صغرا وصغرا وصغارا وصغارة، وأصغره: جعله صاغرا. وتصاغرت إليه نفسه: صغرت وتحاقرت ذلا ومهانة). وكانت الجزية تسقط على الفور إن دخل من يدفعها في الإسلام.  وقد استفاد أهل نجران الذين كانوا نصارى من التصالح مع المسلمين قبل أن تتوجه جيوشهم لغزوهم في بلادهم، إنما أرسل النجرانيون وفداً منهم تحاور مع النبي ﷺ الذي دعاهم للإسلام فلم يقبلوه وقبلوا الجزية والتبعية لدولة المسلمين، فأرسل النبي أحد صحابته عاملاً على نجران، ولم يفرض عليهم غير الجزية، أي بقيت ملكيتهم لأرضهم لهم، ولم تعتبر غنيمة للمسلمين يدفعون الخراج كراءً لها. قال ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: "وأما النصارى فإن أهل نجران التي باليمن كانوا نصارى، فقدم عليه وفدهم ستون راكبا وناظرهم في مسجده، وأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران، ولما ظهرت حجته عليهم، وتبين لهم أنه رسول الله إليهم، أمره الله إن لم يجيبوه أن يدعوهم إلى المباهلة، فقال تعالى:

 

﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ{61}﴾ [آل عمران: 61].

 

فلما دعاهم إلى المباهلة طالبوا أن يمهلهم حتى يَشْتَوِروا، فاشتوروا، فقال بعضهم لبعض: تعلمون أنه نبي، وأنه ما باهل قوم نبياً إلا نزل بهم العذاب. فاستعفوا من المباهلة، فصالحوه، وأقروا له بالجزية عن يد وهم صاغرون، لما خافوا من دعائه عليهم، لعلمهم أنه نبي، فدخلوا تحت حكمه، كما يدخل أهل الذمة الذين في بلاد المسلمين تحت حكم الله ورسوله، وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون، وهم أول من أدى الجزية من النصارى.

 

واستعمل عليهم وعلى من أسلم منهم عمرو بن حزم الأنصاري، وكتب له كتابا مشهورا، يذكر فيه شرائع الدين، فكانوا في ذمة المسلمين تحت حكم الله ورسوله ونائب رسوله عمرو بن حزم الأنصاري -رضي الله عنه-، وقصتهم مشهورة متواترة، نقلها أهل السير، وأهل الحديث، وأهل الفقه، وأصل حديثهم معروف في الصحاح، والسنن، كما سنذكره إن شاء الله تعالى".

 

أما كفار أهل الكتاب الذين يرفضون الإسلام، ويرفضون الخضوع للمسلمين وأن يعطوا الجزية وهم صاغرون، فيقاتلهم المسلمون..  فإن نصرهم الله عليهم طُبقت عليهم الأعراف التي كانت متبعة في ذلك العصر على من يُهزم في حرب ويدخل أعداؤه دياره. كانت الجزية أول ما يفرض وكانت كل أموالهم وعقاراتهم غنيمة وملكاً للجيش الذي قاتلهم وانتصر عليهم، ويمكن أن تسبى ذراريهم ونساؤهم ويتحولون إلى عبيد يتم توزيعهم على المحاربين كجزء من الغنائم.

 

لم تكن الأعراف الدولية في القديم تبقي أية حقوق للشعوب المغلوبة بالحرب، إلا ما يجود به عدوهم الذي تغلب عليهم. وهذا يعني أن من يقبل بدفع الجزية وبفتح دياره للإسلام صلحاً دون حرب يكون موفقاً، حتى لو كان صاغراً، لأنهم عندها لا يغرمون إلا الجزية والخضوع والتبعية لدولة الإسلام، وشتان بين حالهم وحال الذين يستكبرون ويغترون بقوتهم فيختارون القتال على أمل الانتصار على الفاتحين المسلمين، لأنهم كانوا قلما ينتصرون، فقد فتح المسلمون كل البقاع التي تسمى الوطن العربي والأندلس وبلاد الفرس والترك والهنود خلال عقود قليلة.

2. الجزية من قبل الإسلام

قوانين الحروب التي كانت متبعة في ذلك الزمان كانت قاسية جداً على الأمة المهزومة، ومن شاء فليقرأ ما جاء في العهد القديم عما كان يفعله بنو إسرائيل بالأمم التي ينتصرون عليها، وبالمقارنة بها يمكننا أن ندرك مدى رحمة المسلمين كفاتحين منتصرين بالأمم التي غلبوها وفتحوا بلادها.

 

لقد أذن ربنا للنبي ﷺ والمؤمنين في عهده ومن بعده أن يتمتعوا بما يغنمونه بالقتال أو الفيء الذي يغنمونه دون قتال، لكنه فرض خمس الفيء لله والرسول، أما غنائم القتال فقد كانت كلها للمقاتلين كما هو العرف عند شعوب ذلك العصر، وبخاصة أنه كان المقاتلون ينفقون على أنفسهم ويشترون السلاح والدابة التي يركبونها من مالهم الخاص، ولم تكن لهم مرتبات منتظمة. كان لهذا الإذن دور كبير في تقوية المسلمين، مما مكنهم من فتح المزيد من البلدان ونشر الإسلام في أصقاع واسعة.

 

فرض الجزية والخراج واسترقاق النساء والأطفال والأسرى من الأمة المهزومة أمور كانت البشرية تمارسها قبل الإسلام بأحقاب طويلة ولم تكن مما أضافه الإسلام، تماماً مثل الرق الذي كان منتشراً على نطاق واسع جداً في جميع بلدان العالم القديم، ومع أن الإسلام يسعى إلى تحرير الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فإنه لم يبطل الرق بل نظم العلاقة بين العبد وسيده، وحض على حسن معاملة العبيد وعلى إعتاقهم. لا أحد يلوم الإسلام على الرق الذي استمر قروناً بعد مجيئه، لكن لأن الناس يجهلون أن الجزية وباقي ما يقع على الأمم المغلوبة عسكرياً كانت موجودة من قبل الإسلام، فإنهم بالنسبة للجزية فريقان، الأول المسيحيون الذين كان أجدادهم ذميين يدفعون الجزية، والثاني هم الإسلاميون الذين يريدون تطبيق الإسلام بكل تفصيلاته. كلا الفريقين يظن أن الجزية على أهل الكتاب كانت مما جاء به الإسلام من تشريعات، فيكره المسيحيون الإسلام لأنهم يظنون أنه تعمد التمييز ضدهم، أما الإسلاميون فيظنون أن عليهم إن أقاموا الدولة الإسلامية أن يفرضوا الجزية على كل مسيحي يعيش بينهم إن أصر على البقاء على دينه. هم لا يريدون ذلك من أجل المال وبخاصة أن الجزية التي كانت الدولة الإسلامية تستوفيها من الذميين لم تكن مبلغاً كبيراً على الشخص، ولم تكن تفرض إلا على الرجل القادر على القتال والمقتدر مالياً؛ إنما هم أي الإسلاميون يريدون أن يطبقوا دينهم كاملاً غير منقوص ولا يبالون إن أعجب ذلك الآخرين أو أزعجهم.

 

لم تكن الجزية على المسيحيين واليهود وغيرهم إضافة إسلامية مع أنها مذكورة في القرآن الكريم. لنتأمل الآية الكريمة مرة أخرى:

 

﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{29}﴾ [التوبة: 29].

 

لاحظوا كيف أن الجزية أتت في الآية معرفة بأل التعريف، وهذا يوحي أنها كانت معروفة للمخاطبين بالآية. وإننا نجد ذكرها على لسان النبي ﷺ في بداية الدعوة قبل نزول أية تشريعات. عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «مَرِضَ أبو طالبٍ فجاءته قريشٌ، وجاءه النبيُّ ﷺ، وعند أبي طالبٍ مَجْلِسُ رجلٍ، فقام أبو جهلٍ كي يَمْنَعَه، قال: وشَكَوْهُ إلى أبي طالبٍ فقال: يا ابنَ أَخِي ما تريدُ من قومِكَ؟ قال: أريدُ منهم كلمةً تَدِينُ لهم بها العربُ، وتُؤَدِّي إليهم العَجَمُ الجِزْيَةَ، قال: كلمةً واحدةً؟ قال: كلمةً واحدةً، فقال: يا عَمِّ قولوا: لا إله إلا اللهُ. فقالوا: إلهًا واحدًا؟ ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ{7}﴾ [ص:7].

 

قال: فنزل فيهم القرآنُ: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ{1} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ{2} كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ{3} وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ{4} أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ{5} وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ{6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ{7}﴾ [ص:1-7].»

 

لم تكن الجزية اختراعاً محمدياً. فالجزية مذكورة في الكتاب المقدس وكان بنو إسرائيل يستوفونها من الشعوب التي غلبوها بالقتال.

 

جاء في سفر صموئيل الثاني الإصحاح الثامن عن نبي الله داود -عليه السلام-: «(1) وَبَعْدَ ذلِكَ ضَرَبَ دَاوُد ُ -عليه السلام- الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَذَلَّلَهُمْ، وَأَخَذَ دَاوُدُ «زِمَامَ الْقَصَبَةِ» مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. (2) وَضَرَبَ الْمُوآبِيِّينَ وَقَاسَهُمْ بِالْحَبْلِ. أَضْجَعَهُمْ عَلَى الأَرْضِ، فَقَاسَ بِحَبْلَيْنِ لِلْقَتْلِ وَبِحَبْل لِلاسْتِحْيَاءِ. وَصَارَ الْمُوآبِيُّونَ عَبِيدًا لِدَاوُدَ يُقَدِّمُونَ هَدَايَا».

 

وبحسب شرح الكتاب المقدس - العهد القديم - للقس أنطونيوس فكري، فإن المقصود بالهدايا في هذا النص هي الجزية، وإليكم ما قاله في تفسير هاتين الآيتين: «داود النبي ضد الأمم الوثنية التي انجرفت تمامًا في الرجاسات مع عنف وقسوة ووحشية تشير لجهاد المؤمن ضد الخطية بكل رجاساتها وعنفها. ونجد داود هنا منتصرًا دائمًا فإذا كان هناك سلام بين الإنسان والله، ينجح الإنسان في كل طرقه. أخذ داود زمام القصبة= بالمقارنة مع المكان الموازي في (ايه 1: 18) نجد أن داود "أخذ جَت وكل قراها" وذلك لأن جت هي قصبة الفلسطينيين وزمام دولتهم وكانت جت لها قلعة محصنة عالية على تل تشرف منه على دان وعلى يهوذا ومن هنا تضرب إسرائيل وتذلهم. لذلك كانت جت هي أهم مدنهم. وكلمة زمام القصبة جاءت في الترجمة العبرية (لجام الأمة) فكأن من يسكن جت يمسك بلجام إسرائيل ويحرك إسرائيل كيفما شاء، فأمسك داود -عليه السلام- بهذا اللجام ليتحكم في الفلسطينيين فقد صارت هذه القلعة في يده (لو 11 : 22) وفي أية (2) نجد داود يضرب موآب ولقد سبق أن استودع داود والديه لدى ملك موآب راجع (1صم 3: 4، 22) فلماذا حدثت هذه الحرب؟ هناك احتمالان: 1- أن موآب كان يساند داود لمّا كان داود ضد شاول أمّا وقد وصار داود ملكًا فقد حاربه موآب. 2- ويقول اليهود أن داود كان عنيفًا مع موآب لأنهم قتلوا أباه وأمه اللذين تركهما عندهم في سلام. وداود ضرب موآب وصار موآب يدفع الجزية لإسرائيل حتى زمن موت أخاب حيث ثار موآب ضد إسرائيل وعصاه (2مل 3: 3، 4). وكانت ضربة داود ضدهم شديدة قاس حبلين للقتل أي أجلسهم على الأرض وقاس الثلثين منهم بحبل فكانوا للموت وبحبل للإستحياء = أي الثلث أبقى عليهم. وهؤلاء الذين قاسهم داود كانوا هم الأسرى فهو قتل الثلثين من الأسرى وأبقى الثلث».

3. تصحيح التصورات

يمكنكم أن تكتبوا في غوغل كلمة tribute التي تعني الجزية بالإنكليزية لتروا كيف أنها كانت معروفة وشائعة عند الأمم القديمة. أنا لا أحاول أن أبرىء الإسلام من الجزية فقد ذكرت صريحة في القرآن الكريم، لكنني أريد أن أبين للمسلمين قبل غيرهم أمرين بخصوص الجزية:

 

الأول: أنها ليست فريضة إسلامية لا نستطيع إلا أن نطلبها من أهل الكتاب لمجرد أنهم أهل الكتاب، ومخطئ من يعتقد أنها فريضة عليهم تقابل فريضة الزكاة على المسلمين. القرآن فرضها على كفار أهل الكتاب الذين يرفضون الإسلام ويختارون الحرب إذا ما تغلب عليهم المسلمون، ذكرها ليبين لنا أن لأهل الكتاب أن يختاروا بين الإسلام أو الجزية إذ لا يجوز إكراههم على الإسلام كما أكره مشركو العرب زمن الرسول ﷺ. وبالتالي ليس عدم أخذنا لها من المسيحيين الذين يشاركوننا أوطاننا في هذا العصر تنازلاً عن شيء أصيل في ديننا لأننا حالياً ضعفاء. ومع أن الجزية ذكرت في القرآن الكريم متعلقة بأهل الكتاب فإنه صح عن النبي ﷺ أنه قال عن المجوس فيما رواه الشوكاني في السيل الجرار وصححه الألباني: «أنه قال في المجوسِ سُنّوا بهم سنةَ أهلِ الكتابِ». لذا قبلها صحابة رسول الله ﷺ من كل الشعوب التي فتحوا بلادها على اختلاف أديانها، وكلهم بمنظور الإسلام مشركون، لكن الصحابة لم يطبقوا عليهم حكم المشركين العرب الذين لم يُقبل منهم إلا الإسلام أو القتال والقتل للمقاتلين فيهم إن أظهر الله المسلمين عليهم. كان المشركون العرب استثناء من مبدأ «لا إكراه في الدين»، وكان أهل الكتاب مثالاً لهذا المبدأ الذي يسري على البشرية كلها ما عدا المشركين العرب في أرض العرب في عصر الرسالة.

 

والأمر الثاني الذي أريد أن أبينه أن الجزية كانت استحقاقاً للمسلمين نتيجة تغلبهم على الأمم الأخرى، وبقيت مضروبة عليها إلى أن جاء الاستعمار الأوربي، فجرد المسلمين من حقوق الغالب التي كانوا يتمتعون بها، حيث كان أهل البلاد الأصليين الذين لم يدخلوا في الإسلام ذميين عليهم بعض القيود وعليهم الجزية وعلى أراضيهم الصالحة للزراعة الخراج، وهو أجرة هذه الأرض التي انتقلت ملكيتها إلى المسلمين بمجرد دخولهم تلك البلاد بالقتال والغلبة، وكل أملاك الدولة المغلوبة تؤول للمسلمين. نعم بمجرد أن فتح المسلمون قطراً من الأقطار عَنْوَةً أي: بقوة السلاح، فإن كل أرض ذلك القطر أصبحت ملكاً للفاتحين ودولتهم. وبحسب الأعراف التي ورثها الإسلام كانت هذه الأراضي الزراعية توزع على المقاتلين الذين خاضوا معارك فتح هذا القطر على اعتبار أنها من الغنائم، لكن عمر بن الخطاب غيّر هذا العرف ولم يوزع أرض السواد في العراق، ومن بعدها أراضي كل البلاد التي فتحها المسلمون لم يوزعها على المقاتلين، بل اعتبرها فيئاً ملكيته للأمة الإسلامية كلها بكافة أجيالها، وأذن لأصحابها السابقين أن يزرعوها على أن يدفعوا نسبة مما تنتجه من خيرات كأجرة مستحقة عليهم لبيت مال المسلمين كانت تسمى الخَراج. تأملوا ما قاله ابن القيم في كتابه الرائع «أحكام أهل الذمة»: «وَلِلْإِمَامِ تَرْكُ الْخَرَاجِ وَإِسْقَاطُهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَتَخْفِيفُهُ عَنْهُ بِحَسَبِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ الْمَقْصُودُ بِهَا إِذْلَالُ الْكَافِرِ وَصَغَارُهُ، وَهِيَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ اللَّهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ إِعْزَازًا لِلْإِسْلَامِ وَإِذْلَالًا لِلْكُفْرِ. وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَهُوَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ وَحَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا، وَإِنَّمَا وُضِعَ بِالِاجْتِهَادِ فَإِسْقَاطُهُ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ إِسْقَاطِ الْإِمَامِ أُجْرَةَ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ عَنِ الْمُكْتَرِي».

 

وقد جاء في موطأ مالك ما يلي: «سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ إِمَامٍ قَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْ قَوْمٍ، فَكَانُوا يُعْطُونَهَا: أَرَأَيْتَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَتَكُونُ لَهُ أَرْضُهُ، أَوْ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ لَهُمْ مَالُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: ذلِكَ يَخْتَلِفُ، أَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعَنْوَةِ الَّذِينَ أُخِذُوا عَنْوَةً فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ أَرْضَهُ وَمَالَهُ لِلْمُسْلِمِينَ. لأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ قَدْ غُلِبُوا عَلَى بِلاَدِهِمْ وَصَارَتْ فَيْئاً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَنَعُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَالَحُوا عَلَيْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ».

4. وهم صاغـرون

ويبدو لي أن الحكمة من قوله تعالى: ﴿...حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{29}﴾ [التوبة: 29] هي شيئان:

 

الأول هو في أمره المسلمين أن يأخذوا الجزية ممن يرفض الدخول في الإسلام من غير مشركي العرب وقتها، وبذلك ما عاد للمسلمين أن يتنازلوا عن الجزية وقد أمرهم الله بأخذها، وهذا يضمن أن الجزية ستفرض على غير المسلمين من الأمم المغلوبة، مع اشتراط أنها لا تؤخذ إلا من الرجال الأصحاء القادرين مالياً، وتستثنى بعض الفئات منهم كالرهبان، أي كان مقصوداً أن يدفعها كل من يبقى خارج الإسلام من هذه الشعوب، في إطار من عدل الإسلام ورحمة المسلمين بغيرهم، وقد كانت الجزية مبلغاً صغيراً بمقاييس ذلك الزمان، والحكمة كامنة في فرضها وفي قلة مقدارها، لأنها بهذا الشكل تدفع من فُرضت عليه إلى الدخول في الإسلام، الذي كان يلغيها عنه ويضمه إلى أمة المسلمين الغالبة، مع أنه أحد المغلوبين، وقد بينت دراسات علم النفس أن الحافز الضئيل يجعل من يستجيبون له يغيرون قناعاتهم، لا أن يغيروا سلوكهم للحصول عليه مع بقاء قناعاتهم على حالها، بينما لو كان الحافز كبيراً ومغرياً فإنه يدفع الناس إلى النفاق والتظاهر بالتغيير كي يحصلوا على هذا الحافز وهم لا يجدون أي خجل أن يعترفوا لأنفسهم أنهم منافقون من أجل شيء ثمين، أما أن يعترفوا لأنفسهم أنهم نافقوا من أجل مبلغ ضئيل فيتعارض مع احترامهم لأنفسهم لذلك تقوم أنفسهم بتغيير منظورها للأمر، وتنظر لما يطلب منها من جوانبه الإيجابية، وتؤمن به إيماناً، كي تحصل على الحافز الضئيل دون خسارة احترام الذات. لذا أعتقد أن الجزية التي كانت مبلغاً صغيراً سنوياً دفعت أعداداً كبيرة جداً ممن فرضت عليهم إلى الدخول في الإسلام إيماناً به، فكان فيها خير عظيم لهم، مع أن دخولهم في الإسلام كان يحرم المسلمين من الجزية التي كانوا يستوفونها منهم. وبرأيي أن من يقول إن الجزية فرضت على أهل الذمة لأنهم لم يكونوا يقاتلون مع المسلمين ولأن المسلمين كانوا مسؤولين عن حمايتهم مخطئ في هذا الفهم للجزية، مع أن المسلمين الذين فتحوا حمص وعاهدوا أهلها أن يحموهم وكان على أهلها أن يدفعوا الجزية، عندما شعر المسلمون أنهم لن يكونوا قادرين على حماية المدينة أمام جيش الروم العظيم الذي بلغهم أنه كان متجهاً إليهم أعادوا ما أخذوه من جزية من أهل حمص. كانت حماية الذميين مسؤولية المسلمين لا لأن الذميين كانوا غير راغبين في المشاركة في الجيش وفي حماية البلاد، بل لأن المسلمين ما كانوا يثقون بغير المسلمين، وما كانوا يقبلون كافراً في جيشهم الذي يقوم بالجهاد في سبيل الله وهو عبادة، ومن جهة أخرى كان الذميون أبناء أمم قهرها المسلمون وغنموا كل أرضها وحولوا أهلها الذين لم يدخلوا في الإسلام إلى نوع من المواطنين درجة ثانية، وأناس كهؤلاء لا يؤمن شرهم وعداؤهم ولا يصح إدخالهم في جيوش المسلمين. أي كان الذميون أبناء مستعمرات متمسكين بهويتهم وهوية أجدادهم المتجلية في دين آبائهم وأجدادهم ويغلب أنهم لن يكونوا سعداء بوضعهم كذميين في بلادهم، ولا شيء يضمن ولاءهم وإخلاصهم لو شاركوا في الجيش والقتال، لأنهم بشر ولا يتوقع منهم غير هذا.  

 

والحكمة الثانية في قوله تعالى: ﴿...حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ هي في قوله «صَاغِرُونَ»...  وهي كلمة تصدم من يعرف القرآن جيداً، حيث تسوده مشاعر الرحمة وتكريم الإنسان بغض النظر عن دينه، ويحارب أي استكبار لدى المؤمنين على غيرهم، والله يقول عندما يدعوا الناس للإيمان:

 

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً{1}﴾ [النساء: 1].

 

أي يلفت أنظار المؤمنين وغير المؤمنين أنهم إخوة انحدروا من نفس واحدة هي آدم التي خلقها الله وخلق منها زوجها حواء وبث منهما البشرية برجالها ونسائها، وعندما غضب موسى -عليه السلام- من الإسرائيلي الذي ورطه بقتل مصري دون تعمد ذات يوم، هاجمه الإسرائيلي الذي خاف منه أن يقتله قائلاً:

 

﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ{19}﴾ [القصص: 19].

 

أي إن الرغبة في أن يكون جباراً في الأرض يقهر أهلها أمر ذميم وعلى النقيض من الإصلاح الذي يسعى إليه الصالحون من رسل ومؤمنين. كما لم تأت آية واحدة تبيح التكبر على الكفار ولا حديث شريف، إنما كان التكبر مذموماً دائماً دون تحديد دين من يقع التكبر عليه، لذا كلمة (صاغرون) كانت مقصودة لغاية نبيلة وهي إفهام المؤمنين أن الجزية بحد ذاتها ليست هي الهدف، إنما الهدف إخضاع الذين يرفضون الهداية ووضعهم في موضع الأذل والأصغر، وهذا ما فهمه ابن القيم كما تجدون في الفقرة التي استشهدت بها قبل قليل من كتابه أحكام أهل الذمة حيث بيّن أن للحاكم المسلم أن يسقط الخراج عن الذميين لكن ليس له أن يسقط الجزية عنهم: «وَلِلْإِمَامِ تَرْكُ الْخَرَاجِ وَإِسْقَاطُهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَتَخْفِيفُهُ عَنْهُ بِحَسَبِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ الْمَقْصُودُ بِهَا إِذْلَالُ الْكَافِرِ وَصَغَارُهُ، وَهِيَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ اللَّهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ إِعْزَازًا لِلْإِسْلَامِ وَإِذْلَالًا لِلْكُفْرِ».

 

ولكم أن تتخيلوا مقدار الاستفزاز الذي أحدثته كلمة «صاغرون» في نفوس أهل الذمة، وكيف أنها دفعت كثيرين منهم إلى الإيمان والتحول إلى الإسلام تحولاً صادقاً. لقد شكلت مثل الجزية نفسها حافزاً ضئيلاً، إذ ليس كثيراً على المؤمن بدينه أن يتحمل هذه الإهانة الصغيرة في سبيل دينه الذي يؤمن به، لذا لم تكن نفوس الذين استفزتهم هذه الكلمة لتقر بأنها ستغير دينها بسبب كلمة، وبالتالي لم تكن نفوسهم تتقبل أن تنافق وتتظاهر بالإسلام لمجرد أن يخرجوا من الوصف بالصغار أمام أمة فاتحة غالبة، إنما كان المقبول من هذه النفوس هو أن تغير منظورها الذي تنظر منه إلى الإسلام، فترى الحق الذي فيه، وتؤمن به وتتخلص دفعة واحدة من الجزية ومن الصغار، وبذلك كان في كلمة «صاغرون» خير عظيم للذميين وتحقيق لهدف الإسلام الأول وهو هداية الناس إلى الدين الحق.

 

بعض إخوتنا المسيحيين وبخاصة العرب يتهمون الإسلام بالتمييز العنصري الذي كان بادياً في الجزية وفي كلمة «صاغرون» ويعتبرون المسلمين الحاليين غزاة ويحلمون بتحرير البلاد منهم. هم لا ينتبهون إلى أن الإسلام فتح الباب أمام الجميع لينتقلوا من حالة الذمي إلى حالة الغالب والمنتصر بمجرد دخوله في الإسلام، بينما العنصريون ما كانوا يسمحون للأسود الذي تنصر وصار أخوهم في الدين أن يدخل كنائسهم. وينسى هؤلاء أن الذين يعتبرونهم غزاة ويحلمون أن يحرروا البلاد منهم هم مثلهم أصحاب البلاد الأصليين لكنهم اهتدوا إلى الحق فأسلموا ولهم حق أصلي في هذه البلاد لا يقل عن حق المسيحيين أو أتباع الديانات الأخرى من سكان هذه البلاد الأصليين. لم يكن وضع المغلوب الصاغر لعنة على الذمي لا تنفك، إذ كان يستطيع تغيير هذا الوضع إلى وضع المواطن من الدرجة الأولى بمجرد أن يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

 

علينا أن نذكر أن الذمي تسقط عنه الجزية بمجرد إسلامه لكن أرضه التي يزرعها ويدفع خراجها تبقى كما هي ملكاً لأمة المسلمين وعليه دفع خراجها حتى لو كان مسلماً، وهذا يؤكد أن الشعوب المغلوبة كانت تخسر ملكية أرضها كلها: الأرض التي تسمى أملاكاً عامة أي التي هي ملك الدولة أصلاً والأرض المملوكة للأفراد، وهذا مختلف عما هو ممارس في عصرنا في حال احتلال دولة لدولة أخرى. ومرة أخرى أؤكد أن الإسلام لم يأت بهذه التشريعات، بل كانت سائدة ومتعارف عليها عند البشرية قبل الإسلام وجاء الإسلام وأذن للمسلمين أن ينتفعوا بها.

5. نهــاية الغـلبة

لقد جاء الاستعمار الأوربي وأصبحنا أمماً مغلوبة بقوة السلاح، لكننا كنا محظوظين أكثر من سكان البلاد التي فتحها أجدادنا، إذ لم تنتقل ملكية أراضينا للمستعمرين، بل اقتصر حق الغزاة على التصرف بالأراضي العامة التي ليس لها مالك محدد، أما الأفراد فقد بقيت أراضيهم ملكاً لهم، وهذا لا يعني أن الاستعمار الأوربي لم ينهب ثرواتنا ويقسم بلداننا وينشىء دولاً جديدة لا تقوم على أساس الجغرافية الطبيعية والبشرية، بل حدودها خطوط مستقيمة رسموها بالمسطرة. المهم فقدنا نحن المسلمين امتيازاتنا كأمة غالبة، وبالوقت ذاته تحرر المسيحيون واليهود وغيرهم من الكفار الذين يعيشون بيننا من كونهم ذميين عليهم الجزية وقيود أخرى بموجب المعاهدات التي كانت بين أجدادهم المغلوبين وأجدادنا الفاتحين المنتصرين.

 

وضع جديد محزن للمسلمين في بلادنا لا شك، لكن هكذا هي الدنيا تؤخذ غلاباً. فكما خسر سكان هذه البلاد الكثير عندما تغلب عليهم المسلمون، فقد خسرنا نحن امتيازاتنا لما تغلب علينا الأوربيون. يمكننا أن نقول إن فقدنا لهذه الامتيازات غير شرعي، لكن كونه غير شرعي لا يعني إبطال ما نتج عنه، وأشبّه هذا الأمر بزواج تم بالإكراه فهو بالتأكيد غير شرعي، لكن للأولاد المولودين فيه حقهم بالنسب والميراث كما لو كان الزواج شرعياً تماماً.

نحن الآن في جميع البلاد الإسلامية مواطنون على قدم المساواة مع المسيحيين واليهود وغيرهم من أديان، لأن جوهر المواطنة هو التساوي في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو اللون أو القومية أو الجنس أو العمر.

6. أزمة ثـقة

يتخوف الإسلاميون من المواطنة التي تعطي المسيحي والملحد وأبناء الطوائف والأديان الأخرى الحق في تبوء وظائف حساسة في البلاد لأنهم يخشون منهم الخيانة. ترجع القضية كما أعتقد لما ورد عن عمر بن الخطاب من شعوره بالريبة من غير المسلمين ورفضه أن يتولوا أية وظائف حساسة في دولة المسلمين، فقد روى ابن تيمية وصحح، عن أبي موسَى الأشعري أنه قال: قلتُ لعمرَ: إنَّ لي كاتبًا نصرانيًّا قال: ما لكَ قاتلَكَ اللهُ، أما سمِعتَ اللهَ تعالَى يقولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{51}﴾ [المائدة: 51]. ألا اتَّخذتَ حنيفيًّا؟ قال: قلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ لي كتابتُهُ وله دِينهُ، قال: «لا أُكرِمُهم إذ أهانَهُم اللهُ، ولا أُعِزُّهم إذ أذلَّهُم اللهُ، ولا أُدْنيهِم إذ أقصاهُم اللهُ». وقد وردت روايات مختلفة لهذه القصة في كتب السيرة يصر فيها من يجادل عمر بن الخطاب على ضرورة الاستعانة بالكاتب النصراني، فيحسم عمر الموضوع بقوله: «مات النصراني والسلام»، أي افترض أنه مات، ألن تتدبر الأمر من بعده؟ إذن تدبر الأمر من دونه الآن. قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/ 643): «فَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رضي الله عنه- إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- يَقُولُ: إنَّ بِالشَّامِ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَقُومُ خَرَاجُ الشَّامِ إلَّا بِهِ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: لَا تَسْتَعْمِلْهُ. فَكَتَبَ: إنَّهُ لَا غِنَى بِنَا عَنْهُ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: لَا تَسْتَعْمِلْهُ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: إذَا لَمْ نُوَلِّهْ ضَاعَ الْمَالُ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ -رضي الله عنه-: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ.»

 

ومروي عن عمر مواقف عديدة فيها هذا التوجس من رعاياه غير المسلمين.

7. الشروط العمرية

يروي ابن القيم في أحكام أهل الذمة عن عبد الله بن أحمد بن حنبل هذه الرواية، عن شروط فرضها عمر على النصارى في الشام والأقطار المفتوحة عَنْوَةً، ومع أنها لم تثبت من حيث السند كما تثبت الأحاديث الصحيحة فإنها كانت مشهورة ومطبقة وبرأيه لا داعي للشك في صحتها. يقول ابن القيم:

 

«قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي أَبُو شُرَحْبِيلَ الْحِمْصِيُّ عِيسَى بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي [عَمِّي] أَبُو الْيَمَانِ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَا: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ: إِنَّا حِينَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا طَلَبْنَا إِلَيْكَ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَكَ عَلَى أَنْفُسِنَا أَلَّا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ، وَلَا نُجَدِّدَ مَا خُرِّبَ مِنْ كَنَائِسِنَا وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَلَا نُؤْوِي فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا، وَأَلَّا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا نَضْرِبَ بَنَوَاقِيسِنَا إِلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا، وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا، وَلَا تُرْفَعَ أَصْوَاتُنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَلَّا نُخْرِجَ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا نُخْرِجَ بَاعُوثًا - قَالَ: وَالْبَاعُوثُ يَجْتَمِعُونَ كَمَا يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ - وَلَا شَعَانِينَ، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ وَلَا بِبَيْعِ الْخُمُورِ، وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا، وَلَا نُرَغِّبَ فِي دِينِنَا وَلَا نَدْعُوَ إِلَيْهِ أَحَدًا، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ الرَّقِيقِ الَّذِي جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا أَرَادُوا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا، وَأَلَّا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ وَلَا فِي مَرَاكِبِهِمْ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَكْتَنِيَ بِكُنَاهُمْ، وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُؤوسِنَا، وَلَا نَفْرُقَ نَوَاصِيَنَا، وَنَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا، وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنَ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَنُرْشِدَهُمُ الطَّرِيقَ وَنَقُومَ لَهُمْ عَنِ الْمَجَالِسِ إِنْ أَرَادُوا الْجُلُوسَ، وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ، وَلَا يُشَارِكَ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ، وَأَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَنُطْعِمَهُ مَنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ. ضَمِنَّا لَكَ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِينِنَا، وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَلَّ لَكَ مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ».

 

فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَلْحِقْ فِيهِمْ حَرْفَيْنِ أَشْتَرِطُهُمَا عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَّا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا [شَيْئًا]، وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا [عَمْدًا] فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ". فَأَنْفَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ ذَلِكَ، وَأَقَرَّ مَنْ أَقَامَ مِنَ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الشَّامِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ.

 

قَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ «أَحْكَامِ أَهْلِ الْمِلَلِ»: «أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ... فَذَكَرَهُ، وَذَكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: "كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ فِيهِ أَلَّا يُحْدِثُوا فِي مَدِينَتِهِمْ وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ، وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خُرِّبَ، وَلَا يَمْنَعُوا كَنَائِسَهُمْ أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ لَيَالٍ يُطْعِمُونَهُمْ، وَلَا يُؤوا جَاسُوسًا، وَلَا يَكْتُمُوا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمُ الْقُرْآنَ، وَلَا يُظْهِرُوا شِرْكًا، وَلَا يَمْنَعُوا ذَوِي قَرَابَاتِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِنْ أَرَادُوهُ، وَأَنْ يُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَقُومُوا لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِهِمْ إِذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ، وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ، وَلَا يَرْكَبُوا سِرْجًا وَلَا يَتَقَلَّدُوا سَيْفًا، وَلَا يَبِيعُوا الْخُمُورَ، وَأَنْ يَجُزُّوا مَقَادِمَ رُؤوسِهِمْ، وَأَنْ يَلْزَمُوا زِيَّهُمْ حَيْثُمَا كَانُوا، وَأَنْ يَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، وَلَا يُظْهِرُوا صَلِيبًا وَلَا شَيْئًا مِنْ كُتُبِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ، وَلَا يَضْرِبُوا بِالنَّاقُوسِ إِلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا، وَلَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَخْرُجُوا شَعَانِينَ، وَلَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ مَعَ مَوْتَاهُمْ، وَلَا يُظْهِرُوا النِّيرَانَ مَعَهُمْ، وَلَا يَشْتَرُوا مِنَ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ فِيهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا شَرَطُوهُ فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ، وَقَدْ حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ».

 

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْوَلِيدِ بْنِ نُوحٍ، [وَالسَّرِيِّ] بْنِ مُصَرِّفٍ يَذْكُرُونَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: كَتَبْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- حِينَ صَالَحَ نَصَارَى أَهْلِ الشَّامِ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا: إِنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمُ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَلَّا نُحْدِثَ فِي مَدَائِنِنَا وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قِلَّايَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ... فَذَكَرَ نَحْوَهُ".

 

ثم يعلق ابن القيم على ضعف سند هذه الرواية فيقول مدافعاً عنها: «وَشُهْرَةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ تُغْنِي عَنْ إِسْنَادِهَا، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ تَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَذَكَرُوهَا فِي كُتُبِهِمْ وَاحْتَجُّوا بِهَا، وَلَمْ يَزَلْ ذِكْرُ الشُّرُوطِ الْعُمَرِيَّةِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَفِي كُتُبِهِمْ، وَقَدْ أَنْفَذَهَا بَعْدَهُ الْخُلَفَاءُ وَعَمِلُوا بِمُوجَبِهَا».

 

ثم يقول:

«فَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرِيُّ - مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْحُلْوَانِيِّ - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ [جَنَّادٍ]: حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَلَبِيُّ، عَنْ صَالِحٍ الْمُرَادِيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا صَلَّى الْعَصْرَ فَصَفَّ لَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ صَفَّيْنِ، فَنَاوَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ كِتَابًا، فَلَمَّا رَآهُ دَمَعَتْ عَيْنُهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ: "يَا أَهْلَ نَجْرَانَ، هَذَا وَاللَّهِ خَطِّي بِيَدِي وَإِمْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ". فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعْطِنَا مَا فِيهِ. قَالَ: وَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ رَادًّا عَلَى عُمَرَ يَوْمًا فَالْيَوْمَ يَرُدُّ عَلَيْهِ! فَقَالَ: لَسْتُ بَرَّادٍ عَلَى عُمَرَ شَيْئًا صَنَعَهُ، إِنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الْأَمْرِ، وَإِنَّ عُمَرَ أَخَذَ مِنْكُمْ خَيْرًا مِمَّا أَعْطَاكُمْ، وَلَمْ يَجُرَّ عُمَرُ مَا أَخَذَ مِنْكُمْ إِلَى نَفْسِهِ إِنَّمَا جَرَّهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِين».

 

وَذَكَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ عَلِيًّا -رضي الله عنه- قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ رَشِيدَ الْأَمْرِ، وَلَنْ أُغَيِّرَ شَيْئًا صَنَعَهُ عُمَرُ!

 

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَالَ عَلِيٌّ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ: مَا جِئْتُ لِأَحُلَّ عُقْدَةً شَدَّهَا عُمَرُ!

 

وَقَدْ تَضَمَّنَ كِتَابُ عُمَرَ -رضي الله عنه- هَذَا جُمَلًا مِنَ الْعِلْمِ تَدُورُ عَلَى سِتَّةِ فُصُولٍ:

  • الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَامِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَالصَّوَامِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.
  • الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَحْكَامِ ضِيَافَتِهِمْ لِلْمَارَّةِ بِهِمْ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا.
  • الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِضَرَرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ.
  • الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَغْيِيرِ لِبَاسِهِمْ وَتَمْيِيزِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَرْكَبِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ.
  • الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ مِمَّا نُهُوا عَنْهُ.
  • الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي أَمْرِ مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا.»

انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

8. خــــوف مبـــــرر

في زماننا هذا استحيا كثير من المسلمين أن يكون أسلافهم قد فرضوا هذه الشروط على أهل الذمة، فحاولوا نفيها بالقول إنها لا أصل لها بل وضعت بعد عمر بن الخطاب بأجيال، ومنهم من قال هي شروط، للحاكم المسلم الحرية في تطبيقها أو تركها، لكن هنالك من الإسلاميين الذين يكرهون ضعفنا أمام الغربيين وحرصنا على نيل إعجابهم ورضاهم ولو على حساب ديننا من انبرى للدفاع عن الشروط العمرية وليثبت من المراجع الإسلامية أنها ليست موضوعة، وأنها كانت مطبقة، وأنها يجب أن تطبق من جديد عندما توجد الظروف المناسبة.

 

الشيخ علي بن نايف الشحود باحث في العلوم الإسلامية واسع الاطلاع وغزير الإنتاج وكتابه «المفصل في شرح الشروط العمرية» رائع وشامل ومتوافر على النت ويغني القارئ عن العودة للمراجع القديمة التي قد تكون قراءتها غير مريحة للبعض لاختلاف التعابير والمصطلحات. المهم، الشيخ علي يؤمن أن هذه الشروط يجب فرضها على اليهود والنصارى كلما أمكن ذلك إلى يوم القيامة، فهي برأيه من ثوابت الإسلام مع أنه لم يذكر في القرآن منها أكثر من الجزية والصغار لكفار أهل الكتاب، ولم ترد في الأحاديث الشريفة. هو يرى أنه طالما جمع عمر بن الخطاب نخبة الصحابة الذين كانوا معه في المدينة المنورة وعرض هذه الشروط عليهم لأخذ رأيهم فأجمعوا عليها، فقد صارت فريضة دائمة لأن كل إجماع للأمة ينتج عنه أحكام معصومة من الخطأ وواجبة على الأمة إلى يوم الدين.

 

هذه الشروط التي فرضت على أهل الذمة في بلادنا قروناً عديدة نادر منا من اطلع عليها، بينما هنالك ناشطون حاقدون من المسيحيين أشهروها في الأوساط المسيحية في المنطقة، لتحريضهم على العمل على أن لا تتكرر بأي شكل من الأشكال. لا يمكننا أن نلوم أحداً أنه منزعج من تاريخه الذي كان فيه أجداده الذين أصروا على دينهم يعيشون حياة فيها صغار كما أمر القرآن الكريم. كما إننا نستطيع أن نفهم الرعب المنتشر عند المسيحيين في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي خشية أن يصل إسلاميون متشددون للحكم فيفرضوا عليهم هذه الشروط من جديد.

 

صحيح أن الشروط العمرية مذلة للذميين، لكنها كانت مطبقة في جو من الرحمة، إذ لم يعرف التاريخ فاتحاً رحم الشعوب المغلوبة كما رحم العرب الشعوب التي فتحوا أو قل احتلوا بلادها. لم يحتلوها لينهبوا خيراتها ويستعبدوا أهلها، بل لإزالة أية حواجز أمام دعوتهم تعيق دخول أولئك في الإسلام دون إكراه، وأذكركم بالحكمة التي أعتقد أن الله أرادها عندما قال: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، لكن لم يسجل التاريخ أي اضطهاد لليهود والنصارى في البلاد الإسلامية، اللهم إلا ما يدعيه الأرمن من اضطهاد مارسه عليهم القوميون الأتراك خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وهو لم يحدث لأسباب دينية على الإطلاق، إنما وقع لأن الأرمن تعاونوا مع الجيش الروسي الذي احتل شرق تركيا وارتكبوا مذابح بحق أهلها. كان الأرمن بنظر الجيش التركي خونة يستحقون أقسى معاملة، وبخاصة أن القوميين الأتراك الذين أسقطوا الخلافة العثمانية، كانوا هم المسيطرين على الجيش التركي. أي بكل بساطة، الإسلام بريء من أية مذابح بحق الأرمن والقضية كانت قومية.

 

ثم من شاء منكم فليقرأ تاريخ اليهود في أوربا على مدى القرون التي سبقت الثورة الفرنسية ليرى مقدار الاضطهاد الذي وقع على اليهود هناك ولقرون عديدة لمجرد أنهم يهود، إلا في الأندلس حيث ازدهروا مالياً وثقافياً ونعموا بأفضل حياة في تاريخهم بعد الشتات وقبل الثورة الفرنسية. وقد واجهوا مشكلة كبرى عندما سقطت الأندلس بكاملها بيد النصارى الأوربيين، فهاجر بعضهم إلى المغرب واستوعبت تركيا العثمانية الباقي، فاستقروا آمنين في ديار المسلمين. نعم كانت كلمة (وهم صاغرون) تجعلهم درجة ثانية لكن لم يقع عليهم أي ظلم لأنهم يهود كما كان يقع في أوربا المسيحية. الإسلام لم يلغ الرق وبقي قسم كبير من البشرية عبيداً لغيرهم، لكن الإسلام حرم على السادة أن يظلموا عبيدهم أو أن يكلفوهم مالا يطيقون من الأعمال، وأمرهم أن يطعموهم مما يَطعمون هم أنفسهم وكذلك أن يلبسوهم مما يلبسون.. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن المعرور بن سويد قال: رأيتُ أبا ذرٍّ وعليه حُلَّةٌ وعلى غلامه مثلُها. فسألتُه عن ذلك؟ قال: فذكر أنه سابَّ رجلًا على عهد ِرسولِ اللهِ ﷺ. فعيَّرَه بأمِّه. قال: فأتى الرجلُ النبيَّ ﷺ. فذكر ذلك له. فقال النبيُّ ﷺ: «إنك امرؤٌ فيك جاهليةٌ. إخوانُكم وخولُكُم. جعلهم اللهُ تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يدَيه فلْيطعِمْه مما يأكل. وليلبسْه مما يلبس. ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم. فإن كلَّفتموهم فأَعينوهم عليه». إن كان هذا هو حال العبيد في الإسلام فما تكون حال الذميين وهم أحرار؟ فحتى الجزية اشترط ربنا أن لا تؤخذ من فقيرهم، بل لا تؤخذ إلا «عن يد» أي من القادرين عليها دون إرهاق. ربنا بعث محمداً ﷺ ليكون رحمة للعالمين أي لشعوب الأرض كلها قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ{107}﴾ [الأنبياء: 107].

9. وضع جديد وأحكام جديدة

والسؤال هو: ما الذي تغير الآن؟ أليسوا الآن أهل الكتاب والغالبية العظمى منهم غير موحدين لله وينكرون نبوة محمد ﷺ، أي هم كفار ويشملهم قوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{29}﴾ [التوبة: 29].

 

أولسنا مأمورين بمقاتلتهم وفرض الجزية والصغار عليهم لعلهم يؤمنون؟ ألم يكن الصحابة أعلم بدين الله وهم الذين أجمعوا على الشروط العمرية وبالتالي هي من فرائض الإسلام ويأثم من يتحرج منها؟

 

أسئلة مشروعة وتحتاج إلى إجابات مقنعة قبل أن نعلن أننا نؤمن بالديمقراطية والمواطنة الكاملة لكل من يعيش على أرض بلداننا بما فيهم من كان أجدادهم ذميين.

 

أولاً: حتى لو قويت شوكتنا وصرنا أقوى أمم الأرض وبقيت البشرية على حالها تعطي حرية الاعتقاد والتعبير والعبادة لكل الناس فما لنا من حق في قتال أحد إلا دفاعاً. هذه الحرية التي ينعم بها الناس في أوربا وأمريكا وباقي بلدان العالم الحر إنجاز حديث للبشرية لم تكن تتصوره قبل هذا العصر باستثناء الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لغير المسلمين. القتال الذي أمر به الله في سورة التوبة ليس قتالاً للدفاع، لأن القتال للدفاع حق تكفله شرائع الأرض وشرائع السماء وقد أذن به الله للمؤمنين بمجرد أن صارت لهم دولة في المدينة المنورة. كان قتالاً هجومياً يسمى قتال الطلب مقابل قتال الدفع في حال تعرض المسلمين للعدوان. لم يكن الهدف من هذا القتال وفتح الأقطار والبلدان أن يتم إكراه أهلها على الإسلام، بل كان الهدف تحريرهم من القيود التي كانت عليهم وكانت تحول دون وصول دعوة الحق إليهم وتحول دون دخولهم في الإسلام إن هي وصلتهم وأرادوا ذلك. إن أردنا أن نصف الحروب التي خاضها المسلمون وفتحوا بها بلداناً كثيرة بالدفاعية فيمكننا ذلك، لكن لم تكن دفاعاً عن المسلمين، بل دفاعاً عن حرية الاعتقاد وعن حق الشعوب في أن تختار الدين الذي تريده دون إكراه ولا اضطهاد. نعم أمرنا بالقتال كي لا تكون فتنة وكي يكون الدين كله لله. قال تعالى:

 

﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ{190} وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ{191} فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{192} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ{193}﴾ [البقرة: 190-193].

 

ربنا يعتبر الإكراه في الدين الذي يسميه فتنة جريمة وظلماً أشد من القتل. وهذا أحد معاني كلمة فتنة في القرآن، حيث قال الله تعالى عن أصحاب الأخدود الذين أكرهوا الناس على العودة لعبادة الملك بدل عبادة الله وألقوا في أخدود النار كل من ثبت على الحق: «فتنوا المؤمنين والمؤمنات» ولنقرأ هذه الآيات:

 

﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ{4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ{5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ{6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ{7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ{10}﴾ [البروج: 4-10].

 

وربنا كلف المسلمين أن يكونوا حراساً لحق البشر كلهم في حرية الاعتقاد، ووعد الجنة لمن يقتل منهم دفاعاً عن حرية غيرهم. لا تستغربوا فنحن مأمورون أيضاً أن نقاتل لرفع الظلم والاضطهاد عن أية أمة مستضعفة مؤمنة كانت أو كافرة. قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً{75}﴾ [النساء: 75].

 

عام 1994م في شهر إبريل/نيسان بدأت مذابح في رواندا قام فيها المتطرفون من قبائل الهوتو بقتل حوالي مليون من الرجال والنساء والأطفال من قبائل التوتسي خلال ثلاثة أشهر، وتم قتل الكثيرين بالمناجل والفؤوس لعدم توفر أسلحة نارية للجميع. فرنسا وبلجيكا أرسلتا حوالي ألف جندي إلى رواندا من أجل حماية رعاياهما هناك، ولم يتدخل أحد. بعد المذابح بسنين عبر مسؤولون أمريكيون عن شعورهم بالذنب والخزي لأنهم لم يفعلوا شيئاً لإيقاف تلك المذابح، ثم تكشَّف أن فرنسا كانت مشاركة في المذابح. لو كان للمسلمين دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية هل كانوا سيتركون أولئك المستضعفين من الرجال والنساء والأطفال يذبحون بمعدل عشرة آلاف ذبيح كل يوم؟ إن قتالنا واستشهادنا لإنقاذ هؤلاء المستضعفين وإن كانوا غير مسلمين عبادة وجهاد تماماً كالجهاد لإعلاء كلمة الله.

 

أعود لحرية الاعتقاد والدعوة والعبادة التي تسود الأرض هذه الأيام لأذكر أنه لم يعد هنالك مبرر لأي قتال للذين كفروا من أهل الكتاب ولا من غيرهم، بل هي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتأليف القلوب بالإحسان إلى الناس، لأن الحب والرغبة في الانتماء هما أكبر دافعين للناس لأن يؤمنوا بدين الله. وهذا يعني أنه ليس متوقعاً أن يصبح عندنا ذميون مرة أخرى.

 

لكن أليس لنا الحق إن استعدنا عزتنا أن نفرض على المسيحيين وغيرهم ممن كانوا ذميين في بلادنا أن يلتزموا بالشروط العمرية لأن الذي ألغى تطبيق هذه الشروط هو الاستعمار الأوربي الذي ليس له أية شرعية أو حق أن يفقدنا الامتيازات التي كنا نتمتع بها؟

 

لا ليس لنا الحق في ذلك. إن انتصار المسلمين على البلاد التي فتحوها جعل كل أهلها من غير المسلمين ذميين، وانكسارنا أمام الأوربيين جعلنا والذين كانوا ذميين عندنا، نتساوى كمواطنين في دول أنشأها المستعمرون ولم يأخذوا رأينا في حدودها المصطنعة. هكذا الدنيا، إنكسار المسيحيين أمام الجيوش المسلمة حولهم إلى ذميين في بلادهم، أما انكسارنا أمام الأوربيين فلحسن حظنا لم يحولنا إلى ذميين وبخاصة أن المستعمرين مسيحيون، بل أفقدنا الامتيازات وأخرج المسيحيين وغيرهم من رتبة الذميين إلى رتبة المواطنين. طالما نرى تحول من لم يسلم من أهالي البلاد التي فتحها المسلمون إلى ذميين بسبب هزيمة عسكرية حلت بهم نراه عدلاً، فإنه من العدل أيضاً أن تتحسن حالتهم بمجرد هزيمتنا عسكرياً أمام من يشاركونهم الدين والمعتقد.

 

﴿...وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...﴾ [آل عمران: 140].

10. من سياسة إلى ديـن

لكن أليست الجزية والشروط العمرية من فرائض الإسلام وعلينا تطبيق جميع فرائضه ولا نخشى في الله لومة لائم؟ أوافق أن علينا أن نطبق ديننا دون مبالاة باستحسان الآخرين لذلك أو استنكارهم، لكن علينا التأكد أن ما سنطبقه ونصطدم مع الآخرين بسببه هو فعلاً من ثوابت الدين. أعود لأكرر أن الجزية لا يحل للمسلمين أن يأخذوها من أهل الكتاب وغيرهم إلا نتيجة التغلب بالقوة العسكرية عليهم، وكلنا نعلم أن دولنا التي نعيش فيها الآن ليست ثمرة انتصاراتنا، بل ثمرة هزائمنا وضعفنا. أي بعد تخلفنا وتراجعنا حتى عن ثوابت ديننا وانتشار الجهل فينا سواء بالدين أو بالدنيا لم يعد لنا الحق في استعادة ما فقدناه من وضع متميز في بلادنا كمسلمين. أما الإجماع الذي بناء عليه اعتبر أخونا الشيخ علي نايف الشحود وغيره من الإسلاميين الجزية والشروط العمرية واجبة التطبيق على غير المسلم لمجرد أنه غير مسلم مغلوباً كان أو غالباً فله حكاية أخرى.

 

عندما اختلف المسلمون حول أحقية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في أن يكون خليفة رسول الله وادعى من تشيع له أن النبي ﷺ أوصى لعلي بالخلافة وأن هنالك نصوصاً في القرآن والحديث تثبت ذلك، وبالغوا في الأمر فأضافوا في الشهادة "وأن علياً ولي الله" بعد "أن محمداً رسول الله" بحيث تحولت السياسة إلى عقيدة دينية، لم يجد أهل السنة والجماعة نصوصاً قوية ترجح حق أبي بكر وعمر وغيرهما بخلافة رسول الله، إنما كانت مبايعة أبي بكر قراراً بناء على اتفاق الصحابة للحفاظ على الاستقرار ودرء الفتنة بين المسلمين، بالغ السنة أيضاً وأدخلوا السياسة في العقيدة فجعلوا إجماع الصحابة وكذلك إجماع مجتهدي الأمة في أي عصر من العصور مصدراً للتشريع لا يقل عن القرآن والسنة، وادعوا أن الأمة بمجموعها معصومة من أن تجتمع على ضلالة، وبالتالي يكون كل ما أجمعت عليه متمثلة بمجتهديها في عصر من العصور حقاً ثابتاً لا شك فيه، وعلى الأمة التوقف عنده والالتزام به وعدم مراجعته إلى يوم القيامة. وبالمقابل آمن الشيعة أن أئمتهم المختارين من الله من ذرية فاطمة الزهراء رضي الله عنها معصومون، وكل ما يأتون به من حلول للمستجدات في حياة المسلمين إنما هو استمرار لرسالة محمد ﷺ من دون أن يكونوا أنبياء، فصار الإيمان بالولاية عقيدة لا يكتمل إيمان المسلم من دونها، لأنه يترتب عليها الإيمان بعصمة الأئمة وبكونهم مصدراً متجدداً للتشريع في الإسلام. واضح أن اعتقاد العصمة للأئمة وأن ما يقولونه مصدر للتشريع لا يقل عن الكتاب والسنة، وكذلك الاعتقاد أن الأمة بمجموعها معصومة، وأن إجماع مجتهديها في أي عصر بعد النبي ﷺ هو المصدر الثالث للتشريع الإسلامي، واضح أن كلاً من العصمتين، عصمة الأئمة وعصمة الأمة كانتا وما تزالان وسيلتي السنة والشيعة لإجبار كل من ينتمي لهاتين الطائفتين على عدم الخروج عن رأي سياسي تجاوزه الزمن متعلق بمن كان أولى أن يخلف رسول الله، علي أم أبو بكر ثم عمر. صدقوني كثيراً ما أقرأ لعالم دين معاصر أو من السابقين وأعجب كثيراً برجاحة عقله وقدرته على التفكير الناقد المستقل ومنطقه السليم أو القوي في المحاججة، ثم يفاجئني بتحوله إلى مجادل غير منطقي، يعتبر الأدلة الهزيلة أدلة قطعية، ويقع في أخطاء التفكير والمحاكمة العقلية التي كان ينتقد غيره عليها قبل سطور، كل ذلك ليثبت العصمة والحجية التي ما بعدها حجية للإجماع إن كان سنياً وللأئمة من آل البيت إن كان شيعياً. يجادلون لإثبات إحدى هاتين القناعتين بالمنطق الهزيل نفسه الذي يجادل به مسيحي يريد أن يثبت لنا أن عيسى -عليه السلام- ابن الله. لكن ولله الحمد ليس انحرافنا وانجرافنا مع السياسة خطيراً مثل الإيمان أن لله ولداً، وإن كان الإيمان بكلتا العصمتين قد أعاق الأمة عن التطور الفقهي والفكري الديني الذي هي بأمس الحاجة إليه في هذا الزمان.

 

إني أسائل نفسي: متى يراجع المسلمون أنفسهم ويتخلصوا من عقد التاريخ التي كانت سياسية بحتة حولها المسلمون إلى دينية عقدية، من يخالفها يكون كافراً أو على الأقل ناقص الإيمان. السابقون معذورون وهذه كانت وسائلهم في الصراع ما بينهم، لكننا نحن في هذا الزمن أقدر منهم على الرؤية والتحليل ودراسة ما حدث والتحرر من إساره لنعود إلى الكتاب والسنة ونكتفي بهما مصدرين للتشريع لا ثالث لهما، نحيل كل مستجدات حياتنا ونردها إلى أولي الأمر منا، أي حكمائنا في الاختصاصات المختلفة وممثلينا في المجالس التشريعية ليختاروا للأمة ما ينفعها ويجنبوها الوقوع فيما يضرها. بعد وفاة محمد ﷺ لا أحد معصوم إلا آيات القرآن الكريمة المحكمات ذوات الدلالة القطعية وما صح من حديث شريف قطعي الدلالة أيضاً، والباقي يكفينا فيه غلبة الظن وعلى الله القبول. إن التحرر من خرافة العصمة عند السنة وعند الشيعة لن يتم بسهولة أبداً، بل يحتاج إلى جهود جبارة من أبناء الأمة الإسلامية، الذين يجتمع فيهم الذكاء العالي وقوة الشخصية اللازمة للإبداع، كي يخلصوا الأمة من خرافتين دخلتا العقيدة الإسلامية وترسختا وصارت لهما جذور عميقة فيها. الأمر خطير ويستحق الجهد، وسيكون هو أقوى ما نفعله تأثيراً كي تنطلق الأمة، سنتها، وشيعتها، لتعود لها العزة التي ضاعت وليلقي الإسلام بجرانه وأثقاله في الأرض، ويظهر على الدين كله.

11. المواطنة والانتماء عند المسلم

إذن في هذا الزمان صار المسيحي وغير المسلم عموماً مواطناً مثلي، له بحكم انتمائه للدولة التي أنتمي إليها كل الحقوق والواجبات، ولم يعد ذمياً؟ كيف أتقبل أنني أنتمي أنا والكافر لأمة واحدة؟ وكيف اطمئن على مستقبل أمتي إن أعطي هؤلاء الحق في الوصول إلى المراتب القيادية العليا؟، وهل يمكنني أن أثق بمسيحي أو ماركسي ملحد أو غيرهما من الكفار الذين يشاركونني الانتماء إلى دولة واحدة؟ لقد عشنا نحن وهم القرون العديدة في بلد واحد وربما في حي واحد لكنني كنت دائماً أعتبر نفسي واحداً من أمة الإسلام، وأعتبر الخليفة من أي قطر أو لغة أميراً لي، أما الكفار الذين كان علي أن أتعايش معهم فما كنت أشعر يوماً أنني أنتمي أنا وهم إلى أمة واحدة، كانوا من أمة أخرى يعيشون ما بيننا بشروطنا وعليهم أن يحمدوا الله على تسامحنا معهم وامتناعنا عن ظلمهم واضطهادهم.

 

الحق معي أليس كذلك؟

 

مؤلم الانتقال من العزة إلى التشارك مع الآخرين المختلفين عنا، والأسوأ أننا أجبرنا على ذلك. لكن دعونا نفكر ونحن دائماً نرد الأمور التي تشكل علينا إلى الله والرسول، أي إلى الكتاب والسنة إضافة إلى الحكمة التي تكسبنا إياها خبرة الحياة. المواطَنة لمن يجد هذا المصطلح جديداً عليه وغير محدد المقصود منه، هي ببساطة أن يكون لأهل دولة من الدول الحقوق والميزات نفسها بغض النظر عن أي اعتبار آخر غير انتمائهم لهذه الدولة، كما يكون عليهم الواجبات نفسها نحوها، ولهم الحق في المشاركة في بنائها وتسييرها، ولرأيهم الوزن والاعتبار نفسه، بغض النظر عن جنسهم (نساء أو رجال) وعن لغتهم وأصلهم القومي وعن دينهم ومذهبهم وقناعاتهم وفلسفتهم بالحياة. أي إن أخذنا مثالاً سورية والسوريين، فالمواطنة هي انتماؤنا كلنا لسورية، أي نشكل أمة اسمها السوريون، العضوية فيها لكل سوري مسلماً كان أو مسيحياً أو غير ذلك، مؤمناً كان أو ملحداً، رجلاً كان أو امرأة، طفلاً كان أو بالغاً أو مسناً، أبيض البشرة أو أسودها، عربياً أو كردياً أو أرمنياً أو شركسياً أو تركياً أو غير ذلك، ناطقاً بالعربية أو بغيرها... كلنا سوريون تجمعنا الجنسية السورية ولا تفرقنا لا الأديان ولا اللغات ولا الجنس ولا اللون ولا العمر. يكون السوريون بمثابة عائلة واحدة كبيرة تتكون من السني والشيعي والإسماعيلي والدرزي والعلوي النصيري، والمؤمن والملحد والإسلامي والعلماني، والعربي والكردي والشركسي والأرمني والتركي، والرجال والنساء والأطفال والشيوخ المسنين، كلهم تربطهم رابطة أنهم سوريون، وكلهم لهم في سورية الحق نفسه في أن يتمتعوا بخيرات الوطن وبأي امتيازات للمواطن السوري، ولهم الحق في المشاركة السلمية في بناء سورية وتقلد أي منصب يكون الواحد منهم أهلاً له من حيث الكفاءة والطاقة (بسطة في العلم والجسم) و(القوي الأمين) دون أي اعتبار آخر طالما أنهم سوريون.

 

هذا يعني أنه لا يمكننا بناء دولة إسلامية كما نحلم في سورية وكما هي الدولة الإسلامية في تصورنا.

 

المواطنة الآن حق لكل سوري وسورية بكل ما تتضمنه من حقوق وواجبات، وليست تنازلاً منا أو تكرماً من الأغلبية السنية على الأقليات ولا تعبيراً عن تسامح ديننا. السوريون كلهم شركاء في سورية لكل منهم نفس القدر الذي للآخر، ولنشبه الأمر بشركة مساهمة أصحابها من أديان وقوميات وأجناس وأعمار وألوان مختلفة. كلهم شركاء فيها لهم نفس العدد من الأسهم، فإن ربحت وكبرت عاد الخير والربح على الجميع بالتساوي، وإن خسرت وتعثرت خسر الجميع بنفس القدر. هل في شركة مثل هذه يقتصر الإخلاص والولاء للشركة على فئة معينة من المساهمين فيها، بحيث يكون ولاؤهم لها وحرصهم عليها لا شك فيه، بينما الأصل في المساهمين من الفئات الأخرى عدم الولاء والإخلاص وسهولة التورط في الخيانة؟ الجميع شركاء بالتساوي في الربح وفي الخسارة وليس فيهم لص فاسد، سيكون ولاؤهم وحرصهم وإخلاصهم لهذه الشركة متساوياً، لأنهم كلهم بشر وعقلاء ومفطورون على الفطرة ذاتها.

 

كان عمر بن الخطاب على حق في الحذر من الذميين لا لأن الخيانة والغدر متوقعة أو متأصلة فيهم لأنهم من دين آخر وبالنسبة لنا كفار، بل لأنهم كانوا أمماً مغلوبةً ومضطرةً لأن تكون وراء المسلمين، الذين كانوا يرون أنفسهم هم المواطنين، ويرون الباقين ذميين في رعايتهم. ليس من المستبعد من المهزوم دينياً وسياسياً، الذي تحول إلى مستأجر لبستانه، وإلى ذمي لا يقبل في الجيش، بل عليه ضريبة سنوية يؤديها صاغراً، أن يفكر بخيانة أمة لم تقبله واحداً منها، ما لم يغير دينه، وهو متمسك به. لذا كان الذمي الذي يدخل في الإسلام يصير مواطناً تماماً مثل المسلمين الفاتحين، ويصبح واحداً منهم بكل ما تعنيه الكلمة، يصبح أخاهم (فقهوا أخاكم) مع أنه قبل لحظات كان ذمياً معاهداً يعيش بين المسلمين في حمايتهم وعلى أرضهم. إن شعور الإنسان أن وطنه يعترف به كمواطن لا يقل عن غيره وله القدر والمكانة والحقوق نفسها، يجعله يتعلق بهذا الوطن ويشعر بالولاء له، وقد يقدم حياته في سبيله، بغض النظر عن دينه ومعتقده. ألا يقاتل من هم بالنسبة لنا كفار على اختلاف مللهم ويُقتلون في سبيل أوطانهم؟ هل يضحي بنفسه إن كان لا يحب باقي المواطنين معه؟ ما الوطن؟ هل هو مجرد الأرض؟.. إنه الأمة، الأسرة الكبيرة التي يعتز أفرادها بالانتماء إليها مع أرضهم وحكومتهم. الوطن ليس مجرد التراب. سورية بالنسبة لي ليست بقعة جغرافية مجردة، إنها الأرض والعمران والإنسان والتاريخ والمستقبل، والثقافة واللغة والأزياء والعادات والأكلات والفنون... انتماء الإنسان للوطن هو الانتماء للأمة التي تعيش على ترابه أكثر منه انتماء لبقعة جغرافية. نعم البلد ذو الطبيعة الخلابة أو الطقس اللطيف نعمة، لكن الشعوب متعلقة بأوطانها مع أن أكثرها فيها ما لا يريح.

 

بحكم عملي كطبيب نفسي وبخاصة عندما كنت أعمل في أبو ظبي، استشارتني نساء من أديان وأعراق وثقافات مختلفة، وأحيانا تكون الخيانة الزوجية أو التعلق العاطفي بغير الزوج هي المشكلة التي من أجلها أتت هذه المرأة إلى الطبيب النفسي. كلنا يتوقع أن تكون المرأة المسلمة التقية وفية لزوجها لا تخونه لأن تقواها تمنعها. هذا صحيح لكن وجدت كل النساء من كل الأديان والشعوب عندهن الميل الفطري نفسه للإخلاص للزوج أو الحبيب، وجدت ذلك عند المسلمات وعند المسيحيات ووجدته عند البوذيات والهندوسيات والكونفوشيوسيات، وعند الشرقيات والأوربيات، وعند المؤمنات والملحدات. هي فطرة المرأة لا تتغير، الأصل فيها أن تخلص للرجل الذي أحبته فلا يدخل قلبها رجل آخر مادام الأول فيه.

 

وهكذا حب الأوطان فطرة عند كل الناس، طالما هم أناس أسوياء وغير فاسدين منحرفين. كل الآباء والأمهات يحبون أولادهم ويبذلون ما يستطيعون من أجل سلامتهم. صحيح أنني أحتسب عند الله ما أنفقه على أولادي، لكن المسيحي أو الهندوسي ليس أقل مني عطاء لأولاده. كل مولود يولد على الفطرة، والبشر كلهم يشتركون بالتكوين النفسي ذاته والميول ذاتها، وما علينا إلا أن نشاهد أفلاماً من أقوام ولغات وأديان مختلفة لنرى كيف أن النفس البشرية واحدة. لو شعر أبناء الأقليات في سورية أن المسلمين السنة يشاركونهم الوطن، ويعتبرونهم مساوين لهم في جميع الحقوق والواجبات، واقتنعوا أن ذلك حقيقي وليس تظاهراً، فإنهم لن يقلوا إخلاصاً وعطاء لسورية عن غيرهم أبداً.

 

لكن هل نصبح مواطنين سوريين وننسى أننا مسلمون نشكل بكافة لغاتنا أو ألواننا أمة واحدة كلنا ننتمي إليها؟ هل يمكن أن نكون مواطنين مع غير المسلمين دون أن يكون ذلك على حساب ديننا؟ وهل يحل لنا أن نحس برابطة بيننا وبين كفار لا يؤمنون بديننا؟

 

يفصّل ربنا في سورة النساء ما يتوجب على المؤمن إن قتل مؤمنا خطأً، فيقول:

 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: 92].

 

فمع أن المؤمن المقتول خطأ مؤمن فإن رب العالمين نسبه إلى القوم العدو للمؤمنين، الذين في الغالب ليسوا مؤمنين، لذلك قال من قوم عدو لكم وهو مؤمن، بهذا التأكيد على إيمان المقتول يؤكد أن قومه قد يكونون كافرين وقد يكونون مؤمنين، لأن المؤمنين يكونون أعداء للمؤمنين أحياناً، ومع أن المقتول مؤمن فإنه يعامل معاملة قومه مؤمنين كانوا أو كافرين، لا دية للمقتول منهم رغم أن المقتول تربطه بالمؤمنين أخوة الإيمان ﴿...فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ...﴾ أي هو واحد من أمة المؤمنين، لكنه من قوم عدو فلا دية له.

 

ومن ناحية أخرى لم يُذكر رسول من الرسل في القرآن إلا وتحدثت عنه بعض الآيات على أنه واحد من قوم، هم قومه، وهو منهم، بل كثيراً ما يقال عنهم إخوته أو إخوانه رغم كفرهم واستحقاقهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة. اقرؤوا هذه الآيات عن نوح -عليه السلام-:

 

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ{59} قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{60} قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{61}﴾ [الأعراف: 59-61].

 

خاطب ربنا الأنبياء بأنهم أمة واحدة تجمعها العقيدة والرسالة رغم تباعد أزمانهم وأماكنهم وأنسابهم. قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52}﴾ [المؤمنون: 51-52].

 

أي كان كل رسول ينتمي إلى أمة تربطها أخوة العقيدة هي أمة الرسل، وكان في الوقت نفسه فرداً من قوم، هم قومه وهو منهم، وحتى لوط الذي بعث في غير قومه الأصليين قال تعالى عنهم وقد كانوا فاسقين «إخوان لوط»:

 

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ{12} وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ{13}﴾ [ق: 12-13].

 

وما أكثر ما يخاطب الرسل أقوامهم قائلين: "يا قومي" يتم تخفيفها في القرآن دون أن يتغير معاناها، فتقرأ "يا قومِ". وهذا يعني أنني من الممكن أن أكون من أمة الإسلام وفي الوقت نفسه أنتمي لقومي السوريين. لا يتعارض شعوري بالأخوة والوحدة مع كل مسلم من أي عرق أو لون أولغة، مع شعوري أنني واحد من قوم أتشارك معهم الوطن ونتعاون جميعنا من أجل أمنه ورفاهيته. هل يتعارض ولائي لأسرتي الصغيرة أي زوجتي وأولادي مع انتمائي لقريتي أو قبيلتي؟ وقد يكون من أفراد أسرتي من هو كافر، أليست المسيحية التي أباح الله لي أن أتزوجها إن كانت محصنة، كافرة؟ أما قال تعالى:

 

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ{72} لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{73}﴾ [المائدة: 72-73].

 

إذن يمكنني أن أكوِّن أنا المسلم المؤمن مع امرأة كافرة بلا جدال - لكنها من أهل الكتاب - أسرة متحابة تكون لها ذرية، أخوالهم كفار، وأعمامهم مسلمون.

12. أمة متحابة متماسكة رغـــم الاختلاف

هنالك من المسلمين من يظن أنه محرم علينا أن نحب غير المؤمنين، بل حتى أن نبدأهم بالسلام، وأن نهنئهم في أعيادهم. وهم بكل نية طيبة يريدون الاستجابة لما أمرنا به ربنا في هذه الآية:

 

﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{22}﴾ [المجادلة: 22].

 

لكن ربنا حذر المؤمنين من كفار هم يهود المدينة، كانوا لهم محبين بينما أولئك الكفار يضمرون للمؤمنين أشد العداوة، فقال:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ{118} هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{119} إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{120}﴾ [آل عمران: 118-120].

 

والله هنا يثبت أن المؤمنين المخاطبين وكانوا صحابة رسول الله ﷺ كانوا يحبون هؤلاء الكفار من اليهود، ولا يدرون أن الآخرين يكرهونهم، وكان المؤمنون يؤمنون بالقرآن وبالتوراة التي يؤمن بها هؤلاء الحاقدون، بينما هم لا يؤمنون بالقرآن. ومع ذلك لم يلمهم الله على حبهم لأولئك، إنما بين للصحابة الكرام أن هؤلاء اليهود ليسوا جديرين بحبهم، لأنه كان حباً من طرف واحد تقابله عداوة شديدة وكراهية وحقد من الطرف الآخر.

 

بالمقابل شهد الله للنصارى أنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، لأن منهم رهباناً وقسيسين عبّاداً لله، ولأنهم لا يستكبرون كما يستكبر اليهود. قال تعالى:

 

﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ{82} وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ{83} وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ{84} فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ{85}﴾ [المائدة: 82-85].

 

بينما كان يهود المدينة يخادعون الصحابة ويدعون أنهم مؤمنون بأن محمداً رسول الله، وأن القرآن وحي من الله، وإن كانوا هم باقين على دينهم، أي يؤمنون بمحمد ﷺ وبالقرآن كما نؤمن نحن برسلهم وكتبهم دون أن نتحول إلى دينهم. بينما النصارى هم الذين يمكن أن تثقوا بحبهم لكم، لأن منهم رهباناً متعبدين، ولأنهم لا يستكبرون على الناس، ولا على الحق، ويشهدون أن ما جاء به محمد ﷺ حق من ربهم.

13. الحب غير الولاء

إن الحب، سواء في العلاقة بين الزوجين، أو العلاقة بين صديقين، شيء مختلف عن الولاء:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{51}﴾ [المائدة: 51].

 

والولاء يكون بين المؤمنين:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{72} وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ{73}﴾ [الأنفال: 72-73].

 

الولاء أكثر من مجرد الصداقة والمودة، إنه تحالف وارتباط قد يبلغ حد الالتزام القانوني، فقد كان المؤمنون في المدينة المنورة بعضهم أولياء بعض وكان النبي وليهم جميعهم والواضح في هذه الآيات نفي علاقة الولاء بين أمة المؤمنين في المدينة المنورة والمؤمنين الذين لم يهاجروا وينضموا إلى دولة الإسلام، إنما بقوا في أرضهم ومساكنهم، مع أن المؤمنين إخوة، وبينهم المودة والرحمة على اختلاف قبائلهم وأوطانهم.

 

إذن من لم يهاجر من المؤمنين إلى المدينة المنورة ويلحق بأمة المؤمنين ليس له حق بولايتهم حتى يهاجر، لكن هذا لا يعني أنه لا حق له في محبتهم وصداقتهم، وهذه الآية دليل على أن الحب والصداقة ليسا هما الموالاة المحرمة علينا إلا مع المؤمنين، أي يمكنك أن تصادق شخصاً كافراً غير محارب للمسلمين وتحبه دون أن تواليه، لأنه لا يعقل أن يحرم علينا ربنا أن نحب أخاً لنا مؤمناً لأنه لم يلحق بنا في دولتنا إما لأن ظروفه لا تسمح له أو لأنه متمسك بموطنه وعشيرته ولا يحب أن يفارقه. للمؤمن على المؤمن حق أن يحب له من الخير ما يحب لنفسه، وأن يحبه في الله ويكون معه في أعلى درجات اللطف، لكن لا يواليه ما دام ممتنعاً عن الهجرة، أي لم ينضم إلى دولتنا ويحمل جنسيتنا، وهذا يرينا أن علينا أن نحب جميع المؤمنين في الأرض ونراهم إخوة لنا، لكن لا نواليهم ما لم يكونوا أعضاء في دولتنا التي نحن مواطنون فيها.

 

وهذه آية أخرى يتضح لنا فيها اختلاف الولاء عن المودة والتحابب، قال تعالى عن الذي قُتل مظلوماً:

 

﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً{33}﴾ [الإسراء: 33].

 

فولي القتيل له صلاحية أن يصر على القصاص وقتل القاتل أو أن يعفو عن القاتل ويتنازل عن دم القتيل أو يرضى بالدية دون الثأر.

 

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ{55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ{56} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{57} وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ{58} قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ{59}﴾ [المائدة: 55-59].

 

أي يشكل المتوالون حزباً واحداً يربط الولاء بين أعضائه، ويعطيهم حقوقاً على بعضهم بعضاً ويفرض عليهم واجبات تجاه بعضهم بعضاً، ومع أن المواطنين في دولة واحدة تربطهم ببعضهم بعضاً علاقة الجنسية المشتركة والوطن الواحد، إلا أن علاقة الولاء مختلفة، لأنها لا تكون إلا بين المؤمنين، بينما المواطنة رابطة تتجاوز الدين والعرق والجنس.

 

البنت البكر الصغيرة بالعمر لا تتزوج إلا بمن يرضاه وليها ويعقد هو قرانها عليه:

 

«الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا، وحدثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا، وَرُبَّمَا قَالَ: وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا.» (صحيح مسلم).

 

وهذا يعني أن الولاء علاقة مختلفة عن مجرد المحبة والمودة، إذ وليها محدد لا يكون غيره ولياً لها مهما كانت تحبه ويحبها.

14. المـودة مــع الكـافــر

قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{9}﴾ [الممتحنة: 8-9].

 

الآية الأولى ترفع الحرج عن المؤمنين فتكون علاقتهم بالكفار الذين لم يقاتلوهم بسبب الدين ولم يخرجوهم من ديارهم علاقة طيبة سماها ربنا البِرّ، وهو قمة الإحسان في المعاملة لذلك أمرنا ببر الوالدين، والأغلب في البر أن يكون مصحوباً بالودّ، بينما الآية الثانية تحرم على المؤمنين موالاة من يقاتلون المؤمنين بسبب إيمانهم، أو يخرجونهم من ديارهم أو يعينون غيرهم على إخراجهم، حتى لو كان الإخراج لسبب آخر غير الدين، بل نحن منهيون عن أن تكون بيننا وبينهم مودة على الإطلاق، لأنهم بعدوانهم على المؤمنين لإيمانهم إنما هم يحادّون الله ورسوله، أي يغاضبونه ويعادونه ويخالفونه:

 

﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{22}﴾ [المجادلة: 22].

 

كما حذرنا تعالى من مُوادّة الكفار المحاربين لنا لإيماننا، فهم لنا عدو يتربص بنا الدوائر وليس من الحكمة في شيء أن تحب عدوك الذي يتحين الفرصة للانقضاض عليك:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ{1} إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ{2}﴾ [الممتحنة: 1-2].

 

أي علينا أن نتخذ من يعادينا في الدين عدواً، فلا نحبه ولا نصادقه ومن باب أولى لا نواليه. والخلاصة أن المودة مع الكافر المحارب لله والرسول والذي عداوته بيّنة هي محرّمة ومن باب أولى موالاته والتحزب معه والتبعية له، لا لأنه كافر، بل لأنه عدو لن يضيع فرصة لإيذاء المؤمنين، والمودة معه تسهل له أن يضرنا. ثم إن المودة تدفع الإنسان إلى أن يتشبه بالمحبوب، والله لا يرضى لنا أن نقتبس أية أخلاق من كافر محارب لدين الله، وبالمقابل إن المودة تجعل غير المؤمن الذي ليس عنده ما يدفعه إلى الحقد على الإسلام والمسلمين ومحاربتهما، يميل وهو يشعر أو لا يشعر إلى التشبه بالمؤمنين ثم الانضمام إليهم، ولهذا شرع ربنا أن نخصص جزءاً من مال الزكاة نتألف به قلوب بعض الكفار من أجل اجتذابهم للإسلام. ومخطئ من يظن أنه يكفي أن نبين للكفار محاسن الإسلام كي ينجذبوا إليه ويدخلوا فيه. قد يكفي هذا لهداية فئة قليلة من الذين وهبهم الله الحكمة والتعقل، لأن الغالبية العظمى من الناس تدخل في الأديان وتؤمن بها لأسباب وجدانية تجعلهم ينظرون إلى الحق الذي فيها فلا ينكرونه، بل يأخذون به وينضمون إلى المؤمنين به. ولا يمكن أن نجتذب الناس للإسلام إن كنا نكرههم ونحقد عليهم، نعم نحن لا نحب الضلال الذي هم فيه، ولا نحب منهم من يعادينا ويعادي ديننا، لكننا نحب الخير لجميع البشر مؤمنهم وكافرهم، ونحرص على إنقاذهم من النار لأننا نحبهم، لا لأننا نكرههم. إن كنت أكرهك ما الذي يجعلني أحرص عليك وأجتهد في محاولتي هدايتك؟ ما دمت أكرهك فلتذهب إلى الجحيم. نحن بشر وتحكمنا عواطفنا وأفكارنا ولا يمكن أن نجمع في قلوبنا الكراهية والعداوة للكفار مع الرغبة الحقيقية في هدايتهم، لأن ما خرج من القلب هو الذي يدخل إلى القلب.. ديننا دين الرحمة، ولا تحس القلوب بالرحمة وهي مملوءة بالعداء، لأن العداوة تولد البغضاء وتصاحبها، أما الرحمة فهي وليدة المودة ورفيقتها. كان النبي ﷺ يدعو لقومه بالهداية بكل صدق في أشد مواقف الإيذاء الذي ناله منهم. لن نستطيع أن نهدي البشرية ما لم نحبها، ولن يهتدوا ما لم يحبونا، ولن يحبونا إن لمسوا منا الجفاء والكراهية. إن كنا نريد أن نكون على خطا محمد ﷺ وأن نخرج الناس من الظلمات إلى النور كي ننال رضى الله وثوابه العظيم فعلينا أن نكون مثله رحمة للعالمين، والعالمين في القرآن تعني كل الشعوب مؤمنها وكافرها، بل وتعني غير البشر من مخلوقات. إن تبليغهم الرسالة ونحن نستشعر الكراهية لهم ليس هو البلاغ المبين الذي يقيم عليهم الحجة ويبرئ الذمة، ألم يوص ربنا موسى وهارون أن يتلطفا في دعوة فرعون وأن يقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو أن يخشى فيهتدي وينجو من عذاب الله. أرأيتم إلى التجار والباعة الذين يريدون أن يبيعوا بضاعتهم كيف يتقربون إلى الزبائن وهم كلهم حرص على كسب مودتهم وإعجابهم، ألسنا تجاراً مثلهم بضاعتنا هي دعوة الحق؟ يقول الشافعي:

 

وعين الرضا  عن  كل  عيب كليلة                         ولكن عين السخط تبدي المساويا
ولســت بهيّاب  لمـن  لا    يهابنـي                         ولسـت  أرى  للمرء  ما لا  يرى  ليـا
فإن تدن مني تدن منك   مودَّتـي                         وإن  تَنْــأ  عنـي  تلْقني  عنـك   نائيـاً
كلانا   غني   عن    أخيه   حياته                         ونحـن   إذا   متنــا   أشـــــــد    تغانيـــا

 

عندما ترضى عن إنسان فإنك لا تكاد ترى إلا محاسنه، وإن أنت لم تر فيه إلا محاسنه فإنك ستعجب به ثم تحبه، وبالمقابل إن كنت ساخطاً على إنسان فإنك لا تكاد ترى فيه إلا معايبه، وعندها يستحيل أن تعجب به وأن تحبه. كيف سنكسب قلوب البشر لنجعلهم يعجبون بنا ويحبوننا فيدخلون في ديننا الحق؟ إننا نمتلك أغلى وأرقى وأهم سلعة يمكن للبشرية أن تعرفها لكننا تجار فاشلون، ننفر زبائننا منا بدل أن نجتذبهم إلينا. أطلقوا لقلوبكم العنان، واتركوها تحب وترحم كل شيء، وكل بشر، ولا تكون شدتها إلا على من يحاربها في دينها أو يخرجها من ديارها، وعندها سنتحول إلى أذكى وأمهر تجار، وسيكثر زبائننا ويدخلون في دين الله أفواجاً.

15. الســـلام على الكـافــر

لم يستطع اليهود بالمدينة المنورة التحكم بمشاعر الكره والحقد والحسد والازدراء التي امتلأت بها قلوبهم نحو النبي ﷺ ونحو أصحابه، فصاروا إذا التقوا بأحد منهم يقولون له: (السّامُ عليكم) والسّام هو الموت، فهو دعاء على النبي ﷺ أو على الصحابي بالموت، يدعونه وهم يتظاهرون أنهم يلقون السلام، لأن كلمتي السّام والسلام قريبتان في اللفظ. لم تنطلِ حيلتهم على محمد ﷺ، فصار لا يقول في رده على تحيتهم إلا كلمة وعليكم، فإن كان السلام رده إليهم وإن كان السّام ارتد عليهم، ولم يجعل منها قضية، لأنه حليم، وليس من عادته أن يغضب لنفسه، بل لا يغضب إلا لله. لم تمر الأمور بسلام حيث جاء يهود إلى النبي ﷺ وعنده زوجه عائشة رضي الله عنها وحيوه بالسّام بدل السلام، فغضبت عائشة وردت عليهم بعنف، فعلمها النبي ﷺ أن الرفق أخلق بالمؤمن وتوجه بتعليمٍ لأصحابه أنهم إن سلم عليهم أهل الكتاب "وهذا كان الاسم المستعمل لليهود في المدينة في الغالب" أن يقتصر ردهم على كلمة وعليكم.

 

لنقرأ هذه الأحاديث الشريفة:

 

  • دخَل رَهطٌ من اليهودِ على رسولِ اللهِ ﷺ، فقالوا: السَّامُ عليكم، قالتْ عائشةُ: ففَهِمْتُها، فقلْتُ: وعليْكُمُ السَّامُ واللَّعْنَةُ، قالتْ: فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَهْلًا يا عائشةُ، إن اللهَ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كُلِّه». فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أو لم تسمَعْ ما قالوا؟ قال رسولُ اللهِ ﷺ: «قد قلْتُ: وعليكم» (رواه البخاري)
  • أتى اليهود النبيَّ ﷺ فقالوا: السّامُ عليك، قال: (وعليكم). فقالتْ عائشَةُ: السّامُ عليكم، ولعَنَكمُ اللهُ وغضِبَ عليكم، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَهلًا يا عائشَةُ، عليكِ بالرِّفقِ، وإياكِ والعُنفَ، أو الفُحشَ». قالتْ: أولم تسمَعْ ما قالوا؟ قال: «أو لم تسمعي ما قلتُ، ردَدْتُ عليهم، فيُستَجابُ لي فيهم، ولا يُستَجابُ لهم فيَّ». (رواه البخاري).
  • كان اليهودُ يُسَلِّمونَ على النبيِّ ﷺ يقولونَ: السّامُ عليك، ففطِنَتْ عائشةُ إلى قولِهم، فقالتْ: عليكمُ السّامُ واللعنةُ، فقال النبيُّ ﷺ: «مَهلًا يا عائشةُ، إن اللهَ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه». فقالتْ: يا نبيَّ اللهِ، أولم تسمَعْ ما يقولونَ؟ قال: «أولم تسمَعي أني أرُدُّ ذلك عليهِم، فأقولُ: وعليكم». (رواه البخاري).
  • مرَّ يهوديٌّ برسولِ اللهِ ﷺ فقال: السّامُ عليكَ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (وعليكَ). فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أتدرونَ ما يقولُ؟ قال: السّامُ عليكَ». قالوا: يا رسولَ اللهِ، ألا نقتُلُهُ؟ قال: «لا، إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتابِ، فقولوا: وعليكُم» (رواه البخاري).
  • «إذا سلّم عليكم اليهود، فإنما يقول أحدهم: السّام عليك، فقل: وعليك» (رواه البخاري).
  • «لا تبدَؤوا اليهودَ ولا النصارى بالسلامِ. فإذا لقِيتُم أحدَهم في طريقٍ فاضطَرُّوه إلى أضيَقِهِ» (رواه مسلم).
  • «إذا لقِيتم أهلَ الكتابِ وفي رواية: المشركين، فلا تبدؤوهم بالسلامِ، واضطَّروهم إلى أضيقِ الطريقِ» (رواه البخاري في صحيح الأدب المفرد وصححه الألباني).
  • «لا تبدَأوا اليَهودَ والنَّصارى بالسَّلامِ، وإذا لقيتُم أحدَهُم في الطَّريقِ فاضطرُّوهم إلى أضيَقِهِ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

 

كان النبي ﷺ كثيراً ما يقول أهل الكتاب ويقصد يهود المدينة مع أنهم ليسوا هم كل أهل الكتاب، إذ هنالك باقي اليهود المشتتين في بلدان كثيرة، وكان هنالك أيضاً النصارى الذين يشكلون أمماً كاملة. وحتى القرآن الكريم يقول أحياناً أهل الكتاب ويكون المقصود هم يهود المدينة. لم يكن يحصل أي لبس أو إشكال في الفهم لدى السامعين، فالعرب تقول الناس وتقصد بعض الناس مثل باقي الأهل أو الجيران أو العشيرة، مع أن كلمة الناس المعرفة باللام والألف يمكن أن تعني البشرية كلها، وعلى العادة نفسها كان النبي ﷺ يقول أهل الكتاب، ويقصد قلة قليلة منهم، أي يهود المدينة، مع أن هذه الكلمة يمكن أن تعني جميع أهل الكتاب في كل زمان ومكان.

 

أراد ﷺ أن يحذر أصحابه من أذى يهود المدينة فأمرهم أن لا يبدؤوا أهل الكتاب بالسلام، وأن يردوا عليهم سلامهم بكلمة (وعليكم) فقط. وصلتنا نصيحته وتحذيره لأصحابه لا تبدؤوا اليهود والنصارى أو ولا النصارى بالسلام... الحديث. ويبقى التساؤل هل حذر النبي ﷺ صحابته وأمرهم ألا يبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، مع أن الذين كانوا يؤذونهم هم اليهود، ولم تذكر السيرة أنه كان يعيش في المدينة يومها أي نصراني؟ أم أنه قال لهم لا تبدؤوا أهل الكتاب بالسلام وحصل إبدال هذه الكلمة في ذاكرة أحد الرواة بما تعنيه عادة أي اليهود والنصارى؟ كلا الاحتمالين وارد. المهم سياق الأحداث يبين بما لا يدع مجالاً للشك أن النهي عن بدئهم بالسلام كان إجراءً احترازياً مخصوصاً بزمانه ومكانه والناس المقصودين به.

 

عندما جُمعت أحاديث رسول الله من ذاكرة الرواة بعد أجيال من النبي ﷺ وصحابته، وتطور علم الحديث والفقه، ثم وضع الفقهاء قواعد أصولية وقواعد فقهية يسترشدون بها في عملية استنباط الأحكام، وضعت قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، وبذلك تحول تحذير النبي ﷺ من أذى يهود المدينة في عهده والذي انتهى برحيلهم عن المدينة، إلى حكم شرعي مطلق وعام، ينطبق على كل اليهود والنصارى، وعلى كل المسلمين في كل زمان ومكان. إن أخذ النص معزولاً عن سياقه التاريخي والكلامي واستنباط الأحكام منه يمكن أن يوصلنا إلى نتائج مثل هذه. لم يَفُت بعض فقهاء الأمة ذلك، فنبهوا إلى أهمية اعتبار السياق لمعرفة ما تدل عليه الآيات والأحاديث، لكن المسلمين المتغلبين على اليهود والنصارى ما كانوا بحاجة إلى مراجعة الحكم الشرعي الذي سبق أن وضعه الفقهاء السابقون بناء على عموم لفظ أهل الكتاب أو اليهود والنصارى. أما في زماننا هذا حيث نعيش عصر الضعف والذلة بعد قرون من الانحطاط وتفكك عرى الإسلام والاستعمار الأوربي فقد صرنا في حاجة حقيقية لمراجعة حكم تحريم بدء المسيحي أو اليهودي بالسلام، فهم لم يعودوا أهل ذمة عليهم الرضا بوضعهم لأنهم أمة مغلوبة عسكرياً. ومما يبشر بالخير أنه هنالك عودة وعي بأهمية السياق في استنباط الأحكام تتجلى بالكم الكبير من المقالات ورسائل الماجستير والدكتوراه التي تبحث هذا الموضوع وتؤكده من جديد، كما هنالك أيضاً من تجرأ من فقهاء هذا العصر ومفكريه الإسلاميين على إعادة النظر في هذا الحكم الذي لا يبدو منسجماً مع روح الإسلام، دين الرحمة وتأليف القلوب. ربنا لا يأمرنا إلا بالنافع لنا ولا يحرم علينا إلا الخبائث الضارة بنا، فما الضرر في أن نبدأ أصدقاءنا أو زملاءنا المسيحيين بالسلام؟

 

اعملوا بحثاً في القرآن الكريم واستعرضوا التكرار الكثير لأمر الله لعباده الصالحين أن يقولوا سلام، وحتى وهو يتحدث عن المشركين العرب يقول:

 

﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ{87} وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ{88} فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ{89}﴾ [الزخرف: 87-89].

 

أي مع أنه يؤكد أنهم لا يؤمنون ولا يجدي معهم الجدال يأمر نبيه ﷺ أن يصفح عنهم ويقول سلام، وهل تتصورون ربنا يقصد أن يصفح الرسول ﷺ عن المشركين المعاندين ويردد لنفسه كلمة سلام، وهي في أغلب المواضع التي وردت فيها في القرآن الكريم كانت تعني بوضوح سلام التحية.

 

إذن ليس تحريم بدء المسيحيين واليهود بالسلام من ثوابت الإسلام، وطالما هنالك فهم آخر للحديث الوحيد الذي ينهى عن بدئهم بالسلام، ليس معتسفاً ولا متكلفاً، وأغلب الظن أنه هو الحق، فليس على المؤمن حرج أن يبدأ أهل الكتاب بالسلام. الغريب أن الفقهاء أصروا على تحريم بدء أهل الكتاب بالسلام وبقي بدء المشركين من الأديان المختلفة والملحدين بالسلام على حاله، أي مباحاً، مع أن الله أعطى لأهل الكتاب مكانة خاصة ومعاملة خاصة في ديننا. علينا أن ننظر إلى الإسلام نظرة شاملة تأخذ كل أوامره ونواهيه ومقاصده بالاعتبار دفعة واحدة، وأن نكف عن الطريقة التجزيئية في النظر لمفردات ديننا، كي لا نقع بالتناقض. هل يعقل أن ديناً يسمح لك أن تتزوج مسيحية، وبالفطرة لا بد أن يكون بينكما المودة والرحمة، ثم يحرم عليك أن تبدأها بالسلام؟ لو كان هذا الدين وكتابه الكريم القرآن من عند غير الله لكان التناقض بين بعض مفرداته شيئاً طبيعياً ومتوقعاً:

 

﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً{82}﴾ [النساء: 82].

 

لقد لفت ربنا أنظارنا إلى إحدى آياته التي تثبت لنا أن القرآن من عنده وهي غياب الاختلاف والتناقض بين آياته، وسنة نبيناً مبينة ومفسرة للقرآن ولابد أن تكون مثله خالية من التناقض، إلا ما نتج عن انتقالها إلينا بروايات من الذاكرة وما حاول الذين يكرهون ديننا أن يدخلوه فيها من باطلهم. ما عليكم إلا أن تستعرضوا الأحاديث الموضوعة لتروا إلى أي حد هي تتعارض مع القرآن وثوابت السنة.

 

16. مــواطنون لا ذميــون

هاجر النبي ﷺ بعد أن أسلم من أهل المدينة عدد كبير، وما أن استقر به المقام حتى وضع ما يسمى صحيفة المدينة أو وثيقة المدينة، التي يقول عنها الدارسون: إنها أول دستور مكتوب في التاريخ. كان ما يزال كثيرون من أهل المدينة مشركين، وكان في المدينة ثلاث قبائل يهودية. الوثيقة نظمت العلاقات بين من يعيش بالمدينة من المؤمنين والمشركين واليهود. تبدأ الصحيفة بالقول إن المؤمنين المهاجرين من قريش والأنصار من أهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم أي انضم لهم في المدينة وجاهد معهم يشكلون كلهم أمة واحدة من دون الناس. «هـذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) (بين المؤمنين والمسلمين من قريش و (أهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس.» [وثيقة المدينة]. وبعد عديد من الفقرات المتعلقة بأهل يثرب العرب جاء ذكر اليهود وأنهم أمة مع المؤمنين، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وأن لليهود التابعين لدولة المدينة النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، والأسوة هنا تعني مساواتهم بالمؤمنين. يقول ابن منظور في لسان العرب: «والأُسْوَةُ والإسْوَةُ: القُدْوة.... والقوم أُسْوةٌ في هذا الأَمر أَي حالُهم فيه واحدة»، أي لم يكن اليهود في دولة المدينة ذميين لأن محمداً ﷺ لم يدخلها غازياً وفاتحاً، بل جاءها مهاجراً إليها، فرحب به فريق كبير من أهلها، وقالوا طلع البدر علينا. كان لابد للنبي ﷺ من أن يتولى أمر المدينة، فيكون القائم بشؤونها قيام الأمير أو الرئيس، لكنه كما أكد أكثر من مرة لم يكن ملكاً، ولم يتصرف كملك، ولم يتمتع بما يتمتع به الملوك عادة من ميزات. كان ولي الأمر في المدينة، دون أن يكون ملكاً، فقد كان الغريب يدخل المسجد، ومحمد ﷺ مع أصحابه لا يتميز عليهم بشيء، فيسأل هذا الغريب: أيكم محمد؟

 

المهم، عاش اليهود مع المسلمين سنين كمواطنين معترف لهم أنهم أمة، وأنهم لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما على المؤمنين، أي المساواة التامة، ومعترف لهم بدينهم لا يتدخل فيه أحد {لهم دينهم وللمسلمين دينهم} [وثيقة المدينة]..

 

وهنالك في مكة، وقبل الهجرة بسنين، نزلت سورة الكافرون، تعلن استقلالية المؤمنين بدينهم ومعبودهم عن دين المشركين وما يعبدون من آلهة ما أنزل الله بها من سلطان. قال تعالى:

 

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ{2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ{4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ{5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ{6}﴾ [الكافرون].

 

لكم دينكم ولي دين أي لي ديني.

 

رحم الله سيد قطب الذي فهم منها وجوب البراء من الكفار، والمفاصلة عنهم، وعدم مداهنتهم أو مجاملتهم على حساب الدين الحق.. لقد فاته أن يلحظ أن الآيات التي تُظهر المفاصلة عن الكفار تعلن في الوقت نفسه الاعتراف بهم وبدينهم، لا على أنه حق، وإنما لهم الحق في عبادة من يشاؤون، وهم على دين مستقل ومنفصل عن الإسلام، لكنه دين، ومن حق أهله أن يعترف باقي المجتمع بهم وبه. وهكذا في هذا الزمان أتشارك أنا المؤمن الذي يقول لا إله إلا الله المواطنة مع من هم كفار برأيي، لكن لا أعبد ما يعبدون، ولي ديني ولهم دينهم، ولا حق لي أن أمارس عليهم أي ضغط أو إكراه بخصوص دينهم وعباداتهم. إنه اعتراف يشبه اعتراف دولة بأخرى في هذا الزمان، مع وضوح الحدود الفاصلة بين البلدين المتجاورين.

 

إذن هنالك في الإسلام شكل آخر للعلاقة مع غير المسلمين في بلادنا، ليس التعامل معهم فيه على أنهم مجرد ذميين حقوقهم مختلفة عن حقوق من عاهدوهم وقبلوهم في ذمتهم، وهو المواطنة التي تُلَخص حقيقة التشارك بالوطن على قدم المساواة والندية. وهذا النمط من العلاقة مع شركائنا في الوطن من غير المؤمنين الذي مارسه النبي ﷺ والأمة الإسلامية الناشئة، يرفع عنا في هذا الزمان أي حرج شرعي إن نحن رغم إيماننا والتزامنا قَبِلنا المواطنة المشتركة مع غير المؤمنين في بلداننا.

 

وبهذا تكون الدولة في سورية على سبيل المثال دولة للسوريين، لا دولة للمسلمين من دون الناس، وقلما تجد دولة في العالم جميع أهلها من دين واحد ومذهب واحد.. فحتى لو كان من أتشارك معه الحياة كافراً بحسب عقيدتي، فلا شيء يمنع أن أتعامل معه تعامل مواطن ومواطن في دولة واحدة، له ما لي وعليه ما علي. كما إنها ستكون دولة سورية، لا دولة إسلامية، لكن بمقدور المؤمنين السنة فيها أن يطبقوا ما شاءوا من ثوابت الشريعة الإسلامية على أنفسهم، لا على سواهم.

 

لما كان المسلمون فاتحين متغلبين على الشعوب التي تحول فيها غير المسلمين إلى ذميين قاموا بفرض أحكام الشريعة الإسلامية على الجميع بمن فيهم الذميون على اختلاف أديانهم، وإن كانوا تساهلوا معهم بالخمر والخنزير غير المحرمين في شرائعهم. لكن الحال مختلفة الآن، وللإسلام أحكامه التي تناسب حالنا الراهن. وهذا ما سأفصل فيه إن شاء الله في الفصل السابع عن التعددية في دولنا المنشودة، التي لن تكون دول مواطنة ولن تكون ديمقراطية حقاً إلا بالعلمانية أو بالتعددية الشاملة للتشريعات والقوانين إضافة للثقافة والسياسة.

Comments

There are no comments yet


Your Comment
* Full Name
* Email Address
* Your Comment
* Captcha
 
 

Copyright 2017 ©. All Rights Reserved.