حكمة الخالق في القلق النفسي
حكمة الخالق في القلق النفسي
ما أكثر ما نسمع أن القلق النفسي مرض العصر! وما أكثر ما نسمع الشكوى من هذا الإحساس الكريه إلى النفوس: القلق!
ومن منا لا يحلم بحياة لا قلق فيها، حياة تملؤها الطمأنينة، والسكينة، والسلام النفسي؟!.
إن حياة كهذه ستكون بالتأكيد نعمة كبرى، ونعيماً رائعاً، تعيش النفس فيه متمتعة بوجود مريح لذيذ.
والقلق النفسي الذي يسميه القرآن الكريم "الحَزَن"، سيريحنا الله منه في الجنة...
يقول تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)﴾ [فاطر: 33 - 34].
وقد يثور في النفس سؤال: ما الحكمة التي من أجلها خلق الله فينا القابلية للحَزَن، أي: القلق النفسي بمصطلح هذا العصر؟ أمن أجل أن يجعل حياتنا في الدنيا صعبة، فنتشوق إلى الجنة، حيث لا قلق، ولا معاناة نفسية؟ أم لحكمة أخرى فيها خيرنا ونفعنا؟.
وحتى نتبين بعض الحكمة في خلق الله للقلق النفسي في هذه الدنيا، لا بد لنا من التفكر في حالة مقابلة، وهي الألم الجسدي، ذلك الشعور البغيض المزعج الذي لا نصبر عليه إلا إن عجزنا عن إزالته بأي وسيلة، والذي نتمنى دائماً ألا نعاني منه أبداً ما حيينا.
ففي حالات نادرة جداً يولد أطفال طبيعيون في كل شيء، إلا أنهم لا يعرفون الألم الجسدي على الإطلاق، ولا يحسون به أبداً... وللوهلة الأولى قد يغبطهم المرء، وبخاصة الذي جرب الآلام المبرحة، وقد يظنهم في نعيم... لكن الحقيقة غير ذلك... فالألم الجسدي لا تستقيم الحياة من دونه، إذ الألم رسالة تصل من أجزاء جسمنا إلى الدماغ، حيث الوعي، والإدراك، واتخاذ القرار.
تصل الرسالة لتقول: إن هنالك خطراً ما يتهدد عضواً، أو جزءاً من الجسد.
وهي رسالة ملحة يصعب تجاهلها، والتغافل عنها، وبطبيعتها المزعجة للنفس تدفع الإنسان إلى حماية نفسه، وعلاج ما أصابه من أضرار بدنية.
أما الأطفال الفاقدون للألم، فإنهم في خطر دائم، إذ قد يحترق جزء من جسمهم وهم غافلون لا يشعرون، وقد ينكسر عظم من عظامهم فلا ينتبهون له فيعالجوه... وغير ذلك كثير مما يرينا أن في الألم الجسدي نعمة، وأنه لولا الألم الجسدي ما تمتع الإنسان بالصحة والعافية.
لكن الألم الجسدي لا يؤدي دوره إلا بعد أن تحدث الإصابة، أما القلق النفسي وما يتضمنه من إحساس بالخطر وتوقع له، فيدفع الإنسان ليحتاط للأمور قبل حدوثها، إنه يلح، ويحث النفس على أن تعمل، وتسعى، وتبذل الجهد من أجل تأمين المستقبل، وحماية النفس من أية أخطار محتملة...
فالإنسان يفعل الكثير في حياته حتى يستشعر الأمان، مثلما يعمل حتى يتخلص من آلامه الجسدية، ويستعيد عافيته.
فالقلق النفسي لا بد منه كي يستشعر الإنسان مخاطر المستقبل بما فيها المخاطر المعنوية، والمخاطر على أولاده، والمخاطر على مصيره في الدنيا والآخرة.
ولا بد من القلق كي يحث الإنسان على العمل، وبذل الجهد، والتخطيط للمستقبل دنيا وآخرة، من أجل نفسه، ومن أجل من يحب.
وإذا قام الإنسان بالقضاء على هذا القلق، بأن يخدر نفسه بالخمر، أو المخدرات، ماتت لديه الهمة، والدافعية كي يقوم بما ينفعه في المستقبل هو، ومن يحبهم في هذه الحياة... كما كانت المبالغة في الزهد، وترك معترك الحياة، كما يفعل زهاد الهنود الذين يسمون "الفقراء"، فيعتزلون الدنيا، ويعيشون في غابة، يكتفون بالقليل من الطعام والكساء، وذلك ليتخلصوا من قلقهم النفسي.
هذه المبالغة تقضي على الإنسان كخليفة في الأرض له دور يقوم به، وهي تفقد المجتمع بعض أفراده تماماً كما تفعل المخدرات، وإن كانت المخدرات أشد ضرراً.
فالفقير الهندي الذي اعتزل الدنيا لا يؤذي غيره، أما مدمن المخدرات فكثيراً ما يرتكب الجرائم كي يستطيع الاستمرار في إدمانه.
فسبحان الذي خلق الألم الجسدي، وخلق القلق النفسي، من أجل أن تكون حياتنا أفضل في هذه الدنيا، ولنتمكن من القيام بالدور العظيم الذي خلقنا من أجله كخلائف في الأرض.