ستر أو حد
ستر أو حد
لقد أجريت دراسات نفسية كثيرة لمعرفة الأثر في سلوك الإنسان للنماذج السلوكية التي يراها، وهل يتأثر سلوكه زيادة أو نقصاناً برؤيته لآخرين يقومون بسلوك معين، والدراسات كلها أكدت أثر النماذج التي يراها الإنسان، حيث إنه يميل إلى تقليدها والاقتداء بها، إلا إن رأى أنها قد عوقبت على سلوكها، ونالها من جرائه ألم ومعاناة.
أما إن هو رأى شخصاً ما يفعل فعلاً ما، وكان واضحاً له أن الفعل قد جلب لمن قام به منفعة، أو متعة، أو غير ذلك مما تحب النفس، فإنه يميل إلى تقليده في المستقبل.
وعلماء النفس يسمون هذا الاقتداء "تعلماً بالمحاكاة والتقليد"، ويميزون بينه وبين تقليد القرود للإنسان، حيث تقليدها أقرب إلى المحاكاة الآلية منه إلى تعلم نمط سلوكي معين، يصبح خياراً للنفس، تلجأ إليه إذا ما مرت بموقف يشبه الموقف الذي كان فيه من رأته يقوم بالفعل أول مرة، وهذا التقليد والاقتداء عند الإنسان لا يكون فورياً عادة، بل قد يقع متأخراً ولو بعد سنين، ويكون اقتداء وتعلماً مما رأى الإنسان ذات مرة.
وعندما يفعل الإنسان فعلاً ويتبع فعله هذا لذة أو راحة من معاناة، فإنه يميل إلى تكرار هذا الفعل، وكذلك عندما يرى غيره يفعل فعلاً يجلب له المتعة، أو يريحه من المعاناة، فإن نفس الإنسان تميل إلى هذا الفعل الذي رآه، وكأنه هو الذي جرب الفعل ونتيجته بنفسه.
وأثر النموذج أو القدوة، وأثر ما يراه الإنسان من أفعال تجر مكافأة، أمر يقلق العلماء من حيث ما يراه الناس، وبخاصة الأطفال في أفلام العنف والجريمة أو الإباحية، حيث تشكل شخصيات الأفلام قدوة للإنسان، ونموذجاً تميل نفسه إل تقليده، والاقتداء به.
وأثر النماذج لا يقتصر على النماذج المرئية، بل حتى النماذج المحكية التي يسمع الإنسان عنها وعن سلوكها، فإنها تؤثر فيه بالطريقة نفسها، وتولد في نفسه الميل إلى سلوك سبيلها والتصرف مثلها، إلا إن علم أن سلوكها الخاطئ قد جر عليها العقوبة والآلام.
لذا كان في نشر قصص الجريمة إشاعة للجريمة، وفي نشر قصص الفاحشة إشاعة للفاحشة، وبخاصة إن كانت قصصاً لأناس حقيقيين، فإن أثرها أكبر من أثر القصص المتخيلة والمؤلفة، وهنا تتجلى لنا الحكمة في أن حرم الله قذف مؤمن أو مؤمنة، وإشاعة أنه ارتكب فاحشة ما، والذي يشيع ذلك عن أحد من المؤمنين، يعاقب بالجلد، وبرفض شهادته بعدها ما عاش، ما لم يأت بأربعة شهداء رأوا بأعينهم ما يدعيه، والقذف قذف حتى لو كان القاذف صادقاً، فهو آثم في إشاعة ذلك، إلا إن كان لديه الشهداء الربعة، لأنه بذلك يدمر سمعة مؤمن أو مؤمنة، ومن جهة أخرى، لأنه يبث في المجتمع قصة تكون نموذجاً سيئاً، يحرض الكثيرين على أن يقعوا في مثله، إلا إن كان هنالك من الشهود ما يكفي لإثبات الفاحشة، وبالتالي لإيقاع الجزاء على مرتكبيها، وعندها لا يذكر النموذج السلوكي الرديء، إلا ويذكر معه العقوبة التي تلته، وهذا يكون له أثر إيجابي في سلوك الناس، بعكس إشاعة الحكاية دون عقوبة مرتكبيها.
وقد سبق القرآن الكريم علماء النفس عندما أشار إلى دور إشاعة حكايات الفاحشة في المجتمع من حيث إشاعتها للفاحشة نفسها، ففي حديث الإفك قام المنافقون بالترويج لإشاعة مختلقة عن فاحشة متخيلة، وقد بين الله نتعالى أن دافعهم لنشر هذه الشائعة كان حبهم لأن تشيع الفاحشة فعلاً بين المؤمنين، قال تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النور: 19].
وقد حث النبي محمد ﷺ المؤمنين على ستر بعضهم بعضاً، وتوعد المنافقين الذين كانوا يعيرون بعض المؤمنين، ويغتابونهم، فقال: "...يا مَعشرَ مَن أسلمَ بلِسانِهِ ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قَلبِهِ، لاَ تؤذوا المسلِمينَ ولاَ تعيِّروهم ولاَ تتَّبعوا عَوراتِهِم، فإنَّهُ مَن تَتبَّع عورةَ أخيهِ المسلمِ تَتبَّعَ اللَّهُ عورتَهُ، ومَن تتبَّع اللَّهُ عورتَهُ يفضَحْهُ ولَو في جَوفِ رَحلِهِ" (رواه أبو داود والترمذي).
وقال أيضاً: "...ومن سَترَ على مُسلمٍ في الدُّنيا سترَ اللَّهُ علَيهِ في الدُّنيا والآخرةِ..." (رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه).
وقد أمرنا رسول الله ﷺ بأن نستتر إذا ابتلينا بالمعاصي، أي: إن ضعفت نفوسنا ومالت إلى الحرام، فليكن ذلك سراً، ولنستر أنفسنا، ولذلك فائدتان على الأقل:
الأولى: ألا يكون العاصي نموذجاً سيئاً يتشجع الآخرون على الاقتداء به.
الثانية: أن الإنسان ما دام يستتر عند المعصية، ويحافظ على صورته الحسنة في عيون الآخرين، فإنه يبقى لديه من الحياء ما يدفعه إلى التوبة، أما إن جاهر بمعصيته، فإنه حتى لا يعاني من مشاعر الخزي، وحتى لا يتعذب ببقية الحياء لديه يكابر، ويتخلى عن حيائه، فيندفع في معاصيه، ويقنع نفسه بالمبررات التي تخفف عنه الإحساس بنظرات الآخرين اللائمة له، وبذلك يبتعد كثيراً عن التوبة.، لذا قال الرسول ﷺ: "كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه" (رواه البخاري).
والذي يتأمل التشريع الإسلامي الخاص بالزنا والقذف يتبين له أن حد الزنا وإن كان يقام على الزاني عقوبة له على الزنا إلا أنه لا يستحقه إلا عندما يجاهر ويتحدث عن زناه وعندها إن وصل أمره إلى الحاكم إما أن يثبت على اعترافه بالزنا فيقام عليه حد الزنا أو أن يعتبر قاذفاً لنفسه ويقام عليه حد القذف وهذا يردع من يتبجح بالفاحشة ويضطره إلى ستر نفسه وبالتالي لا يكون نموذجاً سلوكياً مشجعاً على انتشار الزنا وشيوع الفاحشة في مجتمع المؤمنين.
روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كُنْتُ عِنْدَ النَّبيِّ ﷺ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبْتُ حَدًّا، فأقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: ولَمْ يَسْأَلْهُ عنْه، قَالَ: وحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى مع النَّبيِّ ﷺ، فَلَمَّا قَضَى النَّبيُّ ﷺ الصَّلَاةَ، قَامَ إلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبْتُ حَدًّا، فأقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: أليْسَ قدْ صَلَّيْتَ معنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فإنَّ اللَّهَ قدْ غَفَرَ لكَ ذَنْبَكَ. أوْ قَالَ: حَدَّكَ"
رجل أصاب حداً وطلب من النبي ﷺ أن يقيمه عليه ليتطهر منه لكن النبي ﷺ لم يسأله عن التفاصيل بل تركه حتى صلى ثم طمأنه إلى إن ذنبه قد غفر، ولا حرص عند النبي ﷺ على العقوبة طالما أن الذنب بقي مستوراً ولم ينكشف للعلن، بينما حذر ﷺ المؤمنين أن الحد سيقام على من كشف الستر عن نفسه فقد روى مالك في موطئه عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله ﷺ فأمر به رسول الله ﷺ فجلد ثم قال: "...أمر به رسولُ اللهِ ﷺ فجلد ، ثم قال: أيها الناسُ قد آن لكم أن تنتهوا عن حدودِ اللهِ ، فمن أصاب من هذه القاذوراتِ شيئًا فليستترْ بسترِ اللهِ ، فإنه من يبدِ لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتابَ اللهِ" فهل أوضح من هذا دعوة إلى ستر النفس وأن الحرص على تلقي العقوبة تطهراً من الذنب ليس السلوك الأمثل الذي يدعو إليه الإسلام بل الاستتار والتوبة أولى وأحب إلى الله.
والحالة الثانية التي يستحق الزاني فيها حد الزنا هي أن يزني ويرى أربعة رجال مؤمنين ممن تقبل شهاداتهم عادة يرون مجتمعين عملية الاتصال الجنسي بوضوح ويكونون متأكدين من هوية الزانيين أنهما لا يحلان لبعضهما، بينما تثبت أية جريمة أخرى بشهادة شاهدين عدلين لا أربعة، ولا يمكن أن يتحقق شرط إقامة الحد هذا إلا إن بلغ استهتار الزاني حداً بعيداً من عدم الحرص على الاستتار والاختباء بالمعصية أو ربما كانت الفاحشة تقع أمام الناس على خشبة المسرح أو أمام الكاميرات.
وهذا يرينا أن هدف حد الزنا وحد القذف في الإسلام هو بالدرجة الأولى إجبار الزناة على الاستتار، أما تطهير المجتمع من الزنا فيحتاج إلى الموعظة وإلى تيسير الزواج وسد ذرائع الفساد التي تقود إلى الفاحشة وليس الاعتماد على العقوبة القضائية في ذلك لأنها بالتأكيد لن تكفي وحدها.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وعافنا واعف عنا.