الران
الران
إن لأفعال الإنسان أثراً في نفسه يبقى بعد انتهائه منها، ونسيانه لها، لأنه ينغرس في القلب، في جزء لا شعوري من الدماغ، وهذا الأثر يقع على هوى الإنسان وميوله، فالفعل الذي تلته متعة حسية أو معنوية، أو تلاه زوال معاناة حسية أو معنوية، هذا الفعل يترك أثراً في القلب يجعل هوى الإنسان ميالاً إليه، فترغب فيه وتشتهي تكراره.
وبالمقابل فإن الفعل الذي يتلوه ألم حسي أو معنوي، أو يؤدي إلى فوات متعة حسية أو معنوية، يكون له في النفس أثر يجعلها أقل رغبة فيه، وأقل ميلاً إلى تكراره.
وهذه الآثار للأفعال التي نقوم بها، لا تعتمد على الناحية المعرفية فحسب، فحتى لو نسي الإنسان التجربة التي مر بها وتركت أثرها في نفسه، فإن ما تركت من أثر في ميوله وأهوائه يبقى قائماً ومؤثراً فيها.
المهم أن يبدو الأمر للدماغ على نحو يربط فيه ما بين الفعل ومتعته، أو الفعل وعاقبته المؤلمة.
ولعل هذا يعيننا على فهم الآلية التي تؤثر فيها أفعال الناس على أهوائهم بما يخص إيمانهم بخالقهم ورسالاته، أو كفرهم به وبها.
وقد بين لنا المولى سبحانه وتعالى أن ما يكسبه الإنسان يمكن أن يرين على قلبه، فيكون مثل ختم يعميه عن أن يرى آيات الله، وعن أن يؤمن بها.
قال تعالى: ﴿وَيْلٌۭ يَوْمَئِذٍۢ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَـٰتُنَا قَالَ أَسَـٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ (14)﴾ [المطففين: 10-14].
وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌۭ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌۭ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ﴾ [الحج: 46].
وبالمقابل لا يكتمل إيمان المؤمن حتى يكون هواه موافقاً لدين الله.
قال ﷺ: "لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يَكونَ هواهُ تبعًا لمَّا جئتُ بِهِ" (رواه ابن عاصم في السنة رقم 15، والبغوي في شرح السنة 1 / 213، والبغدادي في تاريخه $ / 369، والديلمي في فردوس الأخبار رقم 7690، وانظره في الأربعين النووية الحديث قبل الأخير، وقال النووي: حديث صحيح).
وقد فصل النبي محمد ﷺ في بيانه لأثر الأعمال في نفس مرتكبيها، وفي بيانه للكيفية التي ترين بها على قلب فاعلها.
وقال ﷺ: "إنَّ المُؤمِنَ إذا أذنَبَ كانت نُكتَةٌ سَوداءُ في قَلبِه، فإنْ تابَ ونزَعَ واستغفَرَ؛ صُقِلَ قَلبُه، وإنْ زادَ زادَت، حتى يَعلُوَ قَلبَه ذاك الرَّانُ الَّذي ذكَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ في القُرآنِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]" (رواه ابن ماجه وأحمد).
والران الذي تخلفه المعاصي في نفس الإنسان يطمس على قلبه، ويفقده شفافيته وحساسيته، وإن كان ذلك لا يفقد الإنسان القدرة على الإيمان بعد كفر، وعلى التوبة بعد جهالة، لكن لا بد من العمل الصالح والتوبة والاستغفار، ليصقل قلبه، ويعود إلى نقائه وحساسيته.
وبالعمل الصالح يتشكل هوى الإنسان تبعاً لما جاء به محمد ﷺ من هداية لنا من عند خالقنا جل في علاه.
والفرائض تحقق حداً من ذلك، لكن إكثار المؤمن من الطاعات التطوعية، والجهاد في سبيل الله وغيرها، كلها تصوغ هواه صياغة تعود به إلى الفطرة التي ولد عليها، بحيث تميل نفسه إلى الطاعات ميلاً يعينه على المزيد منها، فلا يحتاج إلى إكراه نفسه عليها، فقد زالت من نفسه النواهي النفسية التي تعاكس رغبته في الطاعات، وبقيت الدواعي النفسية التي تشده إلى الطاعات، وتحببها إليه، وعندها يجد المؤمن متعته ولذته في الطاعات، لأن هواه وميل قلبه صار تبعاً لدين الله، ومنسجماً مع فطرة الله التي فطر الناس عليها.