خلفاء الله في أرضه
خلفاء الله في أرضه
عندما يسعى المؤمن إلى المال الكثير، فإنّه لا يخرج عن سبيل الله إلا إن دفعه إلى ذلك إرادة العلوّ في الأرض، أو إرادة الفساد فيها، أو إن هو لجأ إلى ما حرّم الله من سبل كسب المال.
أما إن هو اجتنب النوايا المحرمة، والوسائل المحرمة، فإنّ عمله يكون في سبيل الله، وما كان في سبيل الله فهو عبادة، له أن يتوقَع عليها الأجر والمثوبة.
والإنسان مفطورٌ على حبّ الخير، والخير عند العرب وفي القرآن الكريم يعني في بعض الآيات المال.
وقد جعل المولى سبحانه وتعالى المال والبنين من ضمن ما رغّب به الناس كي يؤمنوا، ويتّقوا، مع أنّه وصف المال والبنين بأنّهما زينة الحياة الدنيا، فلم يقتصر وعده للمؤمن على ثواب الآخرة، بل جعل شيئاً معجّلاً مما ترغب به نفسه، وذلك كي يزيد الدافعية لديه، فالإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يعاكسها .
فها هو نوحُ عليه السلام يروي ما وعد به قومه إن هم آمنوا....قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًۭا (8) ثُمَّ إِنِّىٓ أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًۭا (9) فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًۭا (10) يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـٰتٍۢ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَـٰرًۭا (12)﴾ [نوح: 8-12].
إذاً لو آمن قوم نوح عليه السلام واستغفروا الله لغفر لهم، ولأرسل السماء عليهم مدراراً بمطرِ يحيل أرضهم جناتٍ وأنهاراً، ولأمدهم بأموالٍ وبنين... وبذلك يجتمع لهم الرّفاهية والقوّة في الحياة الدنيا ....
ولو كان ذلك مما يكرهه الله لما وعد به الناس إن آمنوا واستغفروا.
وإن كان العطاء الواسع فتنةً واختباراً بحدَ ذاته، فهو يستوجب الشُّكر لله تعالى، كما يستوجب عدم التعالي به على الناس، وعدم استخدامه في معصية الله، والفساد في الأرض. قال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ ٱسْتَقَـٰمُوا۟ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَـٰهُم مَّآءً غَدَقًۭا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًۭا صَعَدًۭا (17)﴾ [الجن: 16-17].
أمّا شكر النّعمة فقد جعل الله له مكافأةً فوريّةً وهي أن يزيدنا الله من نعمه. قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌۭ﴾ [ابراهيم: 7].
بل لقد وعد الله المزيد من الرزق كجائزةٍ للتقوى، قال تعالى: ﴿...وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًۭا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ...﴾ (الطلاق:2-3)
وذكر الحقُّ تبارك وتعالى عن المؤمنين الصالحين أنهّم يسألونه من خيري الدنيا والآخرة، فلا يرون خير الدنيا شيئاً لا يليق بالمؤمن التقيّ الساعي إلى الآخرة. قال تعالى: ﴿...فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُۥ فِى ٱلْـَٔاخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍۢ (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةًۭ وَفِى ٱلْـَٔاخِرَةِ حَسَنَةًۭ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ (201) أُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌۭ مِّمَّا كَسَبُوا۟ ۚ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ (202)﴾ (البقرة: 200-202 )
إذن المؤمن يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة ولا يقتصر همه على الدنيا وينسى الآخرة، كما لا يقتصر همه على الآخرة وينسى الدنيا التي يعينه صلاحها على بلوغ غايته من الفوز بالآخرة، فمطلبه ان يرزقه الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.
ومن مقوّمات الشُّكر على النعمة أن يبتغي المؤمن بها الدار الآخرة فيستخدمها في البّر والطاعات، ولكن دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، إنّه نصيبه المعترف له به، والمقسوم له، وإذا ما ابتعد المؤمن عن الرياء، والمفاخرة، واستخدام ثروته في التعّالي في الأرض، أوفي ارتكاب الفواحش، وغيرها من المعاصي، وصور الفساد في الأرض، فإنّ نصيبه من الدنيا لن يستهلك ثروته كلّها إن كانت عظيمةً.
قال تعالى: ﴿وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْـَٔاخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلْأَرْضِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77].
إن الدنيا تنتظر الأتقياء أن يقبلوا عليها، فيكون منهم التّاجر صاحب التجارات الواسعة أو الشركات العملاقة، والحرفيُّ الماهر، والعالم المخترع، والفنان المصلح .
لقد ملّت الدنيا من إقبال الفجّار عليها وغيبة الصالحين، إنّها تفتقد التاجر الأمين الذي لايغشُّ ولا يحتكر، ولا يستغلُّ حاجةَ الناس إلى سِلْعة فيمتصُّ دماءَهُمْ، وهي تفتقدُ الغنيَ الذي لا يفسد في الأرض بماله ولا يستعلي به على الخلقِ، إنها تنتظرُ الإنسان الخليفةَ الذي يكونُ على أفضلِ مثالٍ، فيكون قدوةً ونموذجاً للبشريةِ يقولُ لهم هكذا تكون الخلافة في الأرض، إقبال على العمل والبناء لكن دون تعالٍ أو فسادٍ، ودون غشٍّ أو أكلٍ لما حرم الله.
إنّ على الدعاةِ إلى الله أن يدركوا أهمّيِةَ ذلك كي يحرّروا المؤمنين الأتقياء من صراعهم النفسي وتردُّدهم بين الإقبال على الدنيا والإحجام عنها، وَليُحَرّروُهُمْ من ظَنّهم أنّ المال والمتعة الحلال لا يليقان بالتقيِّ، مع أنَّ النفس تميل إليهما والحياة لا تستقيمُ إلا بهما، بل هما مما رغَّبَ الله به الناس كي يؤمنوا ويتوبوا ويتقوا ...
على الدعاةِ أن يُنبَهوا الناس إلى الخير الدنيوي الذي لهم أن يتوقعوه إن هُمْ آمنوا واستغفروا واتّقوا، وهذا مما يزيد دافعيتهم للإيمان، ومما يزيد دافعية من آمن منهم للعمل الصالح ، وتقوى الله.
إنّ كثيراً من المؤمنين قد يستسهلون الوقوع في معصيةٍ آملين أن يغفر الله لهم في النهاية، لكنّ قلائل منهم من هو مستعدّ أن يخسر شيئاً من الرّزق الذي كتبه الله له، وذلك عقوبة ً له على معصيةٍ يقع فيها، وبذلك تكون خشيته من أن يحرم من بعض رزقه دافعاً له للتقوى، واجتناب ما حرمّ الله.
قال ﷺ: (لا يزيد في العمر إلا البرُّ، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإنّ الرجل ليحرم الرزق بخطيئةٍ يعملها) (ابن ماجه رقم 90) .
إنّ مشكلة الدّافعية في حياة المسلم المعاصر تحتاج إلى الكثير من الانتباه كي ينطلق هذا المسلم متحرراً مما يكّبله، ويعيقه عن أداء دوره كخليفةٍ في الأرض، يحمل المودة والرحمة قي قلبه والخير في يديه، ويأخذ نصيبه من الدنيا، ويزداد قوة، فيكون للناس نموذجاً تشتاق النفوس إلى تقليده.