بل عباد مكرمون
بل عباد مكرمون
قال تعالى عن الذين ادعوا أن الملائكة بنات الله: ﴿وَقَالُوا۟ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَدًۭا ۗ سُبْحَـٰنَهُۥ ۚ بَلْ عِبَادٌۭ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: 26]
بل عباد مكرمون أي الملائكة عباد لله مكرمون، وهي عبارة تجمع الأضداد حيث تصف الملائكة أنهم عبيد أو عباد لله وتثبت لهم الكرامة والمكانة العالية فهم مكرمون مع أنهم عبيد، وهكذا هي دوماً العبودية لله تعالى ترفع ولا تخفض، وتعز ولا تذل، قال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8]
العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.. وليس المؤمن ذليلاً إلا على والديه أو على باقي المؤمنين ذلاً من الرحمة لا ذلاً من المهانة وانخفاض القدر، قال تعالى: ﴿وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًۭا﴾ [الإسراء:24]، وقال: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍۢ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54].
وقال أيضاً: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا۟ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌۭ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌۭ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ﴾ [يونس: 26]
وقال عن الكافرين الرافضين لهدايته: ﴿خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌۭ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِى كَانُوا۟ يُوعَدُونَ﴾ [المعارج: 44]
وقال: ﴿خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌۭ ۖ وَقَدْ كَانُوا۟ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَـٰلِمُونَ﴾ [القلم: 43]
وقال عن عصاة بني إسرائيل: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا۟ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌۭ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌۭ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ﴾ [الأعراف: 152]
هكذا تكون الذلة عقوبة للمستكبرين الرافضين للهداية جزاء من جنس عملهم حيث الكبر دافعهم الأول للعصيان، ولا تجد المؤمن مطالباً بالذلة أو مشجعاً عليها إلا ذلة الرحمة للوالدين وقد بلغا الكبر وتقدمت بهما العمر وأحنت ظهريهما، أو ذلة المؤمن للمؤمن حيث المودة والرحمة هي العلاقة اللائقة بمجتمع المؤمنين.
ولا تجد فرضاً للذلة على المؤمن حتى لخالقه جل وعلى رغم أنه ربه ومالكه، بل تجد العلاقة المثلى بين هذا الخالق الكريم وعباده الصالحين هي علاقة الحب المتبادل والطاعة من قبل العبد لمولاه، طاعة تليق بعظمته وحكمته التي نؤمن بها، يقابلها ربنا برضاه عنا وحمايته لنا، وهذه قضية يجب أن تكون واضحة في أذهاننا حيث كثرت الدعوات من بعض المؤمنين إلى التذلل لله والتركيز على الذل أمام الله الذي يستحق منا ما أكثر من التذلل له، لكنه الرحمن لم يطالبنا بالذلة له بل أكد على تكريمه لنا كبشر وأكد على أن أكرم الناس عنده أتقاهم، قال تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًۭا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓا۟ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌۭ﴾ [الحجرات: 13].
فالأتقى عند الله كريم مكرم لا ذليل مستذل، وكلما زاد المؤمن تقىً زاد عند الله كرامة. ولعل الرجلين الذين حققا العبودية لله حق التحقيق هما إبراهيم ومحمد ﷺ فاستحق كل منهما أن يكون لله خليلاً، وكم في هذه المرتبة من تكريم!
نحن مخلوقات لله وملكاً له لكنه جعلنا مستخلفين في الأرض نحقق في أنفسنا صفاته وأخلاقه وإن كان حرم علينا أن نستكبر أو نستعلي لأن العظمة والكبرياء لا تنبغيان إلا له جل في علاه، لكن الإنسان مكرم على سائر المخلوقات قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًۭا﴾ [الإسراء: 70].
وقد أمر الله ملائكته أن يسجدوا لآدم عندما خلقه، سجود التحية، مما استفز إبليس وأغضبه أن الله كرم آدم عليه، وهذا يؤكد لنا أن المطلوب من المؤمن هو الحب والطاعة لا الذلة والمهانة، ولعل الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحافظ على كرامة الإنسان حتى في علاقته مع ربه ومولاه.
والعلاقة بين المؤمن وربه في الإسلام علاقة حب متبادل، وهي علاقة شخصية بين ذات إنسانية مخلوقة لتكون خليفة لله في أرضه وذات إلهية ليس كمثلها شيء لكنها موصوفة في القرآن الكريم والحديث الشريف بما يقربها إلى نفس الإنسان ويجعلها قابلة للحب والمناجاة، بينما المبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى تجعل التوجه له بالحب، والشعور بالعلاقة الرائعة معه، أمراً عسيراً على النفس البشرية المحكومة بقدرتها على الإدراك والتعاطف، كل ذلك دون أن ينسى المؤمن أن الله ليس كمثله شيء كما قال هو عن نفسه: ﴿فَاطِرُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًۭا وَمِنَ ٱلْأَنْعَـٰمِ أَزْوَٰجًۭا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِۦ شَىْءٌۭ ۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
وهذا يعني أن أفضل منهج للاعتقاد بصفات الخالق سبحانه وتعالى هو منهج سلف هذه الأمة الذي كانوا عليه قبل أن يتأثر المسلمون بالفلسفات والثقافات التي اطلعوا عليها لدى الأمم الأخرى، أي الإيمان بصفاته التي وصف بها نفسه بلا تأويل ولا تعطيل، لأنها كما وردت تمكن قلب المؤمن من التفاعل الوجداني مع خالقه، حيث الحب هو الدافع الأكبر للإيمان ومنه تستمد حلاوة الإيمان بالخالق العظيم.
ولنتأمل ما يقوله ربنا سبحانه وتعالى في الحديث القدسي عن حبه للمؤمن الصالح، فقد قال النبي ﷺ: "إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ" (رواه البخاري).
حب ورحمة ومراعاة للمشاعر في أرقى صورها لا يليق غيرها بالودود الرحمن اللطيف الكريم جل في علاه.