التسبيح
التسبيح
إنّ قدرة الإنسان على تجاوز المكان والزمان الراهنين، وعلى استباق الأحداث أو استرجاعها بأفكاره وخياله نعمة من الله، وقوة زوده الله بها، لكن التفكير بما وراء ما تدركه الحواس (الآن) و (هنا)، أي: ما سمّاه النبي ﷺ "حديث النفس" يتم على حساب سكينة النفس وطمأنينتها في كثير من الأحيان، ويتم على حساب استمتاع النفس بالجمال المحيط بها في كل الأحيان.
ومع تعقد الحياة في هذا العصر وزيادة الضغوط فيها على النفس الإنسانية، زاد شعور الإنسان بالحاجة إلى العودة إلى حياة لا يحدّث فيها نفسه كثيراً، بل يعيش لحظته الراهنة في نطاق ما تدركه حواسه، دون أن يسرح به الفكر والخيال في ذكريات الماضي، أو هموم المستقبل.
ومع تأكيد الدراسات الحديثة على العلاقة القوية بين الضغوط النفسية والأمراض المختلفة، وعلى العلاقة القوية بين سكينة النفس وخلوها من الهموم وعافيتها من الأمراض النفسية والبدنية، ومع زيادة وعي الإنسان إلى انه أقلّ سعادة بكثير مما يُتوقع له، وهو يملك كل ما أنجزته الحضارة الحديثة من أسباب الراحة والرفاهية والتحرر من الشقاء المضني في سبيل لقمة العيش، مع هذا كله كان لابُدَ للإنسان من أن يبحث عن وسيلة يستعيد بها سكينة نفسه ولو لدقائق معدودات كل يوم.
وولى إنسان الحضارة الغربية وجهه شطر المشرق، لكنه ألقى ببصره إلى ما وراء الإسلام، إلى حيث البوذية والهندوسية، ومن هناك استورد (اليوغا) و(التأمل التجاوزي). وكلاهما يهدفان إلى أن يمضي الإنسان فترة من الزمن ولو دقائق معدودات (لا يفكر)، أي: (لا يحدّث نفسه)، لأنه لا يمكن للإنسان أن يتوقف عن التفكير، لكنه إن توقف عن حديث النفس فكّر بما أمامه دون أن يشعر أنه يفكر، إنه يفكر بشكل تلقائي مثلما ينظر إلى الأشياء، أو يصغي إلى الأصوات.. وتعلم من اليوغا أن يجلس بلا حراك مركّزاً بصره في نقطة ثابتة، مردداً كلمة إمّا أنها لا معنى لها، أو أنها كلمة سنسكريتية ذات معنى ديني في الهندوسية، أو قد لا تعني إلا (الكل) أو (واحد) وما شابه. وهذه الكلمات التي تستخدم أثناء جلسات اليوغا، ويتم تردادها باللسان أو بالقلب فقط تسمى (مانترا Mantra).
لكن المؤمن في غنى عن هذا كله. إنه لا يحتاج إلى أن يستعير (مانترا) أحد من العالمين.. إنه ينظر حوله فيرى بديع صنع الله، وآثار قدرته وعظمته، فينطلق لسانه وقلبه ليقول: (سبحان الله).. إنه يجمع في كلمة (سبحان الله) المعاني الكثيرة الكثيرة، ولا يهرب إلى (مانترا) لا معنى لها حتى يريح ذهنه المكدود بحديث النفس المتعب المستمر.
إنه عندما يقول سبحان الله فإنه يقول: ما أعظم الله! وما أقدر الله! وما أحكم الله! وما أكرم الله! وما أقوى الله! وما أعلم الله! وما ألطف الله! وما.. وما.. تجتمع كلها في كلمة سبحان الله، كأنه فيلسوف يقول: (ما أكمل الله).. يقولها ويدرك بعقله الكبير ما يعنيه الكمال المطلق، وما يحتويه من كمالات متنوعة، إنه ينزّه الله عن أيّ عيب، أو نقص، ويبدي إعجابه البالغ بهذا الخالق صاحب الكمال المطلق.
إنه يسبّحه ويردد بقلبه ولسانه "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" فيمتلئ قلبه بمشاعر الإعجاب والحمد والتنزيه لله سواء كان فيلسوفاً عبقرياً أو أمياً لم يفكّ حروف كلمة واحدة في حياته.
ويسحب المؤمن نفسه من شواغل الحياة لفترة من الزمان يسبّح فيها الله بقلبه ولسانه في آن واحد، ويذكره بعبارات متنوعة تعلمها من رسوله ﷺ، فيزداد إيمانا وسكينة وحضور قلب وانتباه، ويتحرر من حديث النفس الذي يغيّبه عما تراه عيناه، وتسمعه أذناه، وتحسّه حواسه الأخرى من أوجه الجمال في هذا الكون البديع. إن للتسبيح مكانا هاما في الصلاة، إنه في الركوع وفي السجود. والتسبيح في الصلاة مع الخشوع، ومع حضور القلب يكون له أعظم الأثر في النفس المؤمنة، فسبحان الذي أمرنا بعبادات تعمّق الإيمان في نفوسنا، وترسخه، وتمزجه بها مزجاً؛ بحيث يصبح مكوّناً أصيلا من مكوناتها، فلا يكون فيه تكلّف، ولا إكراه للنفس، بل يتجاوب مع الفطرة السوية التي فطرت عليها.