آثار العقم النفسية في الزوجين
آثار العقم النفسية في الزوجين
مع أنّ الخالق سبحانه وتعالى بَيَّنَ لنا أنّ الهدف الأكبر من الزّوجيّة في خلق الإنسان ومن الزّواج هو السّكن النّفسي لكلٍّ من الرّجل والمرأة، يبقى التّوقّع لدى الزّوجين والمجتمع من حولهما أن يثمر زواجهما الذّريّة الصّالحة.
وهنا يأتي العقم ليحبط هذه الأمنيات ويخيِّب هذه التّوقّعات. ونقول أنّ هنالك عقم إذا مضى على الزّواج سنة كاملة تخلّلتها علاقة جنسيّة منتظمة ومع ذلك لم يحدث الحمل، أو حدث وتكرّر الإجهاض ولم ينجح أيّ من الحمول في الاستمرار.
والأسر العقيمة الّتي لا تنجب بسبب عقم أحد الزّوجين أو عقم الاثنين في حالات نادرة، هذه الأسر تُشكِّل سدس الأسر تقريباً في أغلب المجتمعات، وإن كانت الإباحيّة وتعّدد العلاقات الجّنسيّة الّتي انتشرت منذ السّتينات من هذا القرن في أوروبا وأمريكا قد رفعت معدّل العقم ثلاثة أضعاف لديهم بسبب الأمراض الجنسيّة الّتي كثيراً ما تُسبِّب العقم وبخاصّة عند المرأة.
وهل يمكن للعقم أن يكون مصدراً قويّاً للتّوتّر والمعاناة لدى الزّوجين وأن يشكِّل ضغطاً شديداً على العلاقة بينهما؟
نعم يمكن، وذلك أنّ الكثيرين وفي كلّ المجتمعات تقريباً يرون في العقم شيئاً يخجلون به ويشعرون بالخزي بسببه لأنّهم يعتبرونه نقصاً وعيباً فيهم.
وهذا يجعل كثيراً من الأسر العقيمة الّتي لم ينجح الطّبّ في حلِّ مشكلتها تتكتّم وتخفي الحقيقة عن الآخرين، ولا يخبرونهم أنّ العقم هو السّبب لغياب الأطفال من حياتهما الزّوجيّة...
وهذا التّكتّم يخلق للزّوجين مشكلات مزعجة، حيث تلاحقهما أسئلة الأهل والأصدقاء الّتي هي في الغالب حسنة النّيّة ونابعة عن الاهتمام، فيسألون الزّوجين بين الحين والآخر إن كان هنالك أيّ قادم جديد على الطّريق، أي إن كان هنالك حملٌ وإنجابٌ متوقّع، وحفظاً للسِّرِّ يجد الزّوجان نفسيهما مضطرين للكذب واختلاق الأعذار، وهذا يجعلهما يحسّان أنّهما كاذبان وغير صادقين ممّا يقلّل رضاهما عن نفسيهما، كما قد يتهرّب الزّوجان المتكتّمان من أسئلة الأهل والأصدقاء عن طريق اعتزال النّاس والإقلال من الاختلاط بهم والتّزاور معهم، ممّا يعني نوعاً من العزلة الإجتماعيّة، وبالتّالي أن يواجها المشكلة بمفردهما دون أيّة مؤازرة نفسيّة ومواساة وتَفَهُّم من الأهل والأصدقاء، وذلك يجعل المعاناة أشدّ وأقسى.
أمّا الأسر العقيمة الّتي لا تتكتّم ولا تخفي سرَّها بخصوص العقم فكيف يكون شعورها؟
إنّها تشعر بالرّاحة، ولا تشعر بالدّونيّة والنّقص، بل تشعر بالنِّديَّة والمساواة مع الآخرين، كما أنّ الآخرين يصبحون مصدراً للتّعاطف والتّفهُّم والمساندة النّفسيّة بدلاً من أن يكونوا مصدراً للإزعاج بأسئلتهم المتكرِّرة الّتي تبدو وكأنّها تَدَخُّلٌ في شؤون الأسرة واعتداءٌ على خصوصيتها.
والعقم وما يستدعيه من علاجٍ طبِّيٍّ كثيراً ما يكون طويل الأمد على أمل النّجاح في الإنجاب، كما قد يكون مكلفاً ماليّاً ومزعجاً جسديّاً ومحرجاً أحياناً أخرى، كلّ ذلك يزيد من معاناة الأسرة العقيمة، كما يجعل الزّوجين في حيرة، هل سيرضيان بواقعهما أم سيبحثان عن حلٍّ في طفل الأنبوبٍ أو غير ذلك من طرقٍ، كالحمل بنطفة أو ببيضة ممنوحتين من طرف ثالث، وما يمكن أن يكون لذلك من آثار نفسيّة عليهما، حيث يشكِّل خيار الحمل بنطفةٍ ممنوحةٍ أو ببيضةٍ منقولةٍ من امرأة أخرى مشكلة دينيّة، وحيث يشعر الزّوج الّذي تنجب زوجته بنطفة ممنوحة بالاستياء، ويرى زوجته أنانيّة لا يهمّها إلّا تحقيق رغبتها في الإنجاب والأمومة، كما يشعر أنّه غريب عن الأمرِ كلّه، هذا في غياب الضّوابط الشّرعيّة.
أمّا مع الإيمان فإنّ المشكلة تصبح أشدّ. وقد يكون التّبنّي خياراً آخر لبعض الأسر، لكن التّبنّي الكامل ومنح الطّفل نسباً غير نسبه الأصلي له مشكلاته النّفسيّة أيضاً، ولحكمة عظيمة حرَّمه الخالق وأمر بأن ندعوهم لآبائهم، وأذن بالكفالة والرِّعاية والتّبنّي العاطفي، وإن كان هنالك حلٌّ جزئيٌ يتوفّر لبعض الأسر وهو إرضاع الطفل المتبنّى من أقرباء الزّوجين بحيث يصبح بينه وبين من كفله قرابة رضاعة يحرّم منها ما يحرّم من النّسب.
والعقم والمحاولات العلاجيّة المتكرِّرة قد تُعيق الأسرة عن اتّخاذ قرارات هامّة تخصّ المهنة أو السّكن أو غير ذلك، كما أنّ العقم يُعيق إكمال الزّواج لمراحله الّتي يمرُّ فيها عادة، حيث يؤدِّيَ الإنجاب ومجيء الأطفال إلى تركُّز ولاء كلٍّ من الزّوجين على الأسرة نفسها وانتقال هذا الولاء من مركزه القديم وهي أسرة الزّوج وأسرة الزّوجة، وتعذّر انتقال الولاء يُبقي الأسرة العقيمة في نوع من التّشابك مع أسرة الزّوج وأسرة الزّوجة، وهذا التّشابك وغياب الحدود الواضحة بين هذه الأسر له آثاره السّلبيّة على عكس التّرابط والتّماسك الّذي يتمُّ مع اعتراف كلٍّ الأطراف باستقلاليّة الطّرف الآخر.
هل يؤدّي العقم إلى توتّر العلاقة الزّوجيّة ؟
نعم ، العقم يؤدِّي أحياناً إلى توتّر العلاقة الزّوجيّة وبخاصّة إن تجنّب الزّوجان أو أحدهما الحديث عن مشاعره وأفكاره المتعلِّقة بالعقم مع الطّرف الثّاني، عندها قد يتجنَّب الزّوج فتح الموضوع مع زوجته حرصاً على مشاعره وحتّى لا يُشعرها بالذّنب، لكن ذلك لا يعني أنّ مشاعر الانزعاج والاستياء غير موجودة لديه، وكذلك الأمر بالنّسبة للزّوجة الّتي لا تُنجب بسبب عقم زوجها، فإنّ المشاعر قد تتراكم في نفسها، ولا بدّ لهذه المشاعر من أن تُؤثِّر على سلوك أحدهما تجاه الآخر، إذ قد تعبِّر عن نفسها من خلال العنانة والعجز الجنسيّ لدى الزّوج أو النّفور والبرود الجنسيّ لدى الزّوجة، وقد يجد الزّوج نفسه يتورّط في المزيد من المهام في عمله بحيث يقلُّ حضوره في البيت ويكون ذلك هروباً لا شعوريّاً من صحبة الزّوجة.
إنّ عدم الحديث عن المشكلة بين الزّوجين يجعل كلاً منهما لا يفهم الآخر ولا يحسُّ بمعاناته، فلا يشعر الزّوج مثلاً بمعاناة زوجته الّتي تحمل ثمّ تُجهض، ثمّ تحمل ثمّ تُجهض، ويتكرّر ذلك ويتكرّر انتقالها بين الفرحة بالحمل والقلق عليه والحزن على فقده...
وممّا يُنصح به في هذه الحالات يقول آخرين أن يتوقّف الزّوجان مؤقتاً عن المحاولات العلاجيّة ويعيدا النّظر في مدى حبّهما أحدهما للآخر ومدى حرصهما على الاستمرار سويّة، وهل هما متوادّان بما يكفي لتحمّل أعباء العلاج الطّبّي وإزعاجاته.
ولعلّ اختلاط بعض المفاهيم في عقول الكثيرين وراء معاناتهم في حال إصابتهم بالعقم، فالرّجل قد يرى عقمه نقصاً في رجولته، والمرأة العقيم أو الّتي انقطع طمثها أو استؤصِلَ رحمها قد ترى نفسها ناقصة الأنوثة، والحقيقة أنّ الخصوبة ليست من مكونات الرّجولة أو الأنوثة، فكم من امرأة تنجب كلّ عامٍ لكنّها فاقدة للأنوثة وهي إلى الرِّجال أقرب، وكم من رجلٍ لديه من الأطفال عشر أو أكثر لكنّه ليس لديه من الرّجولة شيء.
إنّ الأنوثة والرّجولة صفّات نفسيّة بالدّرجة الأولى، ثمّ هي صفّات جسديّة متعلِّقة بالشّكل والجمال لا بالخصوبة والقدرة على الإنجاب، وإنّنا لم نسمع أنّ الخصوبة والسّلامة من العقم شرط للحصول على لقب ملكة جمال العالم مثلاً، مثلما أنّ اللّقب لا يُمنع عمن تستحقّه إن كانت تعيش بكلية واحدة مثلاً، وكذلك هي الرّجولة.
ولا بدّ لنا من تجاوز خلط المفاهيم لنتجنّب الشّعور أنّ العقم نقصٌ في الرّجولة أو في الأنوثة، وعيبٌ يستدعي الخجل والخزي والشّعور بالنّقص والدّونيّة.
وماذا عن المرأة العقيم؟
المرأة العقيم مع زوج سليم تُعاني عادةً من الشّعور بالذّنب تجاهه وبخاصّة إن قرّر الاستغناء عن الذّريّة إكراماً لها وحرصاً على مشاعرها من أن يؤذيها زواجه بثانية أو تطليقه لها ليتزوّج بمن تنجب له الذّريّة، كما تُعاني هذه الزّوجة من القلق خشيّة أن يُغيِّر هذا الزّوج رأيه فيقرِّر تطليقها أو الزّواج عليها بثانية، فتجد نفسها ملزمة بمحاولة إسعاده وإرضائه بأقصى طاقتها، وهذا قد يُعزِّي الزّوج عن الحرمان الّذي ارتضاه إكراماً لزوجته، لكنّه بشرٌ ويوم يغضب منها يعود إليه الشّعور بأنّه قد ضحّى بشيءٍ كبيرٍ من أجلها، وقد يراها غير جديرة بهذه التّضحية ويرى نفسه مخطئاً في تخليه عن الذّريّة من أجلها.
وماذا عن الأسرة الّتي تكون فيها الزّوجة سليمة وقادرة على الإنجاب بينما الزّوج عقيم؟
وكذلك الحال في الأسرة الّتي تكون فيها الزّوجة سليمة وقادرة على الإنجاب بينما الزّوج عقيم، فالزّوج قد يشعر بالذّنب تجاه زوجته، والمرأة قد تُعاني صراعاً نفسيّاً شديداً وحَيرة في الاختيار ما بين زوجها وما بين الإنجاب والأمومة، ومثل هذا الصّراع النّفسي يُعاني منه الزّوج السّليم إن كانت زوجته عقيماً، ويريد أن يختار بين الذّريّة ولو على حساب مشاعر زوجته وبين القَبول بعدم الإنجاب حفاظاً عليها.
فكيف نرى الزّواج النّاجح؟
إنّ الزّواج النّاجح هو الزّواج الّذي لا يحسّ فيه أيّ من الزّوجين بالغُبْنِ _ أي لا يحسّ أنّه يُقدّم أكثر بكثيرٍ ممّا يأخذ _. لذا يجب أن تبقى الخيارات مفتوحة دون خوف من كلام النّاس، فللزّوج السّليم الحقّ في الإنجاب من أخرى، وللزّوجة السّليمة الحقّ في الإنجاب من زوج آخر،أمّا الزّوج العقيم فقد يكون زوجاً مثاليّاً لشّابّة مطلّقة أو أرملة عندها من الأطفال ما يكفي، وكذلك الزّوجة العقيمة يمكن أن تكون زوجة ثانية مثاليّة يجد عندها الزّوج ما يفتقده عند أمّ أولاده حيث تكون مشغولة بأطفالها وأعباء الأمومة وبالتّالي لا تستطيع أن تُقدّم له ما يحبّ من الاهتمام والصّحبة والمعاشرة.
على النِّساء العقيمات أن يتغلبْنَ على غيرتهنّ ويُعِنَّ أزواجهنّ على زواجٍ ثانٍ، وعلى الأزواج العقيمين ألّا يكونوا أنانيين بل يتيحوا الفرصة أمام زوجاتهم لاختيار حلّ الطّلاق والسّعي للزّواج ممّن ينجبن منه، فالأمومة فطرة والأبوّة فطرة ... أمّا العقم فابتلاء من الله للإنسان ليثبت الإنسان مِن خلاله أنّه صابرٌ راضٍ عن الله رغم أنّه حرمه من زينة من زينات الحياة الدّنيا، دون أن يرى في العقم عقاباً من الله، ويظنُّ أنّه عقمه دلالة على بغض الله له وعدم رضاه عنه... هذه أوهام، فالله يعطي مِن خلقه مَن يحبّ منهم ومَن يبغض لأنّ عطاءه ابتلاء، كما يحرم مِن خلقه مَن يحبّ ومَن يبغض لأنّ الحرمان أيضاً ابتلاء، والابتلاء امتحان، والأجوبة المقبولة الّتي يحصل بها المؤمن على النّجاح هي الصّبر على الحرمان والشّكر على العطاء، والعقم لا يخرج عن هذه القاعدة.
وأخيراً علينا أن نتذكّر أنّ هنالك أسر عقيمة كثيرة سعيدة في حياتها راضية بما قسم الله لها، وقد فضّل فيها الزّوج السّليم زوجه على الذّريّة لما رأى في هذا الزّوج من مودّة وصفّات وإحسان.
إذن الخيارات كلّها واردة ولا حقّ لأحدٍ أن يتدخّل في قرار الزّوجين أو يلومهما على قرارٍ لم يعجبه.