دور الوالدين في نجاح زواج أولادهما
دور الوالدين في نجاح زواج أولادهما
للوالدين دور كبير جداً في نجاح زواج أولادهما أو إخفاقه، وقديما قال أمير الشعراء أحمد الشوقي عن الأم إنها مدرسة، ولكننا اليوم نؤكد أن الأسرة ممثلة بالأم والأب مدرسة يتعلم فيها الولد صبياً كان أو بنتا أهم المعارف والمهارات والقيم والأخلاق التي لا بد له منها في الحياة، ومما يتعلمه في هذه المدرسة فن الحياة الزوجية، فإن تعلم منهما ما هو سوي ونافع نجحت حياته الزوجية، وإن هو تعلم منهما ما هو سلبي أخفق زواجه وكانت حياته الزوجية تعيسة.
ويبدأ تأثير الأم في زواج طفلها من الشهور الأولى لحياته، حيث يتعلق الطفل بأمه ويكون تعلقه بها واضحاً اعتباراً من الشهر السادس من حياته عادة، عندما يصبح قادراً على تمييزها عن باقي النساء. وقد وجد علماء النفس أن لتعلق الطفل بأمه ثلاثة أنواع وذلك ناتج عن اختلاف الأمهات في مقدار الحنان والحساسية والاستجابة للطفل.. فالأم الحنون التي تستجيب لرضيعها كلما بكى لا كلما اشتهت هي، والتي تكون حساسة وقادرة على فهم ما يريده عندما يبكي، هذه الام تجعل رضيعها مطمئناً واثقاً بنفسه حيث يجد نفسه قادراً فعالاً ومؤثراً لأن بكاءه يأتي بالنتيجة التي يريدها، ويكون واثقاً بأمه وبالعالم من حوله إذ لا يهمله ولا يهجره فالعالم كله متمثل في أمه، وعندها يكون تعلقه بأمه تعلقاً آمناً مطمئناً (Secure Attachment) فيشعر الطفل بالأمان الكافي كي يستكشف البيئة من حوله متخذاً من أمه قاعدة الأمان، فيبتعد عنها مستكشفاً حتى إذا أحس بالقلق رجع إليها وبقى بقربها قليلاً ثم يتجرأ على رحلة استكشاف أخرى.. أما الطفل الذي لا يكون متأكداً ولا واثقاً أن أمه أو من يربيه نيابة عنها متواجد من أجله ومستجيب له كلما احتاج إليه، إذ تستجيب أمه له أحياناً وتهمله أحياناً أخرى، وقد تحمله وتلاعبه إذا رغبت هي لا استجابة لبكائه، وقد تهدده بهجره وإبعاده عنها كي تتحكم بسلوكه، فإن تعلقه بأمه يسمى "التعلق القلق المقاوم" إذ يكون الطفل ميالاً إلى القلق الشديد كلما غابت الأم عن ناظريه، وميالاً إلى الالتصاق الزائد بها وخائفاً من استكشاف البيئة بعيداً عنها، ويكون حذراً وخائفاً من الغرباء حتى في حضور أمه. أما الطفل الذي تعلم من الخبرات السابقة أنه لن يستجاب له وأنه مرفوض من الأم أو ممن يقوم مقامها، فإنه يتوقف عن طلب الرعاية منها ولا ينزعج إن غابت عنه ولا يرحب بها إن عادت إليه، ويهمل محاولاتها للاحتكاك والتفاعل معه، ولا يخشى الغرباء ولا يبالي بهم.. إنه يحاول الاكتفاء الذاتي وحماية نفسه من مشاعر الرفض المتكرر الذي مر به، وتسمى علاقته بأمه "التعلق القلق المتجنب". وقد بينت الدراسات أن نمط العلاقة الحميمة الأولى في حياة الإنسان -أي علاقته بأمه- يميل إلى البقاء والتعميم حيث يصبح أسلوباً للشخص في علاقاته بالآخرين غير الأم، فيتعلق بالمعلم أو المعلمة أو بالمعالج أو المعالجة وكذلك بالزوج أو الزوجة تعلقاً مشابهاً لتعلقه بأمه في صغره، أي يتعلق تعلقاً إمّا آمناً سوياً أو قلقاً مقاوماً أو قلقاً متجنباً. ولا مشكلة في التعلق الآمن لأنه هو الأسلوب الأمثل للعلاقة بين الزوجين، إنما المشكلة في القلق المقاوم الدائم الخوف من أن يخونه الطرف الآخر أو أن يهجره أو يخذله عند الحاجة، والذي يرى الحياة الزوجية أخذاً للحنان والرعاية دون أن يقدم هو الحنان والرعاية للطرف الثاني، ويرى الطرف الثاني مسؤولاً عن إسعاده وحمايته وحل مشكلاته، ولا يرى لنفسه دوراً في سعادته وأمنه وحل مشكلاته، فيكون بذلك اعتمادياً على الزوج أو الزوجة كما يكون الطفل اعتمادياً على أمه.
أما إن كان قلقاً متجنباً فإنه يكون بارد المشاعر وغير مرتاح إذا ما أبدى الطرف الآخر (الزوج أو الزوجة) حاجة إليه، ويتجنب إعطاء هذا الآخر أي حنان أو دفءٍ عاطفي، وبدوره لا يطلب الحنان ولا العون من الطرف الآخر، بل يحرص كل الحرص على وجود نوع من البعد النفسي بينهما لأنه لا يريد أن يشعر بأي حاجة لأحد بما في ذلك الزوج أو الزوجة. وكثيراً ما يكون بلا حنان مما يعني عدم قدرته على حب الآخرين زوجاً أو أطفالاً. والزواج بلا حنان ولا حب زواج لا تتحقق فيه السكينة النفسية، وقد نصح النبي ﷺ عندما قال: "تزوجوا الودود الولود".
وهكذا نرى أثر الأم العميق في الطريقة التي سيتعلق بها أولادها بأزواجهم وزوجاتهم، وبخاصة أن عيوب التعلق التي ذكرتها تكون مغروسة في اللاشعور وتحتاج إلى مجاهدة للنفس كبيرة و ربما إلى علاج نفسي للتغلب عليها.
وقد يغدق الوالدان الحب والتدليل على طفل معين ويعاملانه كشخص بالغ الأهمية وجدير بأن يأخذ الأحسن دائماً لا لجهد بذله بل لأنه فلان أو فلانة، فيكبر ولديه نرجسية شديدة، حيث يحب ذاته ويريد لها الدلال، ويعجز عن حب الآخرين حتى الزوج أو الزوجة والأطفال، فنراه مهتماً بما يمتعه أو يجعله محط أنظار الآخرين (مبالغة في الزينة أو المجوهرات أو الملابس أو التحف المنزلية أو غير ذلك) لكن لا يقدم للطرف الآخر أو لأطفاله مشاعر الحنان والحب المتوقعة منه، وبالتأكيد فإن الزواج من شخص نرجسي -رجلاً كان أو امرأة- ليس بالحظ السعيد لأن هذه الطبيعة وهذا التمحور حول الذات يمكن أن يستمرا إلى نهاية العمر.
ثم إن هنالك للعلاقة مع الأب أو الأم دوراً كبيراً في تحديد الميول العاطفية والجنسية منذ البداية، فالصبي المحروم من حنان رجل (الأب أو من ينوب عنه) في طفولته المبكرة (أي السنوات الثالثة وما بعدها) والذي يهمله أبوه ولا يعطيه الحب أو يكون قاسياً عليه أو يكون الأب غير موجود في حياته بينما تغدق عليه الأم الحب والحنان وتبقيه مرتبطاً بها وحدها حتى يكبر، مثل هذا الطفل قد يكبر وهو لا يشعر أنه رجل، فيكون ضعيف الثقة بنفسه من ناحية رجولته ويكون ميالاً بعواطفه إلى الذكور كما لو كان امرأة تماماً، ومثل هذا الرجل إن تزوج لن يكون قادراً على الإحساس بأية رومانسية تجاه زوجته وقد يكون عاجزاً جنسياً معها، وحياتهما الزوجية لن تكون تلك التي يحلم بها الشاب والفتاة عادة.
أما إذا انعكس الوضع فكانت بنتاً لم تشبع من حنان الأم ولم تتمتع بحضورها في حياتها في سنواتها الأولى من الحياة، وكان الأب حاضراً عاطفياً وزمنياً في حياة طفلته فإنها قد لا تشعر بأنوثتها ولا تشعر بالانتماء الحقيقي لجنس النساء، وبالتالي لن تميل بعواطفها إلى شاب بل سيخفق قلبها لفتاة مثلها، ومع ذلك غالبا ما تتزوج تحت ضغط الوالدين والمجتمع ويكون زوجها غير المحظوظ قد اقترن بامرأة باردة معه جنسياً وعاطفياً طيلة العمر.
والوالدان يؤثران في أولادهما من حيث الزواج عندما يخفقان في حياتهما الزوجية، فتكون حياتهما شجاراً وصراعاً دائماً وتنتهي بالطلاق، فينغرس في نفس طلفهما رعب عميق من أن يخفق هو في زواجه مثلهما، ويظهر ذلك في سلوكه على شكل "خوف من الالتزام" أي الخوف من الالتزام بعلاقة زواج مع الطرف الآخر، ويكون الخوف لا شعورياً، فهو يتعلق برجل أو امرأة، وينجذب إلى هذا الشخص من الجنس الآخر ويعجب، حتى إذا صارت الأمور جدية وأصبح الزواج قريباً اكتشف في محبوبه أو محبوبته عيوباً تبرر انسحابه من العلاقة وعدم إتمام الزواج، ثم يدخل في علاقة جديدة أو خطوبة جديدة ويكرر القصة ذاتها مرات ومرات، ونجد السنين تمر وهو يبحث عن زوجة أو وهي تبحث عن زوج ترضى به، ويكبر في العمر دون زواج وهو لا يدري أن المشكلة فيه هو لا في الطرف الآخر الذي يبحث عنه. أما إن تم الزواج تحت ضغط الأهل أو الحرج لأنه أعطى وعداً بالزواج، فإنه سيعامل الطرف الأخر معاملة من اضطر للزواج ممن لا يعجبه وسيحرص على تأجيل الإنجاب، مما يفقد الطرف الآخر الشعور بالأمان في هذا الزواج، ويبقى طويلاً لا يرى في الزوج أو الزوجة إلاّ العيوب التي ظهرت له فجأة عندما صار الزواج قريباً، وسيقاوم التسليم بحقيقة أن الزواج قد تم وسيحاول أن يترك مجالاً للتراجع، وفي هذه الحالة إما أن تنتهي الحياة الزوجية بالطلاق أو أن تستمر استمراراً غير سعيد.
ويتعلم الأولاد من والديهما ومن الحياة الزوجية لوالديهما الكثير عن الحياة الزوجية عموماً وعما يتوقعه الإنسان من الزواج، فإذا كانت أفكارهم عن الزواج وتوقعاتهم منه واقعية وصحيحة أدى ذلك إلى نجاح زواجهم أما إن كانت أفكارهم عن الزواج وتصوراتهم وتوقعاتهم منه غير واقعية وكانت سلبية فإن ذلك سيحول بينهم وبين الشعور بالرضا عن حياتهم الزوجية وسيجعلهم يشعرون بالاحباط والخيبة، وسوف يضعون اللوم دائماً على الطرف الآخر لأنه بنظرهم مقصر في فعل ما يسعدهم مما يظنونه حقاً لهم عليه طالما أنهم زوجان.
ومن الأب والأم يتعلم الأطفال مفاهيمهم عن الرجولة والأنوثة، ويتعلمون كيف ينظرون إلى أنفسهم كرجال أو نساء وكيف ينظرون إلى الزوج أو الزوجة. وهذه النظرة وما تتضمنه من تقدير واحترام أو استهانة واحتقار تشكل عاملاً قوياً جداً في نجاح الزواج أو إخفاقه سواء من حيث استمراره أو من حيث تحقيقه للسعادة الزوجية للطرفين.
والأطفال إما أن يتشبهوا بشخصية الوالد المماثل لهم بالجنس، أي تتشبه البنت بأمها و يتشبه الصبي بأبيه، وإما أن يحرص الطفل عندما يكبر على أن يكون عكس والده أو والدته. فالصبي الذي كان يكره خضوع أبيه وتحكم أمه به قد يُتعب زوجته عندما يحرص على مخالفتها وعلى أن يأمرها بأشياء تعسفية وعلى أن لا يستجيب لرغباتها من أجل أن يؤكد لنفسه أنه ليس مثل أبيه.. وكذلك البنت التي كانت تكره في أمها صفة معينة مثل صبرها غير المتناهي على أخطاء أبيها، فإنها عندما تتزوج تكون قليلة الصبر وكثيرة المحاسبة والشجار مع الزوج، لأنها تريد المحافظة على حقوقها ولا تريد أن تكون مثل أمها الضحية المغلوبة، وهذا يؤثر سلباً على زواجها و قد يؤدي إلى الطلاق في النهاية.
والوالدان اللذان يظهران الحب لبعضهما أمام أطفالهما بما في ذلك بعض الممارسات البدنية البريئة مثل إمساك كل منهما بيد الآخر أو طبع قبلة على الخد أو على الجبين، أو المناداة بحبيبي أو حبيبتي وغير ذلك من سلوك عاطفي خال من الشهوة الجنسية، فإنهما يغرسان في نفوس أطفالهما أن الحب والمودة والملاطفة شيء أساسي في الحياة الزوجية وأن إظهار الرجل الحب لزوجته وإظهارها الحب لزوجها أمر طبيعي ولا يدعو للخجل أو الحياء، بينما الطفل الذي يتربى بين والدين لا مودة بينهما أو لا يعبران عن المودة أمام أطفالهما فإنه عندما يكبر ويتزوج يجد صعوبة في التعبير عن الحب لشريك الحياة، مما يجعل حياتهما الزوجية غير سعيدة.
ومن آثار الوالدين في زواج أولادهما أنه إن وقع أحدهما في الخيانة الزوجية وعرف الأولاد، فإنهم معرضون عندما يتزوجون إلى الشك الزائد غير المبرر في الطرف الآخر وإلى انعدام الثقة بجنس الرجال أو بجنس النساء، أو قد يستسهل الابن الوقوع في علاقات آثمة مثلما كان يفعل أبوه، أو تستسهل البنت عندما تتزوج أن تقع في الخطيئة مثلما كانت أمها تفعل.
يؤثر الوالدان في أولادهما من خلال الأسلوب الذي يتبعانه لحل خلافاتهما الزوجية، وبخاصة عندما يلجآن إلى العنف والعدوانية و إهانة كل منهما الآخر، وقد وجدت الدراسات أن حوالي 90% من الذين رأوا آباءهم يضربون أمهاتهم يضربون هم زوجاتهم عندما يكبرون ويتزوجون، كذلك البنت التي رأت أمها لا تحترم أباها أو تشتمه أو تهينه أو ربما تضربه سيكون من السهل عليها التورط في سلوك مماثل مع زوجها. بينما في الأسر الناجحة يتعلم الأولاد من الوالدين التسامح والحوار والتفاهم وضبط اللسان وعدم التفوه بالكلمات الجارحة وحفظ الخلافات سراً لا يطلع عليها أحد، وعندما يتزوجون يقتدون بهذا السلوك الراقي عند الخلاف.
وقد يُقَصّر الوالدان في تربية أولادهما فيكبر الصبي ليكون شخصية فاسدة سيكوباثية بلا ضمير، فيتزوج ويمثل الحب دون أن يحس به ويتظاهر بالأخلاق بينما يخالفها كلما بدا له ذلك، ثم بعدها يعامل زوجته وأطفاله بلا مسؤولية وبإهمال شديدين، وينفق على ملذاته ويتركهم دون نفقة، وقد يسلب زوجته كل مالها، وقد يفرض عليها أن تعمل لتمده بالمال.
إن الأولاد يتأثرون بأفعال الوالدين كزوجين أكثر مما يتأثرون بمواعظهم ونصائحهم، وإن المستوى الأخلاقي للوالدين يشكل العامل الحاسم أكثر من المستوى التعليمي، لأن حمل الشهادات العالية لا يعني بالضرورة أخلاقاً حسنة وقيماً سامية، فمثلاً عندما يقوم الأب المهندس بضرب زوجته وإهانتها وهي الطبيبة المختصة ويتكرر ذلك أمام الأولاد، وهم يرون أيضاً استيلاءه على مرتبها وعدم إعطائها أية قيمة أو مكانة، فإن المستوى التعليمي لم يمنع الأثر السلبي لهذا الأب وهذه الأم على حياة أولادهما الزوجية، وبالمقابل هنالك آباء وأمهات أميون أو لا يعرفون إلاّ القراءة والكتابة ويكون سلوكهم كأزواج وزوجات قمة في الرقي والأدب وحسن التبعّل، ويكونون مدرسة رائعة يتعلم منها أولادهم فن الحياة الزوجية والتعامل مع شريك الحياة. وإنه للأسف مهما علا المستوى التعليمي للوالدين فإن ذلك لا يعني أن مستوى معرفتهما بأسرار الحياة الزوجية سيعلو أيضاً، لأن الدراسة الجامعية إنما هي دراسة مهنية وليست ثقافة حياتية، والدراسة قبل الجامعة لا تغطي الحياة الزوجية، ويبقى اجتهاد الإنسان في البحث والتعليم الذاتي كي لا يقتصر على ما تعلمه من والديه وهو صغير.
وباختصار إن نجاح زواج الوالدين يمهد لنجاح زواج أولادهما، وإخفاق زواجهما يهيئ زواج أولادهما للإخفاق وإن كان لا يحتم ذلك حتماً.