الآثار النفسية للتدين في الحياة الزوجية
الآثار النفسية للتدين في الحياة الزوجية
Whatsapp
Facebook Share

الآثار النفسية للتدين في الحياة الزوجية

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

عندما أمر النّبي محمّد ﷺ الرّجل أن يَظفِر بذات الدِّين كزوجة، وأمر الأهل أن يزوِّجوا ابنتهم لمن يرضون دينه وخُلُقه، لم يقصد بذلك مجرَّد الانتماء والانتساب لهذا الدِّين، بل المطلوب حدٌّ أدنى من الالتزام والتَّقوى، وهو ما أعنيه بكلمة تَدَيُّن كلَّما وردت في هذا المقال. ونبيِّنا محمّد ﷺ لا يدعونا إلّا إلى الخير، والآثار النَّفسيَّة للتَّديُّن في الحياة الزَّوجيَّة تُبيِّن لنا جوانب من هذا الخير.

 

التَّديُّن صِحةٌ نفسيَّةٌ لا بدَّ منها للحياة الزّوجيَّة الّتي هي تَفاعُلٌ مستمرٌّ بين نفسين بشريتين، وهو صِحّةٌ نفسيَّةٌ لِمَا للإيمان الدِّيني عموماً، ولِمَا لعقيدة التَّوحيد خصوصاً من أثرٍ في بثِّ السَّكينة في النَّفس البشريَّة، وفي علاج أنواع القلق الوجودي كلِّها، النَّاتجة عن وجود الإنسان في هذا الكون كفردٍ مُستقلٍّ، حُرٍ، مُريدٍ، ومَيِّتٍ ذات يومٍ لا محالةٍ، يواجه مصيره وحيداً.

 

والتّديُّن يجعل النَّفس أقلّ قابليّةً للاكتئاب النّفسي عند تعرُّضها لضغوط الحياة، وهذا بعض ما أثبتته دراسةٌ طبيَةٌ نفسيَّةٌ نُشِرَت في عدد مارس 1997 من المجلَّة الطّبيَّة النَّفسيَّة الأمريكيَّة، رغم أنَّ هذه الدِّراسة تناولت أثر التَّديُّن المسيحيِّ أو اليهوديِّ في المجتمع الأمريكي، ولو أنَّها درست أثر التَّديُّن القائم على عقيدة التَّوحيد الخالص وعلى الدِّين الكامل لوجدت الأثر أعمق وأكبر بالتَّأكيد. 

 

كما يُساهم التَّديُّن في الصِّحَّة النَّفسيَّة للزّوجين من خلال تنميته لقدرتهما على التّكيُّف النّفسي الصحيح الّذي يتحقّق عن طريق الصّبر والتّوكُّل والرِّضا في مقابل الشّعور بالإحباط والتَّذمُّر والسُّخط والشّعور بالحرمان والقلق والكآبة عند غير المتديِّن. ويُساعد التَّديُّن على المحافظة على العلاقة بين الزَّوجين نقيَّةً ممّا يُعكِّر صفو العلاقات عادةً كمشاعر الغيظ والحِقد، حيث يتقرَّب المؤمن إلى الله بالعفو عمَّن أساء إليه وبالمغفرة لمن ظلمه حتّى لو كان كافراً، فكيف بالزّوج أو الزّوجة إن وقع من أحدهما ما يَغيظ؟ إنَّه بهذا الصّفح وهذه المغفرة أولى وأحقّ. وليس كالغيظ المكبوت في اللّاشعور أو المكظوم المُتراكم في النَّفس الواعية، ليس كمثله شيءٌ يفتك بالمودَّة والجاذبيّة وبمشاعر الحِرص والرِّعاية والرّحمة بين الزّوجين.

 

والتَّديُّن إن توفَّر في الزّوجين كليهما شَكَّلَ أساساً للتّشابه في الأفكار والمواقف والنَّظرة إلى الحياة، والأهداف والطموحات فيها، والدِّراسات النّفسيَّة الحديثة تُؤكِّد على أهميَّة عنصر التّشابه في انجذاب الأصدقاء والأحِبّة والأزواج، حيث الأرواح جنودٌ مُجنَّدةٌ ما تعارف منها -أي تشابه- ائتلف، وما تَناكَر منها -أي لم يتشابه- اختلف كما قال نبيُّنا محمّد ﷺ. لكن التّشابه الّذي يُحقِّقه التَّديُّن للزَّوجين تشابهٌ لا يؤدِّي إلى التَّنافس بينهما، لأنَّ التّديُّن يُرسِّخ اختلاف الأدوار وتكاملها بين الجنسين عموماً، وبين الزّوجين خصوصاً، والدِّراسات النَّفسيّة تقول: إن كان التّشابه يدعو إلى الانجذاب فإنَّ التّكامل وغياب المنافسة يضمن ديمومةً أطولَ للعلاقة، ويُلغي مشاعر العَداوة الّتي تَنتُج عن المُنافسة، وبذلك يُساعِد التَّديُّن على أن تكون العلاقة بين الزّوجين علاقة حبٍّ متبادلٍ لا تُخالطه العداوة، أي علاقة "مودّة ورحمة" حقيقيّة.

 

وعُلماء النّفس يرون أنَّه لا حُبَّ حقيقيَّاً دون احترام المحب للمحبوب، والتَّديُّن يُؤمِّن هذا الاحترام لأنَّه يُنقِّي نفس الرَّجل من مشاعر التَّعالي على النِّساء، شقائق الرِّجال، وحيث الكرامة عند الله للأتقى، لا للذّكر من دون الأُنثى، وحيث لا يرى المؤمن التّقي في الأنوثة عيباً ونقصاً كما هي النَّظرة الجاهليّة الّتي تُكَرِّم الذّكر على الأُنثى لمُجرَّد أنَّه ذكرٌ، وتَحطُّ من قدر الأُنثى لمجرَّد أنَّها أُنثى.

 

والتَّديُّن يُساعد على نشوء الحبِّ النّاضج بين الزّوجين، الحبّ الّذي يَتقبَّلُ فيه المحبّ محبوبه بضعفه البشريِّ وعيوبه الّتي لا يخلو من بعضها أحدٌ، فلا يُطالب المحبوب أن يكون مثاليَّاً كاملاً بلا عيوبٍ كي يكون أهلاً لحبِّه، فالتَّديُّن يجعل الإنسان يتقرَّب إلى الله بحبِّه للآخرين لذواتهم لا لِمَا في أيديهم، فيُحبُّهم حبَّاً يراهم فيه بشراً مُستقلين عنه، يحترِم حريَّتهم ورغباتهم وإراداتهم، ولا يُحبُّهم حبَّاً نرجسيَّاً اعتماديَّاً وتَملُّكيَّاً يَنظر إليهم فيه على أنَّهم موجودون لِيُشبِعوا رغباته ويسدُّوا حاجاته، وشتَّان ما بين الحبِّ في الله الّذي هو حبٌّ ناضجٌ يدفع المحبّ إلى العطاء والاهتمام بمحبوبه ورعايته، وبين الحبّ التّملُّكي الاعتمادي الذي يجعل المحبّ آخذاً ومُتلقِّياً للعطاء ومُطالباً به كالطّفل تماماً، فإن هو لم يَجد في المحبوب ما يُحقِّق له ما يحتاج ويرغب، نسيه وبحث عن محبوبٍ غيره.

 

والتّديُّن يُساعد على ديمومة الحياة الزّوجيَّة لأنَّه يجعل كلَّاً من الزّوجين أكثر تقبُّلاً للآخر وبخاصّةٍ عندما يمرُّ الزّواج بمرحلة "الخيبة وزوال الوهم" الّتي يمرُّ بها كلّ زواجٍ بعد فترة الرّومانسيَّة الّتي تكون مُدتها أيَّاماً أو أسابيع أو شهوراً لكنَّها قلَّما تزيد عن سنةٍ أو سنتين، ويدعوها النَّاس "شهر العسل"، بعدها يرى كلّ من المحبّين الآخر على حقيقته بضعفه البشريِّ وعيوبه الإنسانيَّة، وتزول عن المحبوب تلك الهالة المثاليَّة الّتي نسجها خيال المُحب، فيزول الوهم ويُحسُّ المُحبّ بالخَيبة، ثمَّ تَحدث عملية تقبُّل لهذا الزّوج أو هذه الزّوجة ورضاءً بالقِسمة والنّصيب، أو يحدث الطّلاق والبحث عن محبوبٍ آخرٍ ووهمٍ جديدٍ.

 

والتّديُّن يُساعد على مرور الزّواج بهذه المرحلة بسلامٍ، لأنَّ المؤمن يرضى بما قدَّره الله له حتّى لو رأى عند غيره ما هو أجمل وأفضل، لأنَّ المؤمن يعلم أنَّ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثمَّ إنَّ المُؤمن يُطيع رسول الله ﷺ الّذي أمر أن لا يفرك -أي يكره- مؤمنٌ مؤمنةً فإنَّه إن كَرِه منها خُلُقاً أحبَّ منها آخر، ويُؤمِن أنّه عسى أن يكره شيئاً ويجعلَ اللهُ فيه خيراً كثيراً، ويُؤمِن أنَّ الكمال لله وحده، ويعلم أنَّ الجمال الّذي لا عيب فيه إنَما سيكون في الجنَّة، ويرى الدّنيا مرحلة ابتلاءٍ إن فاته شيءٌ من مُتَعِها أو تركه هو إرضاءٌ لله وحِرصاً على مشاعر إنسانٍ آخر لا ذنب له، أو حِرصاً على مستقبل طفلٍ بريءٍ، عوَّضه الله خيراً منها في الدّنيا أو الآخرة.

 

وهذا التّقبُّل للزّوج أو الزّوجة الّذي يُساعد التّديُّن عليه يُشَكِّلُ أساساً للحبِّ الّذي تقوم عليه الحياة الزّوجيّة بعد انقضاء فترة العسل الرّومانسيّة، إذن لن يكون الزّواج بلا حبٍّ، إنَّما هي فترةٌ حرجَةٌ يمرُّ بها كلّ زوجٍ وزوجةٍ، إن لم تنقضِ بسلامٍ أدَّت إلى الطّلاق أو الخيانة الزّوجيَّة.

 

والتّديُّن يَضمن وجود حدٍّ أدنى من غَيْرَةِ الرّجل على زوجته، غَيْرَةٍ صحيةٍ ترى فيها الزّوجة علامة على الحبِّ والحِرص لا علامة على الشّكِّ والاتّهام والامتلاك، والتّديُّن في الوقت ذاته يُشَكِّلُ أساساً لثقةِ كلٍّ من الزَّوجين بالآخر، إذ يَطمئنُّ كلٌّ منهما إلى أنَّ تقوى الآخر تضمن أمانته وإخلاصه وصدقه: "وإذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه"، والثِّقَّة اساسٌ لكلِّ علاقةٍ إنسانيَّةٍ ناجحةٍ، صداقةٌ كانت أو حبَّاً أو زواجاً قائماً على الحبِّ والصّداقة.

 

والتّديُّن يُقلِّل من النِّزاعات والصِّراع بين الزّوجين، إذ تمرُّ غالبيَّة الأُسر الجديدة في المجتمعات الغربيَّة الّتي تُنادي بالمساواة بين الزّوجين وتعني بذلك عدم قوامة أحدهما على الآخر، تمرُّ بفترةٍ من الصِّراع على السّلطة قد تستغرق السنتين الأوّليّين من الحياة الزَّوجيَّة يحسم في الغالب لصالح الزّوج الّذي يتولّى سلطة اتّخاذ القرار في الأُسرة، لكن ذلك يكون بعد إصاباتٍ وجروحٍ في العلاقة ما بين الزّوجين، والتّديُّن يُعفينا من هذا الصِّراع حيث الأمر فيه محسومٌ منذ البداية، وقوامة الزّوج مُقرّرة من الخالق ويرضى بها الزّوج والزّوجة كلاهما.

 

ومن جهةٍ أُخرى يُشَكِّل التّديُّن قبولاً من الزَّوجين بتحكيم الشَّرع في خلافاتهما، فيكون للأسرة المُتديِّنة مَرجعٌ تعود إليه عند الاختلاف والنِّزاع، ممّا يجعل حلّ النِّزاعات فيها أسهل دون ظلمٍ لأحدٍ أو شعورٍ بالظّلم من أحدٍ.

 

وتديُّن الزّوج يُشَكِّل حماية للزّوجة من أخطارٍ ومُزعجاتٍ كثيرةٍ يُمكن أن تتعرَّض لها في حياتها الزّوجيَّة مع زوجٍ غير مُتديِّنٍ، وأوَّل هذه الأخطار والمزعجات: العنف الزّوجي بكافة أشكاله، وثانيها: الظّلم بصوره المتنوِّعة، فالزّوج المُتديِّن إذا أحبَّ زوجته أكرمها، وإذا أبغضها لم يَظلِمْها، وثالثها: الطّلاق لأبسط الأسباب أو اتّباعاً لشهوةٍ طارئةٍ، ورابعها: الخيانة الزّوجيَّة وما يُمكن أن يَنتُج عنها من آثارٍ نفسيَّةٍ مُؤذيةٍ للمرأة أو آثارٍ صِحيَّةٍ ضارَّةٍ وأمراضٍ جنسيَّةٍ خطيرةٍ، وخامسها: تعاطي الزَّوج للخمر والمُخدّرات وما يَنتُج عنه من معاناةٍ شديدةٍ تَعرِفها زوجات المدمنين والمُتعاطين، وسادسها: المُمارسات الجنسيَّة الشَّاذّة ألّتي تكون فيها المُتعة لطرفٍ واحدٍ وتكون المرأة فيها موضع استعمالٍ واستغلالٍ دون اعتبارٍ لميولها الفطريَّة ومواطن الاستمتاع الطَّبيعيَّة لديها، وسابعها: إهمال الزّوج لأُسرته وعدم تحملّه لمسؤوليَّاته الماليَّة والعاطفيَّة أثناء الزّواج أو بعد الطّلاق، ممّا يجعل الزّوجة تتحمَّل مسؤوليَّة الأطفال ماليَّاً وتربويَّاً وعاطفيَّاً وحدها، وهذا ما يَحدُث بكثرةٍ في المجتمعات الغربيَّة، وثامنها: الهجر وسوء المُعاملة إذا تزوَّج بثانيةٍ، أو الإيذاء عند الطّلاق، حيث لدى الزّوج المُتديِّن ما يدفعه إلى الإمساك بمعروفٍ أو التّسريح بإحسانٍ. وتاسعها: أنَّ التّديُّن يحمي الزّوجة من أن تكون ضحيَّة زوجٍ ممّن لا ضمير لهم من أصحاب الشّخصيَّة الفاسدة المَريدة -(في القرآن: كلُّ شيطانٍ مَريدٍ أي شديد التّمرُّد)-، التّي تمرَّدت على قيم المجتمع ودينه وأخلاقه، وهي الشّخصيّة المُسمّاة في علم النّفس "الشّخصيَّة السّيكوباثيَّة"، الّتي لا تتورَّع عن شيءٍ في سبيل أهوائها، فالتّديُّن الصّادق لا يجتمع مع خصال هذه الشّخصيَّة في نفسٍ واحدةٍ، لأنّه يُوجد في الإنسان ضميراً حقيقياً داخليَّاً وحياءً يمنعه من العدوان على غيره. وعاشرها: أنَّ التّديُّن يُلطِّف من عيوب الشّخصيَّة الأُخرى الّتي تشمل طباعاً وخصالاً مُزعجة لمن يُعاشر صاحبها، والّتي لها أساسٌ عضويٌّ على الغالب، كالشّخصيَّة الزَّوَريَّة والشّخصيَّة الوسواسيّة وغيرهما، حيث التّديُّن يُعَلِّمُ ضبط النّفس ويُدَرِّبُ على مكارم الأخلاق الّتي تُخفِّفُ من غلواء هذه الشّخصيَّات المَريضة وتُلَطِّف من شدّة الطّباع المُزعجة فيها.

 

وليس للتّديُّن من آثارٍ نفسيَّةٍ سلبيَّة ٍعلى الحياة الزّوجيَّة إلَّا إن كان هنالك سوءٌ في الفهم لهذا الدِّين أو اتّباعٍ للهوى واستخدامٍ للدِّين وفتاواه ذريعةً ومبرِّراً للمُعاملة السَّيِّئة للزّوجة، وإشهار هذه الفتاوى سيفاً مُسلِّطاً على الزّوجة لإرهابها وتهديدها كلَّما لزِم الأمر.

Copyright 2017 ©. All Rights Reserved.