آثار التعاطي والإدمان في الحياة الزوجية
آثار التعاطي والإدمان في الحياة الزوجية
قَصْرُ الكلام عن الإدمان يجعل السّامع أو القارئ يظنُّ أنَّ تعاطي الخمر أو المخدِّرات أو المنبِّهات ليست له الآثار والأضرار نفسها طالما أنَّ المتعاطي لم يُصبح مُدمناً بعد، لكن الّذي يجب الانتباه إليه هو أنَّ آثار التّعاطي ولو من حينٍ إلى آخر هي في الغالب الآثار نفسها الّتي للإدمان. إلّا أنَّ الإدمان أشدُّ ضرراً وتمكُّناً... فحتّى ما يُسمّى بالشّرب الاجتماعيِّ، أي شرب الخمر في المناسبات الاجتماعيّة دون الإدمان عليه، حتّى هذا النّمط من شرب الخمر له آثاره المؤذية للعلاقة الزّوجيّة والحياة الأُسريَّة.
ولنتأمَّل الآيتين الكريمتين التّاليتين حيث تتحدَّث الأولى عن الزّوجيّة في الخَلْق وعن الغاية الكبرى منها ومن الزّواج، وتتحدّث الثّانية عن أهمِّ أضرار الخمر وعن تحريمه نهائيّاً.
قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾ [الروم: 21]. وقال أيضاً: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ [المائدة: 91].
إذن هما المودّة والرحمة اللّتان خلق الله الميل إليهما بين الجنسين، والمودّة ضدّها البغضاء، والرّحمة ضدّها العَداوة... والخمر وباقي المُخدِّرات والمُنبِّهات (كالكوكائين وغيره) تزيد العَداوة في نفس مَن يتعاطاها ما دامت في دمه وما دام تحت تأثيرها، وقد لا يقتصر الأمر على زيادة العَداوة وهي الشّعور بالعداء والرّغبة في الإيذاء، بل كثيراً ما يبلُغ الأمر حدَّ العدوان، وهو السّلوك المؤذي للآخرين سواء في الجسد أو المشاعر أو الممتلكات. وهذا شيءٌ أثبتته الدِّراسات النّفسيّة المعاصرة، ويعرفه كلُّ من يتعاطى أو لديه في بيته شخصٌ يتعاطى أو يعمل في علاج المُدمنين حيث يسمع منهم من القِصص ما يؤكِّد ذلك.
إنَّ العداوة الّتي تشتدُّ في نفسٍ من شرب الخمر أو تناول مخدِّراً تتعاظم كلّما زادت الجرعة الّتي تعاطاها، لكن حتّى الجرعات الصّغيرة تُسبِّبها وتزيدها، وهذه العَداوة لا بُدَّ لها من أن تظهر في سلوك الزّوج المُتعاطي ولو في نبرة صوته أو إيماءاته، وغالباً ما تظهر واضحةً في كلماته الجارحة الّتي يوجِّهها إلى زوجته، وفي أحيانٍ كثيرةٍ يصل الأمر إلى الضّرب والإيذاء الجسديِّ الشديد. صحيحٌ أنَّ الزّوجة قد تغفِر أحياناً وبخاصّة إن تمَّ عدوان الزّوج عليها وهو في سكْرٍ شديدٍ، لكن في أكثر الحالات يكون الزّوج المُتعاطي عِدائيّاً وعدوانيّاً مع أنَّه لم يبلُغ حدَّ السكْر والهياج الّذي لا يعي معه الإنسان ما يقول، بل يبدو واعياً وعاقلاً لكنَّه غير ودودٍ ولا رحيمٍ، وهذا يكون عند تعاطي الجرعات الأصغر من الخمر والمخدِّرات، والّتي يظنُّ الكثيرون ظنَّاً خاطئاً أنَّها لا تؤذي ولا تُؤثّر.
إذن التّعاطي والإدمان ينسفان السّبب الأكبر الّذي من أجله جعل الله النَّاس ذكوراً وإناثاً وشرَّع لهم الزّواج ليكون بينهم المودّة والرّحمة، والتّعاطي والإدمان يزرعان العداوة والبغضاء مكانهما، فيفقد الأمن والسّكن النّفسي من الحياة الزّوجيّة، إذ من أين يأتي الأمن والسّكن والمرأة تتوقّع زوجاً يأتيها آخر اللّيل عصبيَّاً وعدوانيَّاً يشتُم ويضرب ويُهدِّد ويملأ سكون اللّيل بصخبه وصراخه، فيُدخل الرّعب إلى قلب الزّوجة وقلوب الأولاد، ولا يكون أحدٌ منهم سعيداً بعودة مثل هذا الزّوج إلى بيته.
ولابن تيميّة رحم الله في كتابه (الاستقامة) تعريفٌ دقيقٌ للسُّكْرِ، بأنَّه حالةٌ يجتمع فيها زوال العقل والنّشوة، وزوال العقل لا يشترط فيه أن يكون بزوال الوعي، فالعقل يحتاج إلى الوعي، لكن يمكن للعقل أن يزول مع بقاء الشّخص يقظاً، بل قد يكون أشدّ يقظةً وانتباهاً كما هو الحال في كثيرٍ من الأمراض العقليّة الّتي يفقد فيها الإنسان قدرته على المُحاكمة السّليمة للأمور، أو تَنْفَلِت ضوابط السّلوك لديه فيذهب حياؤه وخجله ويتجرّأ على فعل ما لم يكن ليفعله أبداً وهو سليم العقل...
فالعقل في الأصل اللّغويّ هو الرّبط والتّقييد، وهو القدرة على التّفكير المنطقيِّ السّليم، وكلاهما يختلُّ في الأمراض العقليّة دون تأثُّر الوعي، وهذا يعني أنَّ الحالة الّتي يكون عليها مُتعاطي مادّة منبِهة كالكوكائين ينطبق عليها تعريف ابن تيميّة للسُّكْرِ حيث تجتمع فيها النّشوة المُمتعة مع زوال العقل المُتبدِّي في الانفلات من الضّوابط الّتي كانت تحكم سلوك الشّخص، وإذا زادت جرعة الكوكائين اضطرب التّفكير وصار المُتعاطي زَوَرِيَّاً يرى مِن حوله أعداءً يتربَّصون به، كلّ ذلك وهو في أشدِّ اليقظة والتّنبُّه.
وحالة السُّكْرِ هذه الّتي تحصل بالخمر أو المُخدِّرات أو المُنبِّهات الشّديدة تجعل الزّوج المُتعاطي يرتكب من الأفعال ما يشين ويُخزي ويحرج الأسرة من زوجةٍ وأطفالٍ، فقد يعتدي بالشّتم أو الضّرب على النّاس، وقد يُحاول الاعتداء الجنسيِّ على جارته أو خادمته أو حتّى على ابنته أو ابنه، إلى غير ذلك من تصرُّفات تجعل الزّوجة والأولاد يبذلون جهداً كبيراً لحفظ تعاطي الزّوج أو إدمانه سرّاً عن النّاس، وحفظ مثل هذا الأمر سرَّاً أمرٌ مُجهِدٌ، ويجعلهم يحسُّون كالمريب الّذي ارتكب فعلاً يحرص على إخفائه، كما إنّ شعورهم بالخزيّ والعار بسبب إدمان الزّوج يُحطِّم شعورهم بقيمتهم وقَدَرِهم الّذاتي ممّا يكون له آثاره النّفسيّة المؤذية على المدى القريب وعلى المدى البعيد.
ثمَّ إنَّ المُتعاطي والمُدمِن يتورَّط في الغالب في علاقاتٍ جنسيّةٍ مُحرّمةٍ لا يحتاط فيها فيكون مُعرَّضاً بشدّةٍ للإصابة بالأمراض الجنسيّة الخطيرة كالإيدز والزّهري والسّيلان وغيرها، ثمَ يَنقُل هذه الإصابة إلى زوجته المسكينة الغافلة، وقد يأتي بالإيدز أو التهاب الكبد الوبائي نتيجة حقن نفسه بالمُخدِّر بإبرةٍ استعملها غيره، والزّوجة تبقى هي الضّحيّة لهذا الطّيش والاستهتار.
والخمر وغيره من المُسكرات تجعل الرّجل يعيش عظمةً وهميّةً وإحساساً بالقُدرة البالغة، وتجعل المرأة المُتعاطية تحسُّ أنَّها جميلة مُثيرة جنسيَّاً، وكلُّ ذلك يزيد الرّغبة الجنسيّة، لكنّه كما أثبت الطّبُّ يُقلِّل الأداء، وفي كثيرٍ من الحالات يُصاب مُدمِنُ الخمر بالعَنانة والعَجز الجنسيِّ، ذلك أنَّ الخمر يُخرِّب الأعصاب الّتي تحمل الأوامر وتنقُل الأحاسيس ما بين الدِّماغ والأعضاء التّناسليّة، وهي عَنانةٌ تأتي في الغالب مُبكِّرةً في حياة المُدمِن، وعلاجها صعبٌ جدّاً... وهذه العَنانة إضافة إلى خصائص كامنة في الخمر والكوكائين وغيرهما تجعل المُدمن يُصاب بمرض الشَّكِّ الزَّوَريِّ (البارانويا) حيث يُصبح شكَّاكاً في نوايا النّاس نحوه دون ما يدعو إلى الرّيبة، وتجعله يشكُّ في امرأته ويتّهمها ظلماً بالخيانة ويُراقبها ويُعاملها على أساس أوهامه، وأحياناً يقتلها لينتقم لشرفه إن كان قد بقي له مع الإدمان شرفٌ أو كرامةٌ. وقد يشّكُّ المُدمِن بابنته ويتّهمها في عِرضِها بل قد يشكُّ في طفلته ذات السّنوات القليلة، وكم هي تعيسةٌ تلك الفتاة الّتي تسمع أباها يتّهمها في عِرضِها صباح مساء دون مبرِّر.
والعظمة الوهميّة الّتي يعيشها المُتعاطي تجعله يُعامِل زوجته بفوقيّةٍ وتَعالٍ ويقوم بإهانتها وإذلالها، ليعود ذلك الزّوج الطّيِّب بعد أن يزول عنه تأثير ما تعاطاه... والحياة الزّوجيّة على هذه الحال حياةٌ بائسةٌ تذوق فيها الزَّوجة مُرَّ المُعاناة.
والمُدمن الّذي يصبح الخمر أو المُخدِّر محور حياته، وتنحصر اهتماماته بالتّعاطي ثمَّ محاولة الحصول على المزيد من الخمر أو المُخدِّر، وتضيق دائرة علاقاته الإجتماعيّة لتنحصر في مجموعةٍ من المُدمنين يُشاركونه الاهتمام نفسه، هذا المُدمن يهمل أُسرته ويتخلَّى عن مسؤوليّاته كزوجٍ وكأبٍ، ويترُك الأعباء كلّها لزوجته المسكينة، بل قد يتوقّف عن الإنفاق على أُسرته إذ هو يُضَيِّعُ ما يأتيه على مَلَذّاته، وبخاصّةٍ أنَّ المُدمِن كما يُقال "يُنْتِجُ أَقَلَّ ويُنْفِقُ أكثر"، وهكذا يتدهور هو مهنيَّاً وماليَّاً، وتعيش أُسرته فقراً وحرماناً لا سبب لهما إلّا إدمانه. وحتّى الحشيش الّذي يزعم البعض أنَّه لا يُسبِّب الإدمان ولا يضرُّ المُتعاطي قد أثبتت الدِّراسات الحديثة أنَّه يُسبِّب الإدمان ويُسبِّب حالةً من فقد الدّافعيّة تجعل المُدمِن قليل الاندفاع والطّموح لتطوير نفسه في مهنته أو تجارته أو اختصاصه.
والجرأة على العدوان الّتي يشعر بها المُتعاطي تهوِّن عليه قتل نفسه، وحوالي ثلثَي حالات الانتحار في البلاد الغربيّة تتمُّ والشّخص تحت تأثير الكحول، ويُمكننا تصوّر الأثر الّذي يتركه اكتشاف زوجةٍ أو طفلٍ للزّوج وقد قتل نفسه بمسدسه أو علّق نفسه وتدلّى من السّقف ميِّتاً...
ومن آثار الإدمان بعيدة المدى أنَّ المرأة الّتي كان أبوها مُدمناً تقع في الغالب في خطأ الزّواج من مُدمنٍ مثل أبيها لتعيش معاناةً مماثلةً لِمَا عاشته أُمّها، وإن كانت قلّة من بنات المُدمنين يَحرِصْنَ على أن لا يعشْنَ المأساة مرتين، لكن الغالبيّة يتأثَّرنَ بإدمان آبائهنَّ ويخترنَ الزّوج المُدمن ويرضيْنَ به.
والإدمان وبخاصّة على الهيروئين وما شابهه يؤدِّي إلى تحوُّل الشّخص مع الوقت إلى شخصيّةٍ فاسدةٍ مُتمرِّدةٍ على القِيَم (سيكوباثيّة) أي إجراميّة وبلا ضميرٍ، ويظهر ذلك في الرِّجال في السّرقة والقتل للحصول على ثمن المخدِّر، وفي النِّساء في بيعهنَّ لأغراضهنَّ مقابل جرعة مخدِّر، بل إنَّ بعض المدمنين يوَرِّطون زوجاتهم في الإدمان والرّذيلة لضمان حصولهم على المخدِّر الّذي ما عادوا يَقدرون على العيش من دونه.
لكن للإدمان علاج، والعلاج صعبٌ وعسيرٌ إلّا إذا صدقت عزيمة المُدمن نفسه ورغبته في الشِّفاء، عندها تهون الصِّعاب ويكون النّجاح.