صداقات الزوجين
صداقات الزوجين
Whatsapp
Facebook Share

صداقات الزوجين

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

واحدة من أهمّ مصادر القلق الإنساني هي مشاعر الوحدة والعزلة في هذا الوجود، وهي مشاعر ملازمة لفرديّة الإنسان واستقلاليّته عن باقي المخلوقات، إنّه كائن يعيَ نفسه ووجوده، ويحسُّ بانفصاله عمّا سواه، فهو فرد منذ أن يُقْطَعَ الحبل السّريّ بينه وبين أمّه، وفرد منذ أن يقوم بنفسه بقطع الحبل السّريّ النّفسيّ الّذي يربطه بأمّه في السّنوات الأولى من حياته، حيث في سبيل الاستقلاليّة لا بدّ من الانفصال عن الأمّ ومن ثمّ عن الوالدين كليهما في عمليّة دائبة من بناء الاعتماد على الذّات والاستقلال عن الآخرين، لكن الاستقلاليّة عن الوالدين الّتي تبلغ أقصى درجاتها في أواخر المراهقة عند بلوغ الرّشد الّذي لا بدّ منه حتّى لا تكون الاستقلاليّة وبالاً على الإنسان، هذه الاستقلاليّة الغالية على النّفس البشريّة تدفع الإنسان عندما يمتلكها بما تحتوي عليه من وحدة ووحشة في هذه الحياة، تدفعه إلى الآخرين يبحث لديهم عن رفقة مؤنسة وصحبة مساندة ومطمئنة، وهذه الصّحبة والرّفقة يجدها الإنسان في علاقته مع خالقه الّتي تصبح علاقة شخصيّة منذ أن يصل الإنسان إلى البلوغ العقلي الّذي يؤهلّه عقليّاً للإحساس بهذه العلاقة مع ربّ آمن به بالغيب دون أن يراه، ويجد الإنسان الصّحبة والرّفقة من خلال الحبّ والزّواج، حيث يربط الإنسان نفسه بإنسان آخر اختاره وأحبّه بعد أن استقلّ عن أمّه وأبيه، وتبقى الصّداقة والأخوّة الإيمانيّة مصدراً لا حدود لِقُدْرَتِهِ على إمداد الإنسان بالرّفقة والصّحبة المنشودة.

 

لكن لا يمكن للإنسان أن يستغني بالعلاقة مع الخالق عن العلاقة مع البشر، إذ لا يمكن له أن يعيش وحيداً، ولن تستقيم حياته إن عاش بين النّاس بلا حبّ ولا صداقة ولا إخاء، كما إنّه لا يمكن له أن يستغني بالحبّ والصّداقة مع البشر عن العلاقة مع ربِّ البشر. والزّواج يحقّق قدراً كبيراً من السّكن النّفسيّ والصّحبة المؤنسة، لكن يخطئ كثيراً من يظنّ أنّ الزّواج يغني عن الصّداقة والأصدقاء.

 

إنّ حاجة كلّ من الزّوجين إلى الأصدقاء بحيث يكون للزّوج أصدقاؤه ويكون للزّوجة صديقاتها تنبع من حقيقة أنّ أيّاً منهما لا يمكن له أن يشبع حاجة الآخر إلى الصّحبة والألفة والعلاقة الإنسانيّة إشباعاً كاملاً بمفرده. أولاً لأنّ لكلّ من الزّوجين دوراً في الحياة عليه القيام به غير دوره كزوج أو زوجة، ولن يمكنه التّخلّي عن مسؤوليّاته الحياتيّة ليتفرّغ لصاحبه بحيث لا يحتاج إلى مصاحبة أحد سواه، وحتّى إن افترضنا إمكانيّة أن يتفرّغ الزّوجان لحياتهما الزّوجيّة بحيث يملأ كلّ منهما فراغ الآخر بحضوره الدّائم معه فإنّ هنالك اختلاف بين الرّجال والنّساء في نوعيّة العلاقات الّتي يسعون إليها منذ نعومة أظفارهم، والرّجل والمرأة على السّواء لا بدّ له من الصّبر على الآخر حتّى تدوم المودّة ويكون التّواصل والحوار بينهما ناجحاً، إذ كلّ منهما يعتاد منذ الطّفولة على أسلوب في الحوار مختلف، وله أهداف مختلفة من حواره مع الآخرين، فللذّكور أسلوبهم ومقصدهم في أحاديثهم، وللإناث أسلوبهنّ ومقصدهنّ، وأسلوب كلّ منهما ومقاصده تنسجم مع طبيعته وتكوينه النّفسيّ كرجل أو كأمرأة.

 

فالحوار الإنساني والتّواصل عبر الأحاديث يمكن ان يحقّق غايات مختلفة، أوّلها: نقل معلومات من إنسان إلى آخر، وثانيها: التعبير عن المشاعر، وثالثها: تكوين العلاقات والحفاظ عليها، ورابعها: تحديد المكانات والدّرجات بين المتخاطبين، وخامسها: إثبات المعارف والقدرات والمهارات للآخرين، وسادسها... وسابعها... إلخ. والّذي بيّنته الدّراسات النّفسيّة أنّ الذّكر منذ طفولته أكثر ميلاً وحرصاً على استقلاليّته، وعلى استعراض قوّته سواء القوّة العضليّة أو الماليّة أو المعرفيّة أو السّلطويّة، كما بيّنت الدّراسات النّفسيّة أنّ الأنثى منذ طفولتها أشدّ ميلاً وحرصاً على تكوين العلاقات والرّوابط الإنسانيّة مع الآخرين، وعلى استعراض جمالها بكافّة صوره، جمال الجسم وجمال الشّخصيّة والمهارات الفنيّة.... وحرص كلّ من الجنسين على ما يحرص عليه (الاستقلاليّة وعرض القوّة عند الرجل، والارتباط وعرض الجمال عند المرأة) يجعل لكلٍّ من الرّجل والمرأة أسلوبه في الحوار والحديث والتّخاطب.

 

الرّجل استقلالي يعرِض قوّته الّتي هي أساس استقلاليّته، والمرأة ارتباطيّة تعرض جمالها الذي يدعو إلى الارتباط بها.

 

الرّجل حسّاس لاستقلاليّته ينقلب إلى مُدافع عنها كلّما استشعر حقيقةً أو توّهماً أيّة محاولة من محدّثه للتّحكّم فيه، وهو معتاد على استعراض قوّته.. والمعرفة وامتلاك أكبر قدر من المعلومات قوّة، كما أنّ إخفاء الأمور الشّخصيّة وبخاصّة منها ما هو مشكلات حماية لصورته كرجلٍ قويٍّ مستقل، لذا اعتاد الرّجل منذ طفولته وصداقاته مع الصّبيان الآخرين، اعتاد أن يدخل الحديث معهم بروح المُغالب المُنافس والمُزاحم، واعتاد أن يتحدّث في كلّ أمرٍ تتجلّى فيه معرفته وجوانب قوّته إلّا في أموره الخاصّة والشّخصيّة، واعتاد الرّجل أن يشارك الرّجال الآخرين في نشاطاتهم ويشركهم في نشاطاته كدليل على الصّداقة، لكنّه لم يعتد أن يرى في الإفضاء بهمومه ومشكلاته إلى رجلٍ آخر دليلاً على الصّداقة والمودّة بقدر ما هو دليل على الضّعف والاعتماديّة والهشاشة، وكلِّها أمور ينفر منها ويأنف لأنّها النّقيض لما يسعى إليه من قوّة واستقلاليّة.

 

أمّا المرأة فقد اعتادت أن ترى في الحوار والحديث والمشاركة في الهموم والأسرار والأخبار دليلاً على الصّداقة والعلاقة الحميمة، ولم تعتد أن تستخدم المعرفة وسرد المعلومات لعرض جمالها، لأنّ الجمال عندها يبدأ من جمال الخلقة والصّورة، وإن كان الرّجل النّاضج يرى في ذكاء المرأة واطلاعها جمالاً لا يغني عنه الجمال الجسدي.

 

المرأة منذ طفولتها لا تدخل الحديث والحوار مزاحمة مغالبة بل مشاركة مساندة ومؤتمنة لمن تُصادق على الأسرار والأخبار، لكنّها الأخبار غير السيّاسيّة. إن أخبار الأهل والأصدقاء والجيران بكلّ ما فيها من تفصيلات تبدو للرّجال مملّة وغير هامّة، في حين تبدو للنّساء هامّة وحميمة، والممل في نظرهنّ هو المعلومات الكثيرة الّتي يتبارى الرّجال في الإدلاء بها في جلساتهم سواء في السّياسة أو المال والأعمال أو الرِّياضة أو المشكلات في العمل.

 

حرص المرأة على تكوين العلاقات، وضعف الرّغبة لديها في المنافسة في غير المجالات الجماليّة يجعلها تتحمّل محاضرات الرِّجال الّتي يجودون بها كلّما دخلت في حوار معهم، حيث يندفع أحدهم ليسرد كلّ ما يعرف في أمر غير ما تحبّه المرأة من أمور النّاس الحياتيّة، بل في السّياسة أو العلم أو غير ذلك. المرأة غير معتادة على المغالبة في حديثها مع الآخرين، والرّجل أكثر حرصاً على أن يتكلّم من الحرص على الاستماع للآخرين، وهو لا يرى الحوار وسيلة لتمتين العلاقات إلّا عندما كان في حبّ رومانسيّ وشهر للعسل يحبّ الحديث مع المحبوبة على طريقتها، حديث طويل لا ينتهي حول تفصيلات وخصوصيّات يفضي بها كلّ منهما للآخر، لكن ما إن يطمئن الرّجل إلى أنّ علاقته مع الحبيبة توطّدت من خلال الزّواج ومرور الأيّام سعيدة على هذا الزّواج حتّى يعود إلى أسلوبه الذّكري في الحديث والحوار، وحتّى يعود إلى مفهومه القديم للصّداقة حيث هي مشاركة في النّشاطات لا مشاركة في الهموم وأخبار النّاس بجزئياتها وتفصيلاتها المملّة له.

 

وهكذا لو اقتصرت الزّوجة في حياتها على زوجها كصديق واستغنت به عن صديقاتها من النّساء، فإنّه يتوجّب عليها أن تحرم نفسها من الكثير ممّا تحبّه وتجده في أحاديثها مع صديقاتها من أجل أن تتكيّف مع أسلوب الزّوج واهتماماته، ولو اقتصر الزّوج في حياته على زوجته كصديقة لحرم نفسه ممّا تقدّمه له صداقاته مع الرّجال من فرص للمشاركة في نشاطات يحبّها وللحوار في موضوعات يستمتع بها. بالطّبع يجب أن يكون الزّوج خير صديقٍ لزوجته ويجب أن تكون الزّوجة خير صديقة لزوجها، لكن من مصلحة كلّ منهما أن يكون له صداقاته، هو مع رجال يتجاوبون مع ميوله، وهي مع نساء يشاركنها ما تحبّ وترغب. كما أنّه لكلّ من الزّوجين مصلحة في أن يكون للآخر أصدقاؤه لأنّ ذلك يخفّف عنه عبء المسؤوليّة عن كفاية هذا الآخر وإشباع احتياجاته كلّها للألفة والرّفقة والصّحبة والحديث والحوار.

 

إذن أن يكون للزّوجة صداقاتها شيء مفيد لها ولزوجها، وأن يكون للزّوج صداقاته شيء مفيد له ولزوجته، أمّا أن يستمرّ الرّجل في إعطاء جُلَّ وقته واهتمامه لصداقاته مع رفاق الصّبا بحيث يغيب عن بيته، أو بحيث يتحوّل بيته إلى منتدى لأصحابه فذلك أمرٌ عظيم الضرر والخطر، فالزّوج الغائب يترك في البيت امرأة تشعر بالعزلة والوحدة وتخشى على علاقتها بزوجها طالما أنّها لا تطمئّن عليها وتتمتّع بها عن طريق الحديث والحوار، وطالما انّها تشعر بالإقصاء عن دائرة حياة الزّوج الّذي يصبح البيت بالنّسبة إليه أشبه بالفندق، والزّوجة أشبه بالخادمة، ثمّ بغيابه مع أصدقائه يترك لزوجته أعباء تربية الأطفال بمفردها. وفي ذلك ما فيه من شعورها بمسؤوليّةٍ خلقَ الله لها رجلاً وامرأة ليتحمّلاها، فتحمّلتها مكرهة وحدها. وتمتلئ الزّوجة بالقلق والغيظ والاستياء، وتتحوّل الحياة الزّوجيّة إلى نكد وتنغيص، قد يظنّ الزّوج أنّ الخلاص منه يكون بالهروب من البيت إلى أصدقائه أكثر فأكثر، فيداويها بالّتي كانت هي الدّاء، ويزداد شقاء المرأة، وأطفالها كانوا ضحيّة صداقات أفرط الرّجل فيها.

 

ومن جهة أخرى يجب أن لا تكون صداقات المرأة على حساب زوجها وأطفالها، إذ لا بدّ من موازنة الأمور وتقسيم الوقت بحكمة، كما لا بدّ من عدم الانسياق وراء النّزعة إلى الإفضاء لدى المرأة بحيث تبوح المرأة إلى صديقاتها بأسرار بيتها وزوجها، ثمّ لا بدّ من الحذر في صداقات الزّوجة مع النّساء الأخريات من تدخلهنّ في شؤونها وعدم احترامهنّ لحرمة بيتها، فالعلاقة بين الأنثى والأنثى علاقة بين اثنتين تسعيان وراء الارتباط والتّعلّق وقد تضعف الحدود ما بين هاتين النّفسين، فلا يكون واضحاً على المستوى النّفسي أين تنتهي حدود كلّ منهما وأين تبدأ حدود الأخرى، فيكون التّدخّل في شؤون الأخرى نتيجة طبيعيّة لعلاقة حميمة تكاد الحدود فيها أن تزول، فلا تشعر الواحدة منهما أنّها تتعدّى الحدود عندما تدخل غرفة نوم صديقتها دون استئذان، أو عندما تتورّط في مشكلات صديقتها وتنفعل عاطفيّاً وكأنّها مشكلاتها هي، فغموض الحدود النّفسيّة بين الذّاتين المؤنثتين المتصادقتين قد يجعل الزّوجة تتأثّر بمشكلات صديقاتها الزّوجيّة وتسقط ذلك على حياتها الزّوجيّة، وتتعامل مع زوجها بمشاعر الغيظ والعداء الّتي شعرت بها تجاه زوج صديقتها الّذي حدّثتها صديقتها عن إيذائه لها وظلمه إيّاها، وحتّى لو لم تتعامل الزّوجة مع زوجها بهذه المشاعر الّتي لا ذنب له فيها، فإنّ تورطها العاطفي العميق مع صديقاتها ومشكلاتهنّ قد يجعل مزاجها كئيباً أو غاضباً ممّا يترك أثره السّيء في جوّ الحياة الأسريّة.

 

البعض يدّعي أنّ الصّداقات العائليّة هي الحلّ الأمثل حيث يكون الزّوج صديق الزّوج والزّوجة صديقة الزّوجة، والأولاد في الأسرة الأولى أصدقاء للأولاد في الأسرة الثّانية... إنّ هذا تكلّف لا داعيَ له، كما إنّه قد يكون على حساب أحد الزّوجين أو على حساب الأولاد، إذ إنّ ارتياح الزّوج مثلاً برجلٍ آخر لا يضمن أن تجد زوجته في زوجة الآخر صديقة حميمة، وكذلك الأولاد، إنّ ممّا يميّز الصّداقة ويجعل لها درجة على أخوّة الدّم وقرابة النّسب أنّها علاقة قائمة على الاختيار الحر وعلى التّجاوب النّفسيّ والارتياح والإعجاب المتبادل، وإنّ الصّداقات العائليّة صداقات كثيراً ما يضطرّ فيها أحد الزّوجين إلى مصادقة من لا يحبّ، وإن كان مثل هذا الاضطرار محمولاً ولازماً في القرابة، حيث تضطرّ الزّوجة مثلاً إلى مجاملة زوجة أخي زوجها، أو زوجة خاله، أو يضطرّ الزّوج إلى مجاملة زوج عمته أو زوج ابنتها، وذلك كلّه حفاظاً على صلة الرّحم، فإنّ مثل هذا الاضطرار في الصّداقات العائليّة لا مبرّر له، إذ ما المانع أن تكون صداقة بين رجلين بينما زوجتاهما لا تعرف إحداهما الأخرى؟ وما المانع أن تكون صداقة بين امرأتين وزوجاهما لم يسبق لهما اللّقاء أبداً؟

 

إن حصل الانسجام بين جميع الأطراف كانت الصّداقات العائليّة جميلة وذات طعم خاص، لكن يجب أن يكون ذلك بمحض الاختيار لا بالتّكلّف ولزوم ما لا يلزم. وفي الحالات الناجحة من الصّداقات العائليّة ينشأ خلاف حول اجتماع الجميع مثلاً في مجلس واحد وأمسية مشتركة، أو افتراق النّساء عن الرّجال كلّ من الفريقين في غرفة أو مجلس مستقلّ، بحيث يشعر الرّجال أنّهم وحدهم وتشعر النّساء أنّهنّ وحدهنّ. اختلاف الرأي هنا نتناوله من المنظور النّفسيّ وليس من المنظور الفقهيّ حيث يمكن للنّقاش أن يتحوّل إلى نقاش حول حكم الاختلاط بين الجنسين وما إلى ذلك.

 

بالطّبع إنّ مثل هذا الاختلاط قد يجعل كلّ واحدٍ من المشاركين فيه يرى أزواجاً كثيرين كلّ منهم فيه ما فيه من الميّزات الّتي قد يفتقدها في شريك حياته، وعندها يشعر بالحرمان ويقلّ إعجابه بما قسم الله له، وهذا ينطبق على الرّجال والنّساء، وينسى فيه الجميع أنّ الاختلاط يُظهر المحاسن، أمّا العيوب والمساوئ فكلّ من الحاضرين أدرى بما لدى شريك حياته منها، أي في الاختلاط يقارن الإنسان شريك حياته بما فيه من عيوب مع آخرين رأى محاسنهم ولم يرَ مساوِئَهم، ولا بدّ لمثل هذه المقارنة الجائرة من أن تعطي نتائج خاطئة. 

 

ثمّ إنّ هذا الاختلاط قد يجرّ إن قلت التّقوى إلى الخيانات الزّوجيّة من الرّجال ومن النّساء، وبالتّالي من الطّبيعي أن يترافق هذا الاختلاط العائلي مع مشكلات زوجيّة ناجمة عن الغيرة، سواء منها الغيرة المحمودة والمتزنة، أو الغيرة الزّائدة المنبعثة عن سمات في الشّخصيّة وطباع غير متوازنة.

 

ثمّ إنّ الجلسات العائليّة المختلطة تجعل كلّاً من الحضور رجلاً كان أو امرأة يتصرّف في حضور الجنس الآخر لا على طبيعته وراحته وسجيّته، إنها تحرم النّساء من فرصة الأحاديث النّسويّة بما فيها من اهتمامات لا تستطيع النّساء الحاضرات فرض الحديث فيها على أزواجهنّ، إنّما يستلم الرّجال الحديث حيث الموضوعات غير الشّخصيّة، وحيث استعراض العضلات المعرفيّة الّتي تظهر كلّما أدلى أحدهم بمعلوماتٍ أكثر أو أدق، وكلّ هذا ليس ممّا تهتمّ به النّساء عادة، والنّساء اللواتي لم يتعودن على المزاحمة والمغالبة في الحديث يجدن أنفسهنّ مضطراتٍ إلى الاستماع، ومضطراتٍ إلى الموافقة وقول آمين حرصاً منهنّ على مشاعر المتحدّث، إذ هذا الحرص ممّا اعتدن عليه في أحاديثهنّ.

 

كما إنّ النّساء في مثل هذه المجالس العائليّة المختلطة يجدن أنفسهنّ مضطرات إلى الدّخول في منافسة جماليّة فيما بينهنّ، مع ما يمكن أن ينتج عنها من مشاعر الحسد والعداء فيما بينهنّ. وعلى ذكر الحسد علينا أن نتذكّر أنّ الحسد شعور مهدّد ومزعج في الصّداقات كلّها سواء كانت عائليّة أو غير عائليّة، وعلينا أن نُطهّر نفوسنا منه وأن نداويه فور إحساسنا به، وذلك بأن ندعوَ لأصدقائنا في قلوبنا وسرّنا أن يبارك الله لهم فيما لديهم من أشياء أو صفّات أعجبتنا وتمنينا أن يكون لنا مثلها.

 

والصّداقات عموماً تستدعي التّزاور والتّهادي، وهذا شيء رائع إلّا أنّ له مساوئه من حيث الزّيارات الّتي تطول بالسّاعات فتكون عبئاً على الزّائر وعلى المزور، ومن حيث الهدايا في المناسبات الّتي تصبح واجباً إلزاميّاً يُفْقِدُ التّهاديَ أثره المولّد للحبّ في نفوس المتهادين.

 

والصّداقات وما فيها من تزاورٍ وتهادٍ يجب أن تكون صداقات بلا غرض كما يقول علماء النّفس، أي صداقات في الله كما يسمّى الحبّ والتّزاور والتّهادي في ديننا الحقّ. إنّ الصّداقة القائمة على المنفعة ليست صداقة أبداً ولا يمكن لها أن تحقّق للنّفوس ما تسعى إليه وتريده من الصّداقة.

 

ثمّ إن معرفتنا أنّ النّاس يلتقون في الدّار الآخرة يجب أن يجعل صداقاتنا مع أناس نتوقّع فراقهم عندما يعودون إلى بلادهم أو نعود نحن إلى بلادنا، صداقات حقيقيّة تستحقّ منّا الجهد للمحافظة عليها في عصر تيسّرت فيه سبل الاتصال إلى حدّ ما كان يخطر بالبال. إذ النّظر إلى العلاقة على أنّها مؤقتة يجعلها سطحيّة ويعيق نموّها إلى صداقة حميمة مترفّعة عن المنفعة والمصلحة.

 

ويبقى السّؤال مطروحاً حول صداقات كلّ من الزّوجين مع الجنس الآخر في عصرٍ خرجت فيه المرأة من البيت وصار من النّادر أن يخلوَ مكان للعمل من المرأة واختلاط الجنسين، اللهمّ إلّا في بلاد قليلة على مدى العالم العربيّ والعالم الإسلاميّ. البعض يرى أنّه ليس من الممكن أن يحدث أيّ تفاعل اجتماعي بين رجل وامرأة لا يكون الجنس فاعلاً فيه، وأقول إن قصدنا اختلاف الجنس بين الرّجل والمرأة فهذا صحيح، حيث لا بدّ للمودّة والرّحمة الّتي جعلها الله بين النّساء والرّجال من أن تفعل فعلها في تيسير هذا التّفاعل الاجتماعي بينهما، أمّا الجنس بمعنى الشّهوة فإنّ طردها من النّفس ممكن إن سترت المرأة جسمها بما نصّ عليه الفقهاء، وإن تجنّبت الخلوة وغضّ كلّ منهما بصره، واعتبر العلاقة الّتي فرضها العمل عليهما علاقة أخوّة في الله، أمّا بغير هذه الشّروط فالميل بين الجنسين فطري والفتنة قويّة قد تصعب مقاومتها. 

Copyright 2017 ©. All Rights Reserved.