الانتقام بين الزوجين
الانتقام بين الزوجين
عندما يقع إيذاء أو عدوان علينا سواء كان ماديَّاً أو معنويَّاً، فإنَ شعوراً يُسمّى الغيظ يَتولَّد في النَّفس ليدفعنا إلى الانتقام. فالغيظ ثورةٌ من أجل أنفسنا تَشحُننا بالعداء والرَّغبة في إيلام مَن اعتدى علينا أو حتّى تحطيمه. والانتقام عقوبةٌ يُوقِعُها الإنسان على من اعتدى عليه جزاءً له على فعله، الهدف منه تهدئة الغَيظ الّذي ثار في النَّفس وإرضاء النّفس الّتي لم ترضَ أن يتعدّى أحدٌ على حدودها فيؤذيها أو يُهينها أو يأخذ منها ما يَخصُّها.
ورغم أنَّ العلاقة بين الرّجل والمرأة وبخاصّة في ظلِّ الحياة الزّوجيّة تقوم على المودّة والرّحمة، أي الحبّ المُتبادل ونقاء القلب من مشاعر العداء والرّغبة في الإيذاء، فإنَّ العلاقة بين الزّوجين تميل فيها المشاعر إلى أن تكون حادةً ومُركَّزة... فالحبُّ بينهما شديدٌ، وإن ثار الكُره كان مثله لا يعرف الحدود، ولعلَّ الاعتماد الشّديد المُتبادل بين الزّوجين وصعوبة تغيير الزّوج لزوجته والزّوجة لزوجها وأهميّة كلّ منهما لسعادة الآخر وبخاصّةٍ في مشاريع الحياة، لعلَّ ذلك كلّه يُفسِّر ميل المشاعر بينهما إلى العنف والشِّدَّة. والعلاقة الزّوجيّة ككلِّ العلاقات الإنسانيّة لا تكون ناجحةً ما لم تُحقِّق الإرضاء والإشباع للطّرفين؛ وعندما يَحِسُّ أحدهما أنَّ الآخر يقف عائقاً في سبيل نجاحه وسعادته، يَنظر إليه على أنَّه مصدرُ الإحباط في حياته، وإذا أصرَّ هذا الآخر على سلوكه المُزعج للطّرف الأوّل شعر الأوّل أنَّ شريكه يَضَعه في موقفٍ صعبٍ: إمّا أن يتخلّى عن طموحاته الّتي يقف سلوك هذا الزّوج (أو الزّوجة) عائقاً في سبيلها، أو أن يُبدَّل هذا الزّوج (أو الزّوجة)، وكلا الأمرين مُربكان ومُزعجان ومُعيقان.. فيمتلِئ غيظاً تجاهه ويَنشحن بالعداء نحوه والرّغبة في عقابه، ورغم أنَّ هذا العداء يصل بسهولةٍ إلى حدِّ تَمنِّي موته فإنَّه ما أن يتراجع الطّرف الثّاني عن سلوكه الّذي أَغاظ الأوّل حتّى تتحوّل المشاعر إلى حبٍّ جارفٍ وعرفانٍ وشُكرٍ... هكذا هي دائماً المشاعر بين الزّوجين تميل إلى التَطرُّف والحِدَّة.
وقد يَصل الانتقام بين الزّوجين إلى حدِّ الجريمة البشعة والقتل دون رحمةٍ وببرودةٍ وقَسوةٍ، لكنَّه عادةً يكون دون ذلك بكثيرٍ، وتعتمد درجة الانتقام على عوامل عدّةٍ منها عَظم الذّنب والإساءة الدّاعية إلى الانتقام في نظر المُنتقم، فالإساءة الصّغيرة يُقابلها عادةً التّجاهل أو العُقوبة البسيطة، أمّا إن اعتبر الإساءة كبيرةً كانت الرَّغبة في الانتقام البالغ، وإن تحقَّق الانتقام فرُبَّما كان مُدمِّراً... وتعتمد درجة شدّة الانتقام على ميل المُنتقم إلى حلِّ مُشكلاته مع الآخرين عموماً من خلال العدوان والعنف، أو ميله عكس ذلك إلى الرّحمة والمُسامحة، كما تعتمِد على أخلاق المُنتقم والقِيَم الّتي يُؤمِن بها، فالانتقام لدى الشّخص العادل يكون مُساوياً للذّنب، أمَّا المَيَّال إلى الظّلم والتّجبُّر فإنَّ انتقامه يكون شديداً وبلا رحمةٍ رغم بساطة الإساءة.
أمّا الاندفاع في الانتقام أو التّخطيط له فيَعتمد على شخصيّة المُنتقم وطبيعته بغضِّ النّظر عن كونه رجلاً أو كونه امرأةً... فبعض النَّاس اندفاعيون وبعضهم يميل إلى التّخطيط والحَذَر والحيطة وهذا ينطبق على الجنسين.
وتتنوّع دوافع الانتقام وأسبابه لكن أهمّ هذه الدّوافع الإحباط والإساءة والغيرة.
فالّذي يحلُم أن تسير حياته مع أُسرته سيراً مُعيَّناً لتُحقِّق هدفاً مُعيَّناً فيأمُر زوجته بأشياء مُعيَّنة يراها ضروريَّة لتحقيق الهدف الّذي يسعى إليه سواء من حيث تربية الأولاد أو تنمية الثَّروة أو غير ذلك، ثمَّ تصرُّ زوجته على عدم طاعته وعلى فعل ما نهاها عنه وعدم القيام بما طلبه منها فإنَّه يحسُّ أنَّ زوجته تقوم بإحباط مساعيه من أجل حلمٍ معيَّنٍ يسعى إليه فتثور في نفسه الرّغبة في الانتقام منها... والّتي تُحضِّر الطّعام الطَّيِّب وتتزيَّن لزوجها عندما يعود من عمله، ولكنَّه يأكل الطّعام دون كلمة شكرٍ ويتغافل عن زينتها وجمالها، هذه الزّوجة الّتي يُواجهها زوجها بهذا الجحود ويُشعرُها أنَّ جُهدها لا يأتي بالثّمرة الّتي تُريدها وتسعى إليها، يُشعرها بالإحباط ويُثير في نفسها الغًيظ والرَّغبة في الانتقام... وكذلك الزّوجة الّتي يُعبِّر زوجها عن رغبته في مُعاشرتها فتتمنَّع تتسبّب في شعوره بالإحباط إذ وقفت في وجه تحقيق رغبته، كما أنَّها أدَّت إلى شعوره بالمذّلَّة، إذ هي برفضها لمبادرته تُشعره أنَّه ضعيفٌ وعبدٌ لشهوته بينما هي مُتسامية عن ذلك ومُتحكِّمة في نفسها ومُتحكِّمة به من خلال ذلك، وهذا يَملؤه غيظاً ورَغبةً في الانتقام والعُقوبة.
أمّا الإساءة فلها صورٌ مُتعدِّدةٌ، منها أن لا يُظهِر الزَّوج احترامه لزوجته بل يتكبَّر عليها ويَسخر منها في حضور الآخرين أو الأطفال، ومنها ألّا تَحرص الزّوجة على مال زوجها وممتلكاته فتؤدِّي إلى تكبيده الخسائر الكبيرة، ومنها أن يتسبّب أحدهما في إحراج الآخر وخزيه عندما يُسيء معاملة ضيوفه أو أهله، وغير ذلك من صور الإساءة الّتي تُثير في النّفس الغَيظ والرَّغبة في الانتقام.
أمّا الغيرة فدافعٌ خطيرٌ للانتقام، وبخاصّة الانتقام الّذي يصل إلى حدِّ الجريمة البشعة، إذ إنَّ نسبةً عظيمةً من الجرائم الّتي تقع داخل الأُسرة تكون الغيرة وراءها. ويجب الانتباه إلى الغيرة المرضيّة النّاتجة عن مرضِ الشّكِّ الّذي ليس هُنالك ما يُبرِّره في الحالات الزَّوريَّة وفي بعض المُدمنين على الخمر وغيره، حيث يندفع بعض هؤلاء وراء ظنونهم فيَقتل أحدهم زوجته وهو يرى أنَّه يَغسِل عاره ويُعاقبها على ما فعلت وأنَّها تستحقُّ القتل ويرى نفسه بطلاً ثائراً لشرفه وكرامته. وكذلك الزّوجة الّتي تَغتاظ من زواج زوجها عليها أو من حبِّه لامرأة أُخرى فإنَّها قد تُؤذيه أو تُؤذيها.
ومن أسباب الانتقام بين الزّوجين وعدوان أحدهما على الآخر أن يكون أحدهما مملوءاً بالغَيظ تجاه مَن لا يَقدِر على مواجهته، كالّذي يَمتلئ غيظاً من ظلم رئيسه في العمل له، ولا يَقدر على مواجهته، فإنَّ هذا الغَيظ الّذي يملأ النّفس قد يتوجّه نحو الزَّوجة فيثور الزّوج ويُؤذيها الأذى الكبير عند قيامها بغلطةٍ صغيرةٍ، وكذلك الحال بالنِّسبة للزّوجة وإن كان الأطفال هم الضّحيّة في حالة الزّوجة في أغلب الأحيان.
وللانتقام بين الزّوجين أشكالٌ عديدةٌ، أوّل ما يتبادر للذّهن عادةً منها الإيذاء الجسدي من ضربٍ أو تعذيبٍ أو حتّى قتلٍ. لكن هنالك أشكالٌ أُخرى منها تشويه صورة الطّرف الآخر في عيون النّاس كالّذي يتّهم زوجته الّتي طلبت الطّلاق منه بأنَّها غير شريفة وأنَّه طلّقها ستراً عليها، أو أنَّها لا تَصلُح ربّة منزلٍ إذ هي كسولة مُهملة قذرة لا تهتمُّ بأطفالها ولا تُجيد الطّبخ... أو الّتي تتهم زوجها الّذي طلَّقها أنَّه بخيلٌ أو يُعاني من العَجز الجنسيِّ مُحاوِلَةً في ذلك الحطّ من رجولته. ومِن صور الانتقام والعُقوبة بين الزَّوجين استقطاب الأولاد وتكريههم بالطّرف الآخر، أو إيذاء الطّفل الّذي يُحبُّه الأب مثلاً انتقاماً مِن الأب مِن خلال صغيره الحبيب، أو حتّى حرمان الأمّ أو الأب مِن أولادهما بعد الطّلاق.
ومِن أشكال الانتقام بين الزّوجين أن تتمنَّع الزّوجة عن زوجها وترفُض مُعاشرته المُعاشرة الزّوجيّة أو أن تكون باردةً معه، وكذلك أن يهجرها الزّوج ولا يَقربَها، أو أن يلجأ أحدهما أو كلاهما إلى المُمارسات الجنسيّة الشّاذّة المشحونة بروح العداء الّذي يَجِد له مُتنفسّاً مِن خلال الأفعال الجنسيّة الشّاذّة.. ومِن صور الانتقام حرمان الطّرف الآخر مِن الشّكر على ما يُقدِّم، والبحث عن تقصيره وأخطائه والتّركيز عليها، ومنها أن يتزوّج الرّجل زوجةً ثانيّةً ليكيد الأولى، ومنها أن تخون الزّوجة زوجها فتتورّط في علاقةٍ أثمةٍ انتقاماً مِن زوجها، أو أن تلجأ إلى السَّحَرة من أجل أن يقوموا بسحرٍ يُفقِد زوجها قدرته الجنسيّة أو يُكَرِّهه بزوجته الثّانية... ومنها إهمال الزّوجة المُتعمّد لمظهرها وزينتها، ومنها الإساءة إلى أهل الزّوج أو أهل الزّوجة.
لكن الحديث عن الانتقام بين الزّوجين يجب ألّا يُشجِّعَنا عليه، بل الأفضل لنا أن نلجأ إلى مُفاتحة الطّرف الآخر بما يُغيظنا منه لعلّه يحسُّ بنا ويغير، وعلينا أن نَغفر ونَصفح فإنَّ المَغفرة تَشفي القلب مِن غَيظه مثل الانتقام وتُضيف إلى الشِّفاء من الغَيظ الرِّضى عن النّفس الّتي تَسامَت وغَفرَت.
ولعلَّ مُقابلة الإساءة بالإحسان والدّفع بالّتي هي أحسن أعلى الدَّرجات وأكثرها فعاليّة في تغيير مشاعر وسلوك الطّرف الآخر حتّى تكون العلاقة بين الزّوجين علاقةَ مودّةٍ ورحمةٍ لا علاقةَ عداوةٍ وبغضاءٍ.