المقالات
شفاء لما في الصدور
Whatsapp
Facebook Share

شفاء لما في الصدور

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

عندما عصى آدم ربه، وأكل من شجرة من شجر الدنيا كانت قائمة في الجنة سبق أن أمره ربه أن لا يأكل منها، اضطر إلى ما نضطر إليه، من طرح الفضلات المقززة، وبدت له سوأته، كما بدت سوءة زوجه حواء، واستحقا مع إبليس، أن يهبطا إلى الأرض التي خلق آدم أصلاً ليكون خليفة لله فيها. عندها قال تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)﴾ (طه: 123 - 124).

 

إذاً بهداية رب العالمين، لا يضل المرء، ولا يشقى، أما إن رفض هذه الهداية، فإن له معيشة ضنكاً، كلها ضلال وشقاء.

 

والضلال هو السبب الأساسي للقلق الإنساني الوجودي، حيث يحتار الإنسان ماذا يفعل في حياته، وحيث يضنيه البحث عن معنى لوجوده، وللحياة من حوله، فلا يراها إلا فاقدة للمعنى والهدف، ولا تبدو له إلا عبثية عدمية، فيصبح الشعور بالغثيان فلسفة، والشعور بالسأم مزاجاً سائداً، وتصبح اللذة الحسية غاية الوجود، وخير ما يغنمه الإنسان من حياته الفانية، ويزداد الشعور بالضياع والضلال، ويختفي الفرح والسرور من القلوب، وتختفي الابتسامة، لتغشى الوجوه كآبة دائمة، تعكس ما تمر فيه النفس الإنسانية من ضنك ومن ضلال وشقاء، عندما استكبرت على خالقها، ورفضت الانحناء له واتباع نهجه وهداه.

 

لقد خلق الله في النفوس القابلية للقلق النفسي، ليكون القلق دافعاً لها للعمل، والتخطيط للمستقبل، لتحمي نفسها، وتحمي من تحب من مخاطر الحياة الدنيا، ومخاطر الآخرة.

 

والعبرة في القلق والاكتئاب، في ما يراه الإنسان خطراً أو خسارة، سواء كانت هنالك خطورة حقيقية، أو كانت الخطورة متوهمة، وسواء كانت الخسارة حقيقية، أو كانت متوهمة، فإن أثرها النفسي واحد، وكل ما تتصوره النفس حقيقة، فهو بالنسبة لها حقيقة، ويؤثر فيها التأثر الكامل.

 

لذا كانت رؤية الإنسان للأمور، وتقديراته لاحتمالات المستقبل، هي العامل الفعال في وقوعه في القلق، فإن هو أخطأ في تقديراته، أو كان منظوره لأمور الحياة منظوراً خاطئاً، فإنه يفقد الشعور بالأمان والطمأنينة، ويحس بالخسران، ويغمره القلق والاكتئاب، وتكون معيشته ضنكاً كلها معاناة، ويتحول القلق لديه من سبب من أسباب السعادة والنجاة إلى عذاب، ومصدر للمعاناة التي لا تثمر إلا حلولاً متخبطة، طالما أنه رافض لهداية خالقه.

 

فالإنسان مخلوق، والمخلوق مهما أوتي من قدرات، يبقى محكوماً للذي خلقه، ويبقى خاضعاً للنظام الذي أراده الخالق سبحانه وتعالى...

 

وما أن يتفكر الإنسان في وجوده في هذه الحياة، حتى يقف وجهاً لوجه أمام تحديات كبرى لا قبل له بمواجهتها، والتغلب على القلق الذي تثيره في نفسه إلا بهداية رب العالمين.

 

ولعل أهم أنواع هذا القلق، قلق ينشأ عن إدراك الإنسان أن حياته على هذه الأرض مؤقتة، لا بد للموت من أن ينهيها يوماً ما، وإدراكه أنه قد خلق فرداً وحيداً، وسيموت فرداً وحيداً، فهو كائن مستقل عن هذا الكون، وعن كل من حوله، إنه مخلوق له ذاتيته وفرديته، وبالتالي فإنه وحده يحمل تبعات وجوده ونتائجه.

 

وبسبب إدراكه لضعفه، ومحدوديته كبشر، يغمره إحساس بالوحدة والعزلة يملأ نفسه رعباً وقلقاً.

 

ثم هنالك إحساسه بأنه مخلوق حر مريد، ومع بحثه الدائم عن معنى لوجوده، يغدو الضلال وفقد الهداية من أكبر مصادر القلق في النفس البشرية، إذ يحار من لم تصله الهداية، ويحار من وصلته ولم يتبعها، يحار ماذا يفعل في هذا الوجود، وهو المخلوق الحر المريد، ويحار في معنى وجوده وغايته، فيرى الحياة عبثاً لا طائل وراءه، وتفقد الحياة كل طعم لها، وتكون المعيشة الضنك.

 

وبالإضافة إلى هذه الأسباب الوجودية الكبرى للقلق الإنساني، التي لا شفاء للقلق الذي تثيره إلا بالإيمان، فإن هنالك مصادر كثيرة للقلق في الحياة اليومية، كالخوف من الإخفاق، والخوف من المصائب، والخوف من اتخاذ قرار خاطئ في أمر هام جداً، أو غير ذلك من دواعي القلق...

 

وللنفس البشرية أساليب وحيل، للتغلب على قلقها والتهرب منه، لكن مهما كانت مهارتها في ذلك كبيرة، فإنها دون الإيمان ما أكثر ما تخفق! فتقع فريسة القلق والاكتئاب والإحباط والمعاناة النفسية... ويتحدث عالم النفس الشهير "كارل يونغ"، عن تجربته فيقول: ".... وعالجت مئات كثيرة من المرضى، فلم أجد مريضاً واحداً من مرضاي الذين كانوا في النصف الثاني من عمرهم، أي: جاوزوا سن الخامسة والثلاثين، لم تكن مشكلته في أساسها إلا افتقاره إلى وجهة نظر دينية في الحياة.... وإنه لم يتم شفاء أحد منهم حقيقة، إلا بعد أن استعاد نظرته الدينية في الحياة".

 

والمؤمن يصاب بالقلق والاكتئاب والإحباط بقدر ما يغفل عنه أو يجهله من حقائق الإيمان، ويكون في القرآن الكريم الذي يجمع تلك الحقائق الشافية كلها، يكون شفاؤه وطمأنينته وسكينته..

 

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57].

 

اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وشفاء صدورنا، وجلاء همنا وحزننا وغمنا.

 

والإنسان المؤمن يصاب أيضاً بالقلق والاكتئاب والوسواس القهري، وبجميع الحالات المرضية التي يصاب بها البشر، لأن إيمانه لا يخرجه عن بشريته، وقابلية جسمه لأنواع الخلل والاضطراب في أداء وظائفه.

 

فالإيمان لا يحول دون الإصابة بالداء السكري، أو أمراض القلب، أو الكبد، أو الكلية. وهكذا هي الأمراض النفسية من قلق واكتئاب وغيرهما، إذ تنتج عن خلل في عمل مواد كيماوية معينة في خلايا المخ، فيرتبك أداؤه لوظائفه النفسية والعقلية، ويشعر الإنسان بالأعراض المزعجة من خوف وقلق، وحزن وتشاؤم ووسوسة وغير ذلك.

 

وللأسف تنتشر خرافة لدى الكثير من المسلمين تقول: إن المؤمن لا تصيبه الأمراض النفسية، وإن هي أصابته فذاك دليل على نقص إيمانه، وما عليه لعلاجها إلاّ أن يراجع إيمانه، ويستكمل ما ينقصه منه، ويتلافى تقصيره في العبادات، ويكثر من النوافل، إلى غير ذلك من كلام لا تصدر إلاّ عن جهل كامل بطبيعة النفس البشرية التي خلقها الله من تراب، وجعلها من لحم ودم، ومن خلايا تعمل وتتواصل، وجعل لها جهازاً عصبياً مركزياً، ينظم كل شيء فيها، ويقوم بإدراك كل ما يدركه الإنسان، وفيه تتكون المشاعر والأفكار، وفيه يتولد الخوف أو القلق أو الحزن أو الغضب أو الرضى، أو السرور وغير ذلك من مشاعر، وإذا ما أصاب الخلل عمله، فإن صاحبه يعاني من مشاعر وأفكار مزعجة، لا لأنه ناقص الإيمان، بل لأنه مريض. قال ﷺ: "ألا وإنَّ في الجسدَ مُضغةً ، إذا صلُحَتْ صلُحَ الجسدُ كلُّه ، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه ، ألا وهي القلبُ" (رواه مسلم).

 

والقلب في القرآن والحديث، هو إشارة إلى آلة الفكر والعقل والشعور:

﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]

ورغم قوله تعالى: ﴿...فِي الصُّدُورِ﴾. فإن المقصودة: هي الأدمغة التي في الرؤوس.. لكنه جعل القلوب التي في الصدور دليلاً عليها، والقلوب التي في الصدور، بمثابة الشاشة التي عليها نرى ما يقوم به الحاسب الكومبيوتري من أعمال، وما يقدمه لنا من نتائج ومعلومات، وإننا نظر إلى الشاشة، لنعرف ما يجري في جهاز الكومبيوتر، دون أن نظن لحظة أن الحاسب الحقيقي موجود في الشاشة. وهكذا أراد الله من الناس أن يحكموا قلوبهم في قضايا الإيمان لا عقولهم، لأن تحكيم العقل وحده بعيداً عن القلب ومشاعره، لا يقود إلى الإيمان، فالتفكير العقلي المنطقي يترك دائماً فسحة للشك، ويرى درجة ولو صغيرة جداً من الشك مبررة، ومن هذا الشك يدخل الشيطان من الإنس والجن ليفسد على الإنسان إيمانه.

 

والعقل نحس بعمله في رؤوسنا من خلال العضلات المحيطة بجماجمنا. أما عندما نحكم كل أدمغتنا بجميع أجزائها، فإن شعورنا بعملها يكون في الصدور، ونعبر عنه بانشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وننسب إلى قلوبنا الحب، والكره والإخلاص والصدق أو النفاق والكذب.

 

ونعلم أن عضلة القلب لا دور لها في ذلك أبداً، إنما هكذا جعل الله صدورنا، وضربات قلوبنا مرآة تنعكس عليها نشاطات أدمغتنا، عندما تعمل بكليتها ويشترك كل جزء منها في اتخاذنا لقرار ما مثل الإيمان بربنا وحبه وطاعته.

 

إن قوله تعالى: ﴿...الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ وهو يشير إلى أدمغتنا، ليس غلطة علمية، إنما هي أذكى وسيلة للوصول إلى أفهام الناس كلهم، فنحن مهما تقدمنا في العلم، ما نزال نرى الحب في القلب الذي في صدر كل منا، لأننا هناك نحسه، وسنبقى إلى الأبد نقول: إن قلبي أحب أو أبغض، مع أن عضلة القلب، عملها مقصور على ضخ الدم في البدن، وليست إلا مرآة عاكسة، وشاشة نرى عليها نتائج عمل أدمغتنا، وقد امتزجت المشاعر بالأفكار، وصرنا قادرين على الإيمان واليقين، رغم أن تفكيرنا المنطقي وحده لا يستطيع أن يتخلص من ميله إلى الشك.

 

والمهم بعد هذا الاستطراد، أن نذكر أن المؤمن بشر من لحم ودم وخلايا، ومعرض لأن يصاب بالقلق أو الاكتئاب أو الوسواس القهري أو أي اضطراب نفسي يصاب به البشر عادة. ولا بد لعلاجه من تناول الأدوية، والعلاجات الأخرى، التي أثبتت قدرتها على شفاء غيره من بني البشر، كفاراً كانوا أو مؤمنين، لأن كفرهم لا يغير شيئاً في تركيب خلاياهم، وعمل أجهزة جسمهم المختلفة.

 

لا بد لنا من التحرر من الخرافة التي تظلم المؤمن المريض نفسياً ظلماً كبيراً، إذ تشكك في إيمانه وتقواه، إذا أصابه القلق أو الاكتئاب أو الوسواس القهري، أو أي اضطراب نفسي أو عقلي آخر، فتكون مصيبته مضاعفة، حيث يظن نفسه ضعيف الإيمان، إضافة إلى المرض الذي يعاني منه، فلا يبحث عن العلاج في مكانه، بل يتجه إلى نفسه باللوم والكره، لأنه يظن أنها نفس غير مؤمنة، أو هي نفس اتبعت الأهواء، حتى جعلته يقع فيما لا يقع فيه المؤمن من مشاعر وأفكار، فيزداد عذابه فوق ما فيه من أعراض، وهو مسكين بريء مما يقال عنه، فقد رأيت على مدى السنين من عملي في الطب النفسي، أعداداً كبيرة من الرجال والنساء المؤمنين الملتزمين والمطبقين لدينهم أحسن تطبيق، ورأيت كيف تحسنوا بالعلاج الطبي، فعادت إليهم قدرتهم على التفاعل مع الحقائق الإيمانية، والتمتع بالطمأنينة التي تجدها النفس المؤمنة عند ذكر الله وطاعته.

 

المريض النفسي المسلم، مظلوم جداً في هذا الزمان، طالما يخرج على الملأ وعاظ، وحتى علماء كبار يقولون: إن المؤمن الحق لا يصيبه القلق، أو الاكتئاب أو غيره، مع أن القرآن الكريم يحكي لنا ما قاله النبي محمد ﷺ لصاحبه في الغار: "لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنا" قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].

 

إذاً المؤمن بشر يحزن ويقلق في المواقف، ويحزن ويقلق عند المرض الناتج عن خلل في خلاياه العصبية أو في غدده الصماء. فالأطباء جميعهم يعرفون أن زيادة الإفراز لهرمون الغدة الدرقية مثلاً يجعل المريض قلقاً خائفاً، كأن هنالك ما يهدده من المخاطر، بينما لا يعدو الأمر زيادة مستوى الثيروكسين في دمه، والأطباء يعرفون ما يفعله دواء السودوإيفدرين المقبض للأوعية، المستخدم في علاجات الزكام، حيث يؤدي الإكثار منه إلى الشعور بالقلق النفسي الشديد، وكأن هنالك مخاطر محدقة، بينما الأمر ناتج عن تأثير هذا الدواء في خلايا المخ، وإثارته لها إثارة زائدة عن الحد.... أمثلة كثيرة يعرفها الأطباء، ينتج فيها القلق، أو الحزن، عن خلل في كيمياء البدن، والمؤمن مثله مثل غير المؤمن في ذلك، لأن الإيمان لا يخرجنا من بشريتنا وضعفنا البشري. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28].

 

وفي تراثنا الرائع، يتمتع الإمام الغزالي بمكانة عظيمة، يلقب فيها ب"حجة الإسلام". ولعله كان أقدر الأقدمين على البحث في أمور القلوب والنفوس من الناحية الإيمانية، كما يشهد بذلك كتابه "إحياء علوم الدين". وهذا الرجل الكبير تقول سيرته: إنه أصيب بالسوداء أي الاكتئاب، واعتزل الناس في غرفة يقيم بها في المسجد الأموي في دمشق، حتى شفاه الله، وخرج من نوبة الاكتئاب، فكان عالماً غزير الإنتاج، وكان أقدر القدماء على فهم أمور النفس، وأحوال القلوب.

 

ولم يقل أحد من العلماء الأجلاء القدامى، أن الغزالي أصابته السوداء، أي: الاكتئاب النفسي لأنه كان في تلك المرحلة ناقص الإيمان. كما يتهم بذلك المسلم المعاصر، عندما يصاب بالاكتئاب، أو غيره من الأمراض النفسية.

 

ولعل من أسباب هذا الاعتقاد الخاطئ، والظن أن المؤمن لا يصيبه القلق ولا الاكتئاب ولا غيرهما من الاضطرابات النفسية إلا لخلل في إيمانه. أقول: لعل من أسباب الظن أن النفس المؤمنة، لا بد من أن تكون نفساً مطمئنة، طالما خاطبها المولى في كتابه الكريم قائلاً: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (28) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (29) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (30) وَادْخُلِي جَنَّتِي (31)﴾ [الفجر: 27 - 30] كما أن الله قال عن ذكره: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. فافترض البعض أن النفس المؤمنة، لا يصيبها القلق، والحزن وغيرهما من أشكال المعاناة النفسية، وإن أصابها شيء من ذلك، فهو إنما يصيبها لأن هنالك نقصاً في إيمانها، أو خطأ في اعتقادها، أو تقصيراً في عباداتها، أو وقوعاً في المعاصي.

 

ولم ينتبه كثيرون إلى أن النفس المطمئنة المخاطبة بالآية الكريمة، إنما هي النفس المؤمنة التي استحقت الجنة، فبشرت بها بمجرد أن بعثها الله، فاطمأنت، وكانت من الذين ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾. أي: لا خوف عليهم لأنهم ليسوا في خطر، ولا هم يحزنون لأنهم مبشرون، ويعلمون أنهم ناجون، وأن الجنة بانتظارهم عندما يحين الوقت.. بل عندما تقبض الروح تكشف الحجب، ويصبح البصر حديداً، يرى ما لا نراه، فيرى الصالح مقعده من الجنة فيقول: "قدِّموني، قدِّموني". ويرى الشقي مقعده من النار، فيكره لقاء الله ويقول: "أخِّروني، أخِّروني" كما أخبرنا النبي ﷺ.

 

لذلك ولأن الملائكة تتنزل على صالح المؤمنين يوم القيامة بالبشرى ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: 30]، ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل: 89]، تكون نفوس الصالحين يوم القيامة مطمئنة لا تحزن ولا تخاف، ثم تدخل الجنة، وهنالك ينزع منها حتى القابلية للحزن والقلق فيتمتع المؤمنون بوجود رائع، ليس فيه قلق ولا حزن ولا خشية ولا هم ولا غم، فينطلق لسانه يحمد الله على هذه النعمة:

﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)﴾ [فاطر: 35 - 34].

وهذه الآية دليل أن الحزن والقلق يلازمان النفس البشرية في الدنيا، حتى لو كانت مؤمنة، وأن زوال القلق والحزن، هو من نعيم الجنة ففي الجنة ليس للقلق والحزن فائدة، لأن الجنة دار السلام والأمان والرعاية والعناية الربانية، ولا يحتاج فيها الإنسان إلى جرس الإنذار الذي يحذره من الأخطار غير المنظورة ليجعله يتوقعها ويتجنبها.

 

وفي الجنة ينزع من القلوب الحقد والغل.

﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47]

وهذه الآية الكريمة، تذكرني بالتجارب الحديثة على أدمغة بعض الحيوانات الشبيهة بالإنسان، حيث استأصل الباحثون جزءاً صغيراً من المخ اسمه "اللوزة Amygdala" فانقلب الحيوان الشرس العدائي، إلى كائن مسالم وصبور، من العسير جداً استثارة غضبه وعدائه. ولا يبعد أن يكون نزع الغل، وإذهاب الحزن من أنفسنا في الجنة، بأن تستأصل من أدمغتنا أجزاء صغيرة تقوم بتوليد تلك المشاعر في الدنيا لحكمة عظيمة، بينما في الجنة لا حاجة لتلك المشاعر السلبية أبداً.

 

يجب أن نفهم ديننا جيداً، حتى لا نقسو على أنفسنا فنحرجها ونشق عليها.

 

ولو كان المؤمن لا يحزن ولا يقلق، لما حزن أبو بكر في الغار، وهو خير المؤمنين إيماناً بعد رسول الله، ولما تطلب الموقف أن يطمئنه الرسول محمد ﷺ ويذكره بمعية الله لهما: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40]

 

المؤمن بشر يصيبه ما يصيب البشر من أمراض نفسية وجسدية، وهو بشر تغيب عنه بعض حقائق الإيمان والإسلام الذي ارتضاه لنفسه ديناً، فيتمكن الشيطان من أن يحزنه ويقلقه: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 268] يخوف به الشيطان أولياؤه: ﴿إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175] لكنه لا يقدر على المؤمن الموحد لله حق التوحيد والمتوكل عليه: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: 99].

 

والرسول ﷺ يقول: "اعقِلْها وتَوَكَّلْ".

 

وهنالك ظن خاطئ آخر، متولد مما سبق من اعتقاد غير صحيح، وهو الظن أن القلق والاكتئاب لا علاج له إلا العلاج الديني بالقرآن الكريم والرقية، وإخراج جان توهم المعالج والمريض أنه قد دخل في بدن المريض، ويشجع المريض على ترك الأدوية النفسية، وعلى الذهاب إلى إمام أو مطوّع يعالجه، وتطول معاناة المريض المتدين، لأن كثيراً من الوقت يضيع وهو يحاول الاستشفاء على يد المطوعين والمشايخ، وفي النهاية يحط رحاله عند طبيب نفسي، ويكتشف أن الأمر مرض لا يختلف عن الأمراض الأخرى كالسكري وغيره.

 

فمتى نرقى بفهمنا لديننا، فلا نخلط بعقيدتنا أوهاماً ليست منها؟.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة