المقالات
سيكلوجية الإيمان والكفر
Whatsapp
Facebook Share

سيكلوجية الإيمان والكفر

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

  1. العقل يتبع القلب

  2. الاقتناع بالمرغوب

  3. الاستقراء والاستنتاج

  4. الشك واليقين

  5. الإيمان أيضاً علمي

  6. قابل للتخيل لكنه مستحيل

  7. الإيمان بالغيب

  8. الإيمان والدوافع

  9. الإيمان والانتماء

  10. اختبار القابلية للهداية

  11. الانتماء والعزة

  12. الرجوع إلى الحق

  13. الفطرة في اللاشعور

  14. الكبر والكفر

  15. خداع النفس والاهتداء

  16. الحب أساس الإيمان

  17. تأليف القلوب والإيمان

  18. حرية رغم المعجزات

  19. من شاء فليؤمن

1. العقل يتبع القلب

سنحاول في هذه الصفحات أن نفهم كيف يعمل دماغنا، وكيف تتحقق حريته أن يؤمن إن شاء، لأنه اختار أن يؤمن، أو أن يكفر إن شاء رغم وضوح الأدلة، لأنه لا يريد أن يؤمن.

 

من أجل ذلك يستحق من آمن الثواب من رب العالمين، لأنه آمن دون أن يكون عقله مجبراً على الإيمان، ويستحق الكافر الذي بلغته دعوة الرسل العقاب، لأنه رفض الإيمان ولم تكن مشكلته قلة الأدلة.

 

ما نسميه العقل إنما هو الجزء الواعي المفكر من أدمغتنا شاملاً ما حَوّلَه إلى عمليات عقلية لاشعورية، لكنها تبقى إرادية مع أننا لا نكاد نشعر بها أبداً، فأن تكون لاشعورية لا يعني أنها لا إرادية.

 

هذا العقل المفكر المنطقي يصل إلى الحقائق بطريقتين: أولاً بإدراكها بالحواس كالبصر والسمع وغيرهما، حيث نحس أن ما تدركه حواسنا موجود حقاً، وثانياً يصل العقل إلى الحقائق بالطرق العقلية المنطقية، وأهمها الاستنتاج والاستقراء.

 

إننا عندما نفكر ينعكس ذلك في العضلات المغلفة للرأس، ونحس أننا نفكر برؤوسنا، وعندما تنبثق العواطف في أدمغتنا منطلقة من اللاشعور فإنها تنعكس في عضلات الصدر وعضلة القلب، لذا ننسب العواطف دائماً لقلوبنا، وننسب الارتياح لأمر ما إلى صدورنا التي انشرحت به.

 

ليس الإيمان والكفر مجرد اقتناع عقلي، بل هو قرار نتخذه بحسب ما في قلوبنا من المشاعر والأهواء، فنقرر أن نقتنع بالإيمان أو ألا نقتنع، وبما أن القرآن نزل ليخاطب كل البشر على اختلاف أعمارهم وثقافتهم، ولم ينزل كتاباً للفلاسفة والعلماء فقط، فإن ربنا في القرآن ونبينا في الأحاديث يعزوان أعمال العقل كلها للقلوب التي في الصدور، يقول تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌۭ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌۭ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ [الحج: 46]وتأكيد أنها التي في الصدور مقصود منه ألا يأتي من يقول هي القلوب التي في الرؤوس، إذ الدماغ أيضاً عضو داخلي وحيوي، ولغةً: "قلب النخلة: لبُّها".

 

هنالك تعمد وإصرار على مخاطبة القلوب لا العقول، القلب في القرآن هو عضو التفكير والشعور ﴿... قُلُوبٌۭ يَعْقِلُونَ بِهَآ...﴾ وتهدف هذه المخاطبة للقلوب إلى إثارة الدافع النفسي للإيمان، فيكون الخطاب هادياً لأكبر عدد ممن يبلغهم بلاغاً مبيناً، وقد تنبه الباحثون في السنين الأخيرة إلى دور العواطف في تكوين معتقداتنا واتجاهاتنا وعدم انفراد المعارف بالأمر، وسأفصّل فيما يلي إن شاء الله ما أجملته هنا لكن من المفيد أن تعرفوا هذا الإجمال من الآن.

 

2. الاقتناع بالمرغوب

يظن الكثيرون منا أن الإيمان والكفر مسألة اقتناع عقلي معرفي، فمن بلغته الأفكار التي تدل على أن الدين المعروض عليه حق آمن واتبع هذا الدين، ومن لم تبلغه المعطيات والأفكار والأدلة والبراهين البلاغ المبين لم يقتنع بالدين الذي ندعوه إليه وبقي كافراً. لو كان الأمر على هذا النحو فلن يكون من العدل تعذيب الكافر في جهنم لأنه كفر، طالما أن العلة والمشكلة هي عجز الأدلة المقدمة له عن إقناعه، ولو كانت أقوى لاقتنع وآمن. نعم لو قلت لك إن أربعة زائد أربعة يساوي ثمانية، هل يكون لعقلك حرية أن يقبل هذا الادعاء أو أن يرفضه؟ عقولنا مضطرة إلى التصديق بكثير من الأمور لأنها عاجزة عن إنكارها، أي الكفر بها، لكن الإيمان بالله تعالى ورسله ليس منها.

 

هنالك بدهيات ومسلمات لا يختلف عليها البشر، بل يبنون عليها الكثير من الاستنتاجات اليقينية، التي لا يقدرون على إنكارها، حتى لو أرادوا، إلا إن كانوا مجانين وعقولهم فقدت المنطق السليم. وعقول البشر يصعب عليها كثيراً أن تكابر وتنكر شيئاً تراه بعيونها، فسهل ربنا عليها الإنكار إن هي شاءته عندما أرسل ملكين إلى بابل، يعلمان الناس السحر، ليقول من يريد أن ينكر حتى ما تراه عيناه، ما هذا إلى سحر ولا حقيقة له.

 

ربنا خلقنا أحراراً حتى في أن نقتنع بالإيمان الذي يدعونا إليه الرسول أو بأي دعوة تعرض علينا وفي أن نأبى أن نقتنع.

 

يمكن للإنسان أن إن يرفض الدخول في دين ما مع وجود القناعة العقلية أي هو بينه وبين نفسه يعرف أن هذا الدين حق لكنه يهدد مصالحه أو يحرمه من إشباع أهوائه، هذا في مقدورنا لأننا أحرار فيما نعمل، لكن الحرية التي منحنا الله إياها حرية حقيقية تتجاوز حرية الفعل الإرادي وتمكننا إن كنا لا نريد أن نؤمن بشيء أن نكون منيعين على كل ما يدعونا للإيمان بهذا الشيء فلا تقدر أية حجة على إجبار عقولنا على الاقتناع، ولا يقتصر رفضنا للأمر على مستوى السلوك الظاهري الواعي، بل رفضنا هذا يمكّننا من ألا نقتنع، وألا تكون هنالك قوة في الأرض تجعلنا نقتنع.

 

لكن كيف ذلك؟

 

3. الاستقراء والاستنتاج

عندما نفكر ونستدل بشيء على غيره يكون ذلك وفق استراتيجيتين رئيسيتين، الأولى الاستنتاج deduction والثانية الاستقراء induction.

 

الاستنتاج هو استخلاص حقيقة من حقائق موجودة لدينا من قبل، وما نصل إليه بالاستنتاج لا تستطيع عقولنا تخيل احتمالاً غيره، فإما أن تكون الحقائق التي عندنا ومنها استنتجنا الحقيقة الجديدة التي نبحث عنها صادقة، فيكون ما استنتجناه منها صادقاً، وإما أن تكون كاذبة أو خاطئة، فيكون ما استنتجناه منها خاطئاً أيضاً.

 

أما في الاستقراء فإننا نبحث عن حقيقة نجهلها، بأن نستخلصها من عدة حقائق فردية عايناها ومررنا بها أو خَبِرناها، بينها تشابه في ناحية معينة يقوي الاعتقاد لدينا أن الحقيقة التي نحاول الوصول إليها شيء محتمل بدرجة ما، وكلما اقتربت درجة احتماله من المئة بالمئة كنا أقرب إلى اليقين بصحة ما وصلنا إليه.

 

بالأمثلة تتوضح المفاهيم وسنبدأ بأمثلة الاستنتاج:

  • كل الأسماك تسبح في الماء، وبما أن القرش سمك، فإن القرش يسبح في الماء.
  • كل إنسان فانٍ، وبما أن سقراط إنسان، فإنه فانٍ.
  • يمتلك سعيد يدين اثنتين وفي كل يد خمسة أصابع، إذن يمتلك سعيد عشرة أصابع.
  • جعل الله من الماء كل شيء حي، وبما أن النمل كائن حي، إذن النمل يحتوي على الماء.
  • كل خمر حرام، وكل مسكر خمر، وبما أن النبيذ مسكر، إذن النبيذ خمر، وشربه حرام.
  • كل الفيلة حيوانات ثديية، وبما أن الحيوان الذي أحضره أبرهة لهدم الكعبة فيل، فإنه حيوان ثديي.
  • الصحابي هو المسلم الذي التقى بالنبي وبما أن عمار بن ياسر مسلم التقى به، فهو صحابي.

 

نلاحظ في هذه الأمثلة كيف نستنتج معلومة جديدة نسميها في علم المنطق نتيجة، من حيثيات موجودة لدينا من قبل، نسميها مقدمات، ونسمي العملية العقلية التي قمنا بها ونحن نستنتج المعلومة الجديدة القياس syllogism.

 

وفقهاؤنا القدامى كانوا ماهرين باستخدام القياس للوصول إلى أحكام فقهية لأمور لم يرد بها نص.

 

وفي جميع حالات الاستنتاج تكون النتيجة التي نصل إليها ملزمة لعقولنا التي لا تستطيع أن تتصور نتيجة غيرها، ولذلك توصف نتائج الاستنتاج في علم المنطق بأنها ضرورية عقلاً.

 

إن أي شيء نستدل عليه بطريق الاستنتاج تكون عقولنا مجبرة على تصديقه واعتقاده، ما لم نكن نعاني مرضاً عقلياً أفقدنا المنطق العقلي المشترك مع جميع بني البشر.

  • كل قضبان الحديد التي سخنتها زاد طولها وتمددت، لذا سيتمدد هذا القضيب الحديدي الذي يحمله مساعدي عندما نسخنه ونرفع درجة حرارته.
  • كل قضبان الحديد التي سخنتها أنا، والتي سخنها غيري كثيرون، تمددت بالحرارة، إذن الحديد كله يتمدد بالحرارة.
  • كل إنسان حي قلبه ينبض، إذن كل من توقف قلبه عن النبضان هو غير حي.
  • كل قطع النحاس التي مررت أنا أو مرر غيري فيها الكهرباء نقلت الكهرباء، إذن النحاس ناقل للكهرباء.
  • كل شيء مركب نلاحظه في حياتنا له صانع صنعه، إذن للكون خالق صنعه.
  • لم يسبق لمحمد أن كذب في حياته، إذن هو صادق في ادعائه النبوة.

 

في الاستقراء ننطلق من حالات فردية لنستدل بها على وجود قانون طبيعي لا يتخلف -مثل تمدد الحديد بالحرارة-، فلا نتوقع أننا سنصادف قضيب حديد لا يتمدد بالحرارة.

 

أو نستدل بالاستقراء على شيء لم نره بعد كيف سيكون، بناء على اضطراد حدوثه في جميع المرات السابقة على شكل معين، مثل شروق الشمس غداً من المشرق.

 

نحن عادة نعتبر كل أمر استقرأناه من أمثلة عديدة جداً، وكان دائماً يقع على نحو معين، نعتبره مؤكداً أنه دائماً سيحدث بهذه الطريقة، لأننا كلنا مقتنعون أن هنالك نظاماً ثابتاً تحدث وفقه الأشياء المتماثلة في الطبيعة التي تشمل كل شيء ندركه.

 

فنحن لا نتشكك في أن الحديد يتمدد بالحرارة، مع أنه من الناحية العقلية البحتة، لا شيء يضمن أن قطعة حديد معينة ستتمدد بالحرارة، حتى لو رأينا جميع قطع الحديد في الدنيا تتمدد، لأن عقولنا تتقبل أن نقول: وما المانع أن يكون هنالك حديد لا يتمدد بالحرارة؟ عقولنا مبرمجة على أن تبقى منفتحة لكل الاحتمالات الممكنة، ومهما بلغت درجة احتمال شيء معين، فإنه لا يصعب على عقولنا أن تتخيل احتمالاً آخر، لكننا في حياتنا اليومية كثيراً ما لا تكو لنا مصلحة في أن نتبع هذا التخيل الذي احتماله ضئيل جداً ونترك الاحتمال الغالب جداً.

 

لقد علمتنا خبرات الحياة أن كل شيء احتمال حدوثه يقترب من مئة بالمئة سيتكرر دائماً وفق هذا الاحتمال. فمع أنه عقلياً لا شيء يثبت يقيناً أن لمس أسلاك كهربائية حية، يمر فيها تيار قوي جداً مميت للإنسان، فإننا نحتاط ونتصرف على أن هذا الخطر حقيقي، ولا نتجرأ أبداً على تحديه وتجربة الإمساك بأسلاك تمرر تياراً كهربائياً قوياً جداً دون عازل.

 

4. الشك واليقين

لكننا أحياناً نقع في المرض النفسي فنركز على الاحتمال الضئيل جداً الذي لا وجود له إلا في رؤوسنا وعقولنا، فنتصرف على أنه واقع أو نعيش القلق والخوف من أن يكون وقع بالفعل.

 

في مرض الوسواس القهري يعاني الكثير من المرضى من الشكوك الوسواسية التي تجعلهم يتأكدون مما شكوا فيه مرات لا تحصى.

 

لو كان التأكد مرة واحدة يريحهم فهم ليسوا مرضى، لكن المرضى يتأكدون المرة تلو الأخرى ويبقى لديهم الشك.

 

على سبيل المثال يتوضأ المريض، وفي نهاية وضوئه يشك: هل هو فعلاً قد غسل كل الأعضاء اللازم غسلها لصحة الوضوء، ولا يرتاح حتى يعيد الوضوء، لكنه بعد الإعادة يأتيه الشك ذاته فيعيد الوضوء، لحد أن الوضوء لصلاة الظهر مثلاً يستغرق ساعة كاملة.

 

سيدة مثقفة تعاني الوسواس القهري قالت: إن صلاة الظهر تحتاج إلى ساعة وربما ساعتين قبل أن تطمئن أنها قد أدتها بالشكل الصحيح، فهي كلما قرأت الفاتحة وبدأت بقراءة آيات من القرآن بعدها، أتاها شك أنها قد تكون أخطأت دون أن تنتبه في قراءة الفاتحة، أو أن تكون أخطأت ونسيت أنها أخطأت، وبما أنه لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب، ولا اعتبار لهذه القراءة ما لم تكن صحيحة مئة بالمئة طالما أن المصلي شخص متعلم، فإن أسلم شيء تعمله هو أن تعيد قراءة الفاتحة، لكن المشكلة أنها تكرر الشك نفسه بعد كل إعادة.

 

ليست مجنونة لأنها بالفعل سيدة عاقلة وتعمل صيدلانية وتجيد عملها، ومع أن شكوكها يمكن أن تضحكنا، فإنه لا أحد منا يقول إنها تشك في شيء مستحيل، هنالك حالات نفسية أخرى يعتبر فيها المريض شكاً معيناً شيئاً يقينياً لا يمكن إقناعه بخطئه، رغم كل الأدلة المقدمة له، لأن عقله ومثله عقولنا كلنا تقول: إن ما يعتقده هذا المريض من أوهام نسميها ضلالات delusions ليس مستحيلاً من الناحية العقلية، أي العقل قادر على تخيل إمكانية حدوثها مع أنه مقتنع أنها غير صحيحة.

 

أذكر مريضاً أصيب بالاكتئاب الشديد عندما سافرت أسرته في الصيف وتركته لأنه لا يستطيع دخول الأرض المحتلة بسبب تعقيدات إسرائيل لعودة الفلسطينيين، ومع أنه رجل وزوج وموظف حكومي، كان من الواضح أنه ضعيف ومعتمد على زوجته كما يعتمد الطفل على أمه.

 

وحتى نسرع شفاءه طلب شقيق زوجته منها أن تعود على أول رحلة، وبالفعل عادت، لكن مريضنا رغم تحسنه عندما رآها، قال: إنها ليست زوجتي، إنها نسخة عنها، ولم يسمح لها أن تقترب منه، وبقي على ذلك الحال عدة أيام ثم تحسن، وقد أخبرني بعد تحسنه أنه عندما رأى زوجته صار يسمع صوتاً في عقله يردد كلمة دبلجة.

 

مع أن شكه في أن زوجته هي زوجته نفسها يبدو لنا مضحكاً وسخيفاً، لكن عقولنا لا تقول إن وهمه أن هذه التي أمامه نسخة مزيفة عنها شيء مستحيل.

 

كلنا يرجع من عمله إلى بيته لتستقبله زوجته ولا يخطر في باله أنها ليست زوجته، وإذا سألناه ما الذي يجعلك متأكداً أنها زوجتك وليست امرأة أخرى؟ فإنه يبدأ بتعداد الأدلة على أنها هي زوجته التي تركها بالبيت في الصباح، سيحدثنا عن ملامحها وصوتها وعن كل صغيرة تساعد في التأكد من أنها هي المرأة نفسها، لكننا نتحداه أكثر ونقول له ما المانع أن يكون لزوجتك توأم حقيقي، والتوائم الحقيقية متماثلة في الخلقة والصوت وغير ذلك إلى حد يجعل التمييز بين أختين توأمين حقيقيين، أي تخلقتا من بييضة ملقحة واحدة، أمراً صعباً والخطأ فيه وارد.

 

في الواقع ما نجادله به أمر مستبعد جداً جداً، لكن يبقى ممكناً في العقل، والعقل قادر على تخيله وتصور إمكان حدوثه مجرد تصور لا يأخذه على محمل الجد عادة.

 

كل يوم تقع حوادث سير يموت فيها أناس ويصاب فيها آخرون ولا شيء يقنع عقولنا أنه من المستحيل أن يقع لنا حادث سير ونحن ذاهبون إلى أعمالنا، فالاحتمال قائم، لكنه احتمال ضئيل نتغافل عنه ونتصرف على أنه غير موجود، طالما أننا سنقود بحذر وانتباه، وإلا لما تجرأ أحد على الخروج من بيته إلى عمله.

 

حياتنا ملأى بالأمور المحتملة التي لا نأخذها بالاعتبار، وكلها في أمور اعتمدنا فيها على الاستقراء؛ لأننا غير قادرين على اعتماد طريقة الاستنتاج التي تعطينا اليقين عادة، كما لا تفيدنا حواسنا في ذلك لأنها لا ترى أو تسمع ما لم يحدث بعد.

عملياً نحن نتعامل مع أكثر الأمور التي نصل إليها بالاستقراء بحسب احتماليتها، فكلما اقترب احتمال أمر ما من مئة بالمئة اعتبرناه يقينياً، كما لو كنا وصلنا إليه عن طريق الاستنتاج أو عن طريق الحواس..

 

لكن المشكلة هي عندما لا يكون الأمر على هوانا، بل نرغب بعكسه وضده، فإننا مهما ارتفع احتمال صحته بحسب الاستقراء ولو يكاد يكون مئة بالمئة، فإن الذين يتبعون أهواءهم منا، يتمسكون بذرة الشك التي لا يستطيع الاستقراء محوها من خيالنا، ويعتبرون هذا الاحتمال الذي تميل نفوسهم إليه هو الحق حتى وإن كان احتماله يقترب من الصفر.

 

وهذا تماماً ما يحدث في الإيمان والكفر والخلاف

 

5. الإيمان أيضاً علمي

يجادل الملحدون ويعيبون علينا أننا نؤمن بما لم تدركه حواسنا بينما هم علميون لا يؤمنون بشيء إلا بناء على مدركات الحواس ثم يأتي الاستقراء والاستنتاج، ويقولون أرونا الله لنؤمن به.

 

إنهم يوم القيامة يدعون أنهم تيقنوا أن لهم خالقاً أرسل الرسل وأمر ونهى، ويطلبون العودة إلى الدنيا: ﴿وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا۟ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12].

 

إنه باستثناء الرياضيات فإن أغلب العلوم تقوم على الاستقراء، وبالتالي نحن لسنا أقل منهم تفكيراً علمياً عندما نؤمن بخالقنا دون أن نراه، بعد ان استقرأ آياته في آفاق الطبيعة التي خلقها الله وفي أنفسنا، أما الكافرون فسيأتي اليوم الذي ينكسون فيه رؤوسهم وقد أبصروا وسمعوا ما كانوا يكابرون وينكرونه ﴿... أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12].

 

وأوضح مثال على ذلك أنه لا أحد يجرؤ على الادعاء أن ساعة جدار دقيقة وجدت هكذا ولم يصنعها صانع. وفي هذا قال ربنا: ﴿أَمْ خُلِقُوا۟ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَـٰلِقُونَ﴾ [الطور: 35].

 

إننا نحن البشر كائنات عجيبة في دقتها وروعتها، فهل يقول عاقل إننا أتينا إلى الوجود هكذا من غير شيء، أي من غير خالق خلقنا، أي صانع صنعنا، كما صنع الساعاتي الساعة الدقيقة؟ أم هل خلقنا أنفسنا بأنفسنا؟ ﴿... أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12].

 

وبما أن الجواب على هذين الاحتمالين بحسب البداهة الإنسانية والعقل الإنساني المشترك والمنطق الذي يحكمه، لا يكون إلا بالنفي فإنه لا يبقى إلا الاحتمال الثالث، وهو أنه لنا خالق خلقنا اسمه الله.

 

إنه من السفاهة الادعاء أننا خلقنا من غير شيء، لكن من اختاروا الكفر لم يتعذر عليهم الالتفاف حول الفكرة فأبدع الخيال الإنساني حكاية نشوء الحياة بمحض الصدفة ثم تطورها على مدى ملايين السنين، إلى أن وصلت لأرقى مستوياتها في الإنسان الكائن المخلوق في أحسن تقويم.

 

إنه تحايل وتمويه للقول إننا خلقنا بلا خالق، حيث البديل الذي خلقنا بادعائهم هو الصدفة والعشوائية، إنه خالق لا يشعرون نحوه بأي امتنان ولا يستحق منهم أي عبادة، وهؤلاء المستكبرون على طاعة الله يخرجون الله من الحسبان نهائياً.

 

أنا طبيب وأعرف الكثير عن النفس البشرية من الناحيتين البدنية والنفسية، لذا أقول وأنا على يقين: إن نشوء الحياة وتطورها حتى بلغت ما بلغته في عالم النبات والحيوان والإنسان بلا منشئ، بل بفعل المصادفات هو المستحيل بعينه، لكنهم طالما العقل البشري قادر على تخيل هذا الاحتمال المستحيل، أي الذي قيمته الحقيقية صفر، فإنهم يتمسكون به، ويفسرون الحياة على أساسه، ويشرحون صدورهم بالخرافة التي اخترعوها، وهم يحسبون أنهم هم العلميون بينما نحن الذين نؤمن بالخالق الخرافيون.

 

الاستقراء للكون وللأنفس يرينا من الآيات أي العلامات والدلائل على الخالق ما لا يحصى، ومهما كانت النتيجة العقلية احتمالية وعلى مستوى العقل المجرد غير يقينية، فإن هذا الاحتمال هو في الحقيقة مئة بالمئة أما احتمال عكسه فهو صفر بالمئة بالتأكيد وإن كان العقل قادراً على تخيله.

 

6. قابل للتخيل لكنه مستحيل

من البديهي أن مجرد قدرتنا على تخيل شيء على نحو معين، لا يعني بشكل من الأشكال أنه حق أو أنه موجود، كما إن عَجْزنا عن تخيل شيء ما، لا يعني أنه مستحيل.

 

من منا قادر على أن يتخيل اللانهاية في الأعداد أو الأبعاد أو الأزمان؟ عقولنا لا يمكنها أن تتخيل إلا ما هو محدود له بداية وله نهاية، ومع ذلك لم يظهر سفيه واحد ينكر اللانهاية في الرياضيات مثلاً.

 

وهكذا الإيمان أن الله ليس له خالق، شيء من الناحية العقلية غير ممكن، لكنه حق، لأن عقولنا مثل الكومبيوتر، لها برامج تعمل بها، وهي مبرمجة على أنه لا بد لكل مخلوق من خالق. إن عقولنا آلات حية عجيبة لكن لها حدود، لذا لن تفهم شيئاً عن الروح مثلاً لأنه ﴿... وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًۭا﴾ [الإسراء: 85].

 

عن طريق الآيات المختلفة نصل إلى أنه لنا خالق خلقنا، لكنه أخفى نفسه عنا، فلا تدرك حواسنا شيئاً يجعلها تتيقن من وجوده، ولا يظهر لنا من أفعاله ما يجعلنا عقلياً نصل إلى اليقين بوجوده.

 

إن له حكمة في ذلك بحيث مهما كانت الآيات كثيرة وترفع احتمال وجوده إلى مئة بالمئة، فإن قدرة عقولنا على تخيل احتمال آخر، حتى لو كان مستحيلاً في الواقع، تجعلنا أحراراً في أن نؤمن به أو أن نكفر، أي لا شيء يجبر عقولنا على الإيمان به والاعتراف بوجوده، ما لم نكن راغبين في ذلك، وما لم نكن خالصين من الأهواء التي تجعلنا نكابر ونتمسك بمستحيل قابل للتخيل ونبني عليه نظريات علمية نقنع بها أنفسنا أننا على الحق، أي نخدع أنفسنا ونوهمها أننا على الحق.

 

7. الإيمان بالغيب

ربنا أخفى نفسه وترك لنا الآيات التي تهدينا إليه لكنها لا تلزمنا بالاعتراف بوجوده وبفضله علينا وبرسله وكتبه، وذلك من أجل أن يكون إيماننا به إيماناً بالغيب لا بالمشاهدة التي يطلبها المعاندون كي يؤمنوا قال تعالى: ﴿الٓمٓ (1) ذَٰلِكَ ٱلْكِتَـٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًۭى لِّلْمُتَّقِينَ (2) ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ (3) [البقرة: 1 - 3].

 

وقال تعالى عن بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةًۭ فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم مِّنۢ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)﴾ [البقرة: 55 - 56].

 

وقال في سورة الإسراء: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍۢ فَأَبَىٰٓ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورًۭا (89) وَقَالُوا۟ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلْأَرْضِ يَنۢبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌۭ مِّن نَّخِيلٍۢ وَعِنَبٍۢ فَتُفَجِّرَ ٱلْأَنْهَـٰرَ خِلَـٰلَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَـٰٓئِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌۭ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَـٰبًۭا نَّقْرَؤُهُۥ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًۭا رَّسُولًۭا (93) وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوٓا۟ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓا۟ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًۭا رَّسُولًۭا (94) قُل لَّوْ كَانَ فِى ٱلْأَرْضِ مَلَـٰٓئِكَةٌۭ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكًۭا رَّسُولًۭا (95) قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًۢا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرًۢا بَصِيرًۭا (96) [الإسراء: 89 - 96].

 

أخفى ربنا نفسه ليكون إيماننا به بمحض إرادتنا ومشيئتنا، لأننا بذلك نبقى قادرين على أن نقنع أنفسنا أنه غير موجود، أو أن رسولاً معيناً لا يعجبنا، ليس مرسلاً منه، أو حتى مذهب لا نحبه، مع أنه الحق المبين.

 

لذلك قلت ليس الإيمان تأثراً وانفعالاً، أي ليس هو خضوع العقل للبراهين والأدلة بحيث لا مجال بعدها للعقل أن يقنع نفسه بغير ما أثبتته الأدلة، بل هو فعل إرادي مئة بالمئة، منسجم مع العقل السليم، لأنه قائم على آيات الله في الأنفس والآفاق.

 

إيمان المسلم يختلف عن إيمان الهندوسي بآلهته، مع أن إيمان الهندوسي إرادي أيضاً، وليس خضوعاً عقلياً لأية أدلة أو براهين أو آيات، إذ ليس هنالك شيء منها يدل على صحة ما يؤمن به.

 

إنه يؤمن بآلهته إيماناً غيبياً وإرادياً لكن شتان بين إيمانه وإيماننا.

 

نحن نصل إلى القناعة بصحة ديننا بالعقل الذي يقول لنا إن الاحتمال الأكبر الذي يكاد يكون يقيناً، أي مئة بالمئة، أن الله خالق كل شيء، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب.

 

نحن بإرادتنا نتيقن أنه الحق، مع أن الاستقراء لا يُلزم عقولنا بالإيمان إلزاماً، إنما نحن الذين نلتزم بالحق من تلقاء أنفسنا، بينما غيرنا يجادل ويكابر ويتمسك باحتمال، هو في الحقيقة غير موجود إلا في رأسه، لأنه عنده من الدوافع النفسية والأهواء ما يدفعه لذلك.

 

يقول أبو ذر رضي لله عنه فيما رواه البخاري في صحيحه: (سألتُ النبيَّ : ايُّ العملِ افضلُ؟ قال: إيمانٌ باللهِ، وجهادٌ في سبيلِه. قلتُ: فأيُّ الرقابِ افضلُ؟ قال: أغلاها ثمنًا، وأنفسُها عِندَ أهلِها، قلت: فإن لم أفعَلْ؟ قال: تُعينُ صانعاً، أو تصنَعُ لأخرق، قال: فإن لم افعَلْ؟ قال: تدَعُ الناسَ من الشرِّ، فإنها صدقةٌ تصدَّقُ بها على نفسِك).

 

إذن الإيمان عمل بحد ذاته، لكنه عمل قلبي وعقلي، فنحن أحرار في الكثير مما نختاره في عقولنا، وإرادتنا هي التي تختار ما تشاء، وليس مجرد اقتناع لا إرادة لنا فيه.

 

8. الإيمان والدوافع

صحيح أن المعاند قد لا يشعر بالحق في قلبه ابداً، لكن ليس ذلك لقلة المعروض أمامه من الأدلة والآيات، إنما لأنه يكره هذا الحق، وإذا حاول استشعاره، أصبح صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، بينما ينشرح صدره وتطمئن نفسه بالكفر والعلم الزائف الذي يخدع به نفسه.

 

ليس معذوراً أن صدره يضيق بالحق، لأن ذلك ناتج عن اختياره للاستكبار على الله وعلى خلقه، وهو الذي أورد نفسه هذا المورد بحمقه، مع أنه لا يقل ذكاء ولا علماً عن الذين آمنوا وانشرحت صدورهم بالإيمان. قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَـٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًۭا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَـٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًۭا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْـَٔايَـٰتِ لِقَوْمٍۢ يَذَّكَّرُونَ (126)﴾ [الأنعام: 125 - 126].

 

إذن يضيق صدره بالحق، ويشرحه هو بالكفر.

 

وتبدأ القضية عادة برفض واعٍ للإيمان بالله أو برسول معين، لكن حتى يريح نفسه مما يسمى التناقض المعرفي cognitive dissonance حيث تنزعج نفسه من اجتماع المتناقضات فيها، أي اجتماع معرفته أن هذا هو الحق مع رفضه له، فيقوم بخداع نفسه وتغيير المنظور، ويأخذ بالاحتمال الضئيل جداً وهو أن ما يُدعى إليه ليس هو الحق، بل نقيضه، وينظر للقضية من خلال هذا المنظور وهذا الاحتمال، فإذا بالأمور تبدو كما يحب ويهوى، ويبدو في عين نفسه منسجماً مع العقل والعلم ومتحرراً من الخرافة، فيفرح، أي يتعالى ويختال ويفتخر بموقفه، ويزدري ويحتقر المؤمنين ويراهم السفهاء، وهكذا يزيغ في البداية وهو واع لذلك، فيُزيغ الله قلبه جزاء له، فيقنع نفسه بالباطل مع أن الحق كان واضحاً له، وقد تكون نفسه وصلت لحد التيقن من أن ذلك هو الحق لكنه يجحد عن سابق إصرار وتصميم، فيتركه الله يخدع نفسه ويحتال عليها ويريها الباطل حقاً، فينشرح صدره ويرتاح، ويمعن في الضلال والجحود. قال تعالى عن قوم فرعون: ﴿وَجَحَدُوا۟ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًۭا وَعُلُوًّۭا ۚ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل : 14].

 

أما الذي لم يستكبر، بل اعترف لصاحب الفضل بفضله وشكر له ذلك، فإن الله ييسره لليسرى، فينشرح صدره للحق، ويسعد بنعمة الهداية ولا يضل ولا يشقى، ويدخل في علاقة حب متبادل مع خالقه، ويسلم القياد ويطيع هذا الخالق العظيم، ليقابله الله بأن يكون وليَّه في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويعطيه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيه عذاب النار. قال تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلْعُسْرَىٰ (10)﴾ [الليل: 4 - 10].

 

وهكذا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، نعم نحن في الدنيا أحرار لكننا محاسبون، يكافئنا ربنا إن شكرنا نعمه، ويعاقبنا إن كفرنا وأنكرناها أو حتى أنكرنا وجوده من أصله.

 

ربنا يقول لنا: لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لا ليعطينا الخيار دون أن تكون هنالك عاقبة لاختيارنا، بل لأنه خلقنا لنكون خلفاء له في الأرض نحقق في أنفسنا صفاته وأسماءه الحسنى، وهو "حُرّ" يفعل ما يشاء فهو على كل شيء قدير، أما نحن فلنا أن نفعل ما نشاء ضمن اختيارات محدودة، إما شاكراً وإما كفوراً، فنمارس حريتنا ونلتزم بالحق إن أحببنا، أو نجحد ونكفر إن شئنا، لكننا محاسبون على كل شيء في النهاية.

 

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، نحن في الدنيا أحرار لكننا محاسبون، يكافئنا ربنا إن شكرنا نعمه، ويعاقبنا إن كفرنا وأنكرناها أو حتى أنكرنا وجوده من أصله.

 

ربنا يقول لنا: لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لا ليعطينا الخيار دون أن تكون هنالك عاقبة لاختيارنا، بل لأنه خلقنا لنكون خلفاء له في الأرض نفعل كما يفعل، وهو "حُرّ" يفعل ما يشاء لأنه قادر على كل شيء، أما نحن فلنا أن نفعل ما نشاء ضمن اختيارات محدودة، إما شاكراً وإما كفوراً، فنمارس حريتنا ونلتزم بالحق إن أحببنا، أو نجحد ونكفر إن شئنا، لكننا محاسبون على كل شيء في النهاية. قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍۢ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـٰهُ سَمِيعًۢا بَصِيرًا {2} إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًۭا وَإِمَّا كَفُورًا {3} إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ سَلَـٰسِلَا۟ وَأَغْلَـٰلًۭا وَسَعِيرًا {4} إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍۢ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا {5}﴾ [الإنسان: 2 - 5].

 

ربنا يريد منا التزامنا بالحق ولا يريد إلزامنا بشيء إلزاماً فيه الإكراه والإجبار، لأنه لا قيمة عنده لأية عبادة يقوم بها الإنسان مكرهاً، إنه لا يقدر لحوم ولا دماء الهدي والأضاحي التي يقدمها الحجاج، إنما يقدر ويقيم ويثمّن التقوى التي تصدر عنها تلك الطاعات، صحيح أن لكل طاعة نفعاً يعود على الفرد أو المجتمع أو كليهما، لكن الطاعة تتجلى فيها أيضاً تقوانا لله وبالتالي تكون نافعة لنا يوم القيامة. قال تعالى عن البُدُن التي تُذبح في الحج: ﴿لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمْ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 37].

 

9. الإيمان والانتماء

نعود إلى الإيمان والكفر والاختلاف ودور النفس وأهوائها فيها.

 

في القرآن الكريم آيات عديدة ترينا كيف أن الإيمان أو الكفر ليسا وليدي القناعة، لأننا إن أردنا ألا نقتنع، فلن يقنعنا شيء، ويتجلى ذلك في اختبار القابلية للهداية الذي طبقه سليمان على بلقيس، وكذلك في مواجهة إبراهيم لقومه الذين آمنوا بآلهة مزيفة من أجل المودة بينهم، أي الانتماء، وفي بيان ربنا أن الناس يؤمنون بآلهة لا وجود لها ليكون لهم فيها العزة لأنها توحدهم وتجسد انتماءهم بعضهم لبعض، وكل هذا يختفي عندما يواجهون خطر الموت فيَدعون الله مخلصين له الدين.

 

10. اختبار القابلية للهداية

قبلت بلقيس دعوة سليمان لتزوره في القدس، وبينما هي في طريقها إليه قال سليمان لأعوانه: من يأتيني بعرشها؟ أي من اليمن إلى القدس. فقام الذي عنده علم من الكتاب بإحضار عرشها في طرفة عين.

 

وعندما وصلت بلقيس أراد سليمان الحكيم أن يختبرها، ليعلم هل هي من الذين يهتدون للحق ولا يستجيبون لأهوائهم التي تدفعهم إلى أن ينحازوا إلى الاحتمال الضئيل المتخيل ليتهربوا من الحق، فقال سليمان لمن عنده: نكّروا لها عرشها لننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون.

 

لم يكن سليمان وهو الحكيم يريد اختبار ذاكرتها، وهل كان يشك أحد في أنها ستعرف عرشها عندما يعرض عليها، وبخاصة أن أكثر شيئين كان الملوك يهتمون بهما التاج والعرش؟ كان سليمان يريد معرفة هل الكبرياء ستجعلها تنكر الحق فتكذب، أم إنها متحررة من الكبرياء، وقيمتها عند نفسها ليست قائمة على الأشياء التي تملكها، وبالتالي ستقر بأن هذا العرش الموضوع في أحد أركان قصر سليمان وكأنه زائد عن الحاجة، هو مماثل لعرشها.

 

كان مثل هذا الاعتراف مستحيلاً على ملك يكابر وينكر الحق، لأنه في ذلك الزمان، حيث تفصل سليمان عن بلاد بلقيس مسيرة شهور، ما كانت بلقيس لتتخيل أن سليمان قادر على إحضار عرشها إلى قصره أو على معرفة شيء عنه، وكانت ستكذب وتدعي أن هذا العرش المعروض أمامها لا شيء مقارنة بعرشها الذي ليس له مثيل عند ملك من الملوك، لكن بلقيس الإنسانة السوية، التي لا تسمح للكبرياء أن تعميها عن الحق، قالت على الفور ودون تردد عندما عُرض عليها العرش وقيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، فتبين لسليمان أنها تهتدي، وأنها ليست من المكابرين المتبعين لأهوائهم فلا يهتدون.

 

دعاها سليمان للإسلام لكنها لم تستجب، لا لأن ما دعاها إليه لم يكن مقنعاً لها، بل لقد صدها ما كانت تعبد هي وقومها، وأنها لم تكن تريد أن تفترق عنهم وتخرج منهم عندما تكفر بآلهتهم وتؤمن بالله الذي دعاها سليمان إليه.

 

وكان لبلقيس جولة في قصور سليمان، وأدخلوها مكانا بدا لها لجة ماء، فشمرت عن ساقيها حتى لا يبتل ثوبها، فقال لها سليمان إنه لا داعي لذلك، لأن الماء الذي تراه لم يكن ماء حقيقياً، بل كان عملاً فنياً وصرحاً ممرداً من زجاج، وفي هذه اللحظة أسلمت بلقيس مع سليمان لرب العالمين.

 

لنقرأ حكايتها: ﴿قَالَ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَؤُا۟ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌۭ مِّنَ ٱلْجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌۭ (39) قَالَ ٱلَّذِى عِندَهُۥ عِلْمٌۭ مِّنَ ٱلْكِتَـٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِىٓ ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّۭ كَرِيمٌۭ (40) قَالَ نَكِّرُوا۟ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِىٓ أَمْ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَـٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُۥ هُوَ ۚ وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍۢ كَـٰفِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِى ٱلصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةًۭ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرْحٌۭ مُّمَرَّدٌۭ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ (44)﴾ [النمل: 38 - 44].

 

والسؤال هنا: ما علاقة الصرح الممرد من قوارير بصحة ما دعاها سليمان إليه أو كذبه وزيفه؟ لم يكن الأمر أمر معجزة من معجزات الرسل التي تتجاوز القوانين الطبيعية لتثبت للناس أن هذا الرسول على اتصال بمن هو فوق قوانين الطبيعة وقادر على أن يغير طبائع الأشياء متى شاء، بل كان مجرد بناء مصقول من زجاج، كان تحفة معمارية لا أكثر.

 

كيف جعلها الصرح تدخل في الإسلام من فورها؟ كان الذي صدها عن الإسلام أنها كانت من قوم يعبدون غير الله، وكانت حريصة على أن تبقى واحدة منهم، وبخاصة أنها كانت ملكتهم، لكن عندما رأت أن تفوق سليمان الحضاري بلغ حداً لم تكن تتصوره، قررت أن تستغني عن قومها وأن تنضم إلى سليمان تعبد الله الذي خلقها معه، ولننتبه لقولها ﴿... مَعَ سُلَيْمَـٰنَ...﴾.

 

لقد تغلبت رغبتها في الالتحاق بسليمان على حرصها على بقائها في قومها، فعادت لتأخذ باعتبارها الاحتمال الأكبر الذي كانت تؤيده الأدلة أن سليمان على الحق، وأزاحت من عقلها ذلك الاحتمال الضئيل الذي يستطيع عقلها أن يفترضه ويتخيله في أية قضية لم تجبره الحواس على التصديق بها، ولم يصل إليها عن طريق الاستنتاج الذي يضطر العقل إلى الإيمان بما نتج عنه اضطراراً شاء أم أبى، لأنه لا يستطيع إنكار النتيجة إلا إن كان مستعداً لأن يقال عنه مجنون.

 

11. الانتمــاء والعــزة

يروي لنا ربنا ما جرى بين إبراهيم عليه السلام وقومه فيقول تعالى: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰنًۭا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍۢ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًۭا وَمَأْوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِينَ[العنكبوت: 25].

 

أي أنهم كانوا يعبدون الأوثان لأن عبادتهم لها تشكل رابطاً يجمعهم، مما يشبع لديهم الحاجة إلى الانتماء إلى قومهم. وتؤكد الآية التالية دافع الانتماء الذي يجعل الناس يؤمنون بما هو غير مقنع على الإطلاق، لأن انتماءهم وارتباطهم بقومهم يجعلهم أعزة. قال تعالى: ﴿وَٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةًۭ لِّيَكُونُوا۟ لَهُمْ عِزًّۭا (81) كَلَّا ۚ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)﴾ [مريم: 81 - 82].

 

عندما انتصر الرسول والمؤمنون معه على قريش وفتحوا مكة، صار العرب المترددون يدخلون في دين الله أفواجاً، كان دخولهم في دين الله صادقاً ولم يكن نفاقاً، وهذا ما تقوله سورة النصر: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجًۭا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابًۢا (3) [سورة النصر]ومرة أخرى نرى أن الإيمان ليس مجرد اقتناع، بل هو موقف واتجاه attitude فيه القناعة العقلية والمشاعر القلبية والسلوك الناتج عنهما.

 

12. الرجوع إلى الحق

يخبرنا ربنا في القرآن عن الكفار المعاندين كيف يدعون الله مخلصين له الدين، أي مؤمنين إيماناً صادقاً، عندما يتعرضون للخطر، ولا يبقى لهم مُنْجٍ إلا الله. قال تعالى: ﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةًۭ مِّنۢ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌۭ فِىٓ ءَايَاتِنَا ۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ ٱلَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍۢ طَيِّبَةٍۢ وَفَرِحُوا۟ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌۭ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍۢ وَظَنُّوٓا۟ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ (22) فَلَمَّآ أَنجَىٰهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ۗ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَـٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) [يونس: 21 - 23].

 

وفي هذا المعنى تُروى حكاية عن رابعة العدويَّة أن أحدهم قال لها: «إن فلاناً أقام ألف دليل على وجود الله»، فضحكت وقالت: «دليل واحد يكفي» قيل: «ما هو؟»، قالت: «لو كنتَ ماشياً وحدك فـي الصحراء، وزلّت قدمك فسقطت فـي بئر، لم تستطع الخروج منها، فماذا تصنـع؟» قال: «أنادي يا (الله)»، قالت: «ذاك هو الدليل، إن لم يكن موجوداً فلم تناديه؟». وكذلك روي أنفخر الدين الرازي كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له كثر فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: )من هذا؟( قالوا: )هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى( قالت العجوز: )أفي الله شك؟..

 

وصدق الله إذ يقول: ﴿۞ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱللَّهِ شَكٌّۭ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى ۚ قَالُوٓا۟ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌۭ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَـٰنٍۢ مُّبِينٍۢ [إبراهيم: 10]أي إن كل البشر يدركون في أعماق نفوسهم أن الله موجود، لكن الأهواء تدفعهم إلى الجحود والإنكار، وعندما يقعون في خطر وجودي يتهدد حياتهم تختفي تلك الأهواء ولا يبقى منها شيء يصدهم عن الإيمان، فيؤمنون بإخلاص، وما أن ينجيهم الله ويستشعروا الأمان، حتى تعود إليهم أهواؤهم وينتكسون إلى الكفر والعصيان.

 

13. الفطرة فـي اللاشعور

أخبرنا ربنا في القرآن الكريم عن حادثة مررنا كلنا بها تم فيها غرس الإيمان في أعماق قلوبنا، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَآ ۛ أَن تَقُولُوا۟ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوٓا۟ إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةًۭ مِّنۢ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ (173) [الأعراف: 172 - 173].

 

لكن الذرية تأتي من الخصية والمبيض وكلاهما ليس في الظهر، وقد اكتشف علم الجنين في القرن العشرين أن الخلايا التي تتحول إلى بييضات عند المرأة وإلى حيوانات منوية عند الرجل تتخلق على جانبي العمود الفقري، ثم تنزل باتجاه البطن في الأسبوع الثامن والتاسع من حياة الجنين. أي ربنا أخذنا من ظهور آبائنا وأمهاتنا لما كانوا هم أجنة ولم تتخلق أعضاؤهم التخلق الكامل، وبالتالي لم يكتسبوا أي سلوك يمكن أن ندعي يوم القيامة أنه انتقل إلينا بعوامل الوراثة، والمقصود هنا الكفر وإنكار أن الله ربنا الذي خلقنا.

 

في تلك المرحلة المبكرة من حياة الآباء والأمهات أحيانا الله وأشهدنا على أنفسنا ﴿... أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ...﴾؟ فقلنا: ﴿... بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَآ ۛ ...﴾ وبيَّن ربنا لنا أنه أشهدنا على أنفسنا في تلك المرحلة، لأنه يريد أن يقطع الطريق على من سيكفر ويفسق ثم يدعي أنه ورث الكفر والفسوق من والدين كافرين وبالتالي فهو معذور لأن الكفر كان في أصل تكوينه.

 

ربنا ينفي أن نرث أي شيء من طباع والدِينا المكتسبة أو معتقداتهما، وقد أثبت العلم المعاصر ذلك وصار واضحاً لنا أن الصفات المكتسبة لا تورث من جيل إلى آخر. وللنبي حديث يبين فيه ذلك سأرويه لكم إن شاء الله بعد أن أكمل هذه الفكرة.

 

إذن ربنا أراد أن يفهمنا أننا لن نرث كفر آبائنا ولا إيمانهم، وأراد أن يفهمنا أيضاً أن الإيمان به مغروس في فطرتنا، وأننا لسنا غافلين، أي غير مبرمجين على هذا الإيمان، أي إن الإيمان بالخالق العظيم شيء تعرفه نفوسنا وتتجاوب معه إن أردنا أن نؤمن.. قال تعالى: ﴿... قَالُوا۟ بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَآ ۛ أَن تَقُولُوا۟ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ [الأعراف: 172]. أي: كي لا تقولوا يوم القيامة إن تكوين عقولنا لم يكن فيه شيء عن الإيمان.

 

هذا الموقف والحوار مع رب العالمين طالما أن الله يقول إنه وقع فقد وقع حقاً دون شك، لكننا لا نذكره أبداً.. فلم يا ترى؟ إنه لو تركه الله في وعينا لاستحال على عقولنا أن تكفر إن هي شاءت أن تكفر، وفي تلك الحالة لا يكون لنا أي فضل عندما نعترف بوجود الخالق بعد أن أشهدنا على أنفسنا أنه ربنا وشهدنا. لذلك تم نقل ذكرى موقف الإشهاد إلى اللاشعور حيث تكمن الفطرة التي فطرنا الله عليها فهي مركوزة في أعماق قلوبنا دون أن تكون ملزمة لعقولنا.

 

قال النبي فيما رواه البخاري في صحيحه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال عن النبي "... حَدَّثَنا: أنَّ الأمانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ..."، والجذر من النبات كما نعلم كلنا، هو الجزء الخفي، لكنه الحي والفعال، من النبات، وهكذا هو اللاشعور من عقل الإنسان.

 

لقد جعل الله فطرة الإيمان أمانة عندنا مخبوءة في جذور قلوبنا، نستطيع أن نجحدها وننكرها أو أن نُقِرّ بها ونؤديها غير منقوصة، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَـٰنُ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًۭا جَهُولًۭا [الأحزاب: 72]. الإنسان هو المخلوق الحي الوحيد على سطح الأرض القادر على أن يكذب وينكر أمانة أودعت عنده. وقد اجتهد كثيرون لفهم المقصود بالأمانة في هذه الآية، لكن أمرها بسيط إن أخذناها على ظاهرها وفسرنا الأمانة بالأمانة، أي القدرة على إنكار ما استودعنا الله إياه من فطرة أو الإقرار والإيمان.

 

أما حديث النبي عن الفطرة التي لا يشوهها أي سلوك مكتسب لوالدينا فقد رواه البخاري في صحيحه وجاء فيه: "ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فيها مِن جَدْعاءَ،...". انظروا إلى المثال الذي جاء به ليقرب إلى عقولنا كيف أن الصفات المكتسبة لا تُورّث للذرية، فقال لو أنجبت شاة بتر مالكها أذنها، فإن ما ستلده سيأتي بأذن غير مبتورة، وهكذا كل مولود يولد على الفطرة الأصلية، دون أن يكون ضحية سلوك والديه.

 

بقي أن نذكر موقفاً آخر قصه ربنا علينا في القرآن سيكون مع الكفار عندما يرون العذاب ويتوقعون أنهم ملاقوه، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰٓ إِذْ وُقِفُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُوا۟ يَـٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔايَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا۟ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا۟ لَعَادُوا۟ لِمَا نُهُوا۟ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ (28) [الأنعام: 27 - 28]هنا يطلب الكفار أن يُعْطَوا فرصة ثانية فيعودون إلى الدنيا ليعملوا صالحاً. بالطبع طلبهم مرفوض، لكن الذي يلفت النظر هو تأكيده سبحانه وتعالى أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، فهم كاذبون لا أمل بصلاحهم. لكن هل هذا معقول أنهم بعد أن رأوا العذاب بأعينهم يعودون لما نهوا عنه ويضيعون الفرصة الثانية لو أعطيت لهم لو ردهم الله إلى الدنيا فإنه لن يترك ذكرى هذا الموقف الذي تحدثنا عنه الآيات في وعيهم، بل سينقله إلى اللاشعور تماماً مثل موقف الإشهاد، وبذلك يكون عليهم أن يؤمنوا بالغيب كما آمنا، ويؤدوا الأمانة التي حملوها، وفي هذه الحالة لا غرابة أنهم سيعودون لما نهوا عنه، طالما أنهم لا يذكرون في وعيهم شيئاً من هذا الموقف الرهيب.

 

14. الكِبـْر والكفر

يخبرنا الله في كتابه أن سبب كفر المعاندين عندما تبلغهم دعوة الحق هو الكِبْر فيقول: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِىٓ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـٰنٍ أَتَىٰهُمْ ۙ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌۭ مَّا هُم بِبَـٰلِغِيهِ ۚ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [غافر: 56]. أي ليست المشكلة معرفية أخفقت فيها الأدلة في إقناعهم، إنما هم رفضوا أن يقتنعوا، لأنهم مستكبرون على الله، أو على رسله، أو على المؤمنين.

 

يقول تعالى: ﴿قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوا۟ مِن قَوْمِهِۦ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوا۟ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـٰلِحًۭا مُّرْسَلٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ ۚ قَالُوٓا۟ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِۦ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوٓا۟ إِنَّا بِٱلَّذِىٓ ءَامَنتُم بِهِۦ كَـٰفِرُونَ (76)﴾ [الأعراف: 75 - 76].

 

وقال أيضاً: ﴿وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوٓا۟ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓا۟ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًۭا رَّسُولًۭا (94) قُل لَّوْ كَانَ فِى ٱلْأَرْضِ مَلَـٰٓئِكَةٌۭ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكًۭا رَّسُولًۭا (95)﴾ [الإسراء: 94 - 95].

 

وقال: ﴿وَقَالُوا۟ لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍۢ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)﴾ [الرخرف: 31].

 

وقال ربنا وهو يكشف سبب كفر اليهود في المدينة بمحمد : ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَـٰبٌۭ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌۭ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا۟ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا۟ كَفَرُوا۟ بِهِۦ ۚ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ (89) بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْا۟ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا۟ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۖ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍۢ ۚ وَلِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابٌۭ مُّهِينٌۭ (90)﴾ [البقرة: 89 - 90]لم يكن كفرهم لأن الحق لم يستبن لهم، إنما لأن الرسول لم يكن منهم، بل كان من العرب، واليهود المستكبرون يأنفون أن يتبعوا رسولاً من أمة لا يحترمونها، وهم مستكبرون عليها.

 

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِۦٓ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌۭ مُّبِينٌ (25) أَن لَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّا ٱللَّهَ ۖ إِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍۢ (26) فَقَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن قَوْمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرًۭا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْىِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍۭ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـٰذِبِينَ (27)﴾ [هود: 25 - 27].

 

وقال في سورة البقرة مبيناً أن الكِبْر كان سبب كفر إبليس، الذي لم يكن في حاجة للإيمان بالاستقراء، بل كان يشاهد المغيبات بأم عينيه: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوٓا۟ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ [البقرة: 34].

 

خلاصة القول إن سبب كفر المعاندين ليس معرفياً وليس نقصاً في الأدلة التي بلغتهم، ولا إخفاق الآيات التي جعلها الله في الأنفس والآفاق وأرسل الرسل بها، لذلك لن يقبل منهم أي تحجج بعدم كفاية الأدلة يوم القيامة، فالله يقول: إنه طالما كانت هذه الأدلة كافية لغيرهم ليهتدوا بها، فإن ضلال هؤلاء كان من أنفسهم وباختيارهم ويحملون مسؤوليته وسيعاقبون عليه.

 

فقال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا ٱسْتُجِيبَ لَهُۥ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌۭ وَلَهُمْ عَذَابٌۭ شَدِيدٌ [الشورى: 16].

 

لقد اطلع المسلمون على الفلسفة اليونانية، وأتقنوا المنطق الأرسطي، وصاروا ماهرين جداً في القياس العقلي وفي جميع أشكال الاستنتاج، وكلها تفيد علماً اضطرارياً لا يستطيع العقل إلا أن يقبل به، فطالما كانت المقدمات صحيحة، فلا مجال لأي درجة من الشك في صحة النتيجة.

 

وقد بذل المسلمون وسعهم في توظيف هذا الفن العقلي لإثبات صحة الحقائق الدينية، ولإقناع الناس بها ورد التشكيكات فيها، كما وظفوه في خدمة اللغة العربية وتطوير علم النحو الذي كان شكلاً لغوياً من المنطق. فنتج عن ذلك الجهد الجبار إضافة لعلم النحو علمٌ آخر أسموه علم الكلام، كله براهين وردود، لإثبات صحة ما تعتقده كل فرقة من فرق المسلمين، والجميع يشترك بالبراهين على وجود الخالق وصدق رسالة .

 

لم ينجح علم الكلام في المهمة التي من أجلها أنشئ، ولم تنجح جهود الفلاسفة الأوربيين الذين جاؤوا بعد انتقال التقدم الثقافي من العالم الإسلامي إليهم والذين كانوا يؤمنون بالله، لم تنجح براهينهم العقلية في إثبات وجود الخالق إثباتاً ملزماً للعقول بحيث لا تستطيع التشكك فيه أو تفنيده وإثبات عكسه.

 

الجميع حاولوا أن يثبتوا بالبرهان العقلي الاستنتاجي قضية عقلية لا ينفع فيها إلا الاستقراء، ولا ينجح الاستقراء في إقناع الناس بها ما لم يكونوا راغبين بها، وليس لديهم أهواء تجعلهم يجحدونها ويكفرون بها، هم لم ينجحوا بينما نجح القرآن الكريم في ذلك كله، بقليل من الأدلة العقلية التي نجدها في آية هنا وآية هناك.

 

القرآن لم يجعل اعتماده في إقناع الناس بوحدانية الله ورسالة محمد  على الأدلة العقلية الكثيرة، بل كان القليل منها كافياً، لأن الأدلة لم تقدم للعقل من دون شيء معها، بل رافقها خطاب موجه للقلوب يخوفها ويرغبها، ليخلق فيها الدافع النفسي لتقبل الحق وعدم المكابرة وخداع النفس باختيار الاحتمال الذي يبقى العقل قادراً على تصوره رغم عدم وجاهته.

 

ولنتأمل بعض النصوص القرآنية، لنرى كيف خاطب القرآن القلوب وحرك مشاعرها ودوافعها أكثر بكثير من مخاطبته للعقول القائمة على المنطق المجرد من العواطف. ولنأخذ هذه الآيات الكريمة من سورة عبس كمثال على ما بيناه من منهجية القرآن في مخاطبة القلوب مع العقول. يقول تعالى: ﴿قُتِلَ ٱلْإِنسَـٰنُ مَآ أَكْفَرَهُۥ (17) مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُۥ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ (19) ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُۥ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُۥ فَأَقْبَرَهُۥ (21) ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُۥ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُۥ (23) فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَـٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ (24) اَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبًّۭا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلْأَرْضَ شَقًّۭا (26) فَأَنۢبَتْنَا فِيهَا حَبًّۭا (27) وَعِنَبًۭا وَقَضْبًۭا (28) وَزَيْتُونًۭا وَنَخْلًۭا (29) وَحَدَآئِقَ غُلْبًۭا (30) وَفَـٰكِهَةًۭ وَأَبًّۭا (31) مَّتَـٰعًۭا لَّكُمْ وَلِأَنْعَـٰمِكُمْ (32) فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ (35) وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍۢ شَأْنٌۭ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍۢ مُّسْفِرَةٌۭ (38) ضَاحِكَةٌۭ مُّسْتَبْشِرَةٌۭ (39) وَوُجُوهٌۭ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌۭ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ (42)﴾ [عبس: 17 - 42].

 

انظروا إلى الأدلة المتعددة التي توردها الآيات ثم تتبعها بترهيب وترغيب، ترهيب من موقف مرعب يوم القيامة حين يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.. ثم يتلوه الترغيب بذكر سعادة المؤمنين واستبشارهم في الموقف الرهيب ذاته، بينما الكفرة الفجرة وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة. تعرض الحقائق الإيمانية والأدلة العقلية الاستقرائية ممزوجة بما يرفع الدافعية لدى المتلقي لأن يتجرد عن الهوى ويأخذ الأمر بجدية، فلا يخدع نفسه ولا ينكر الحق وهو يعلمه.

 

يتباهى الملحدون بأنهم هم العلميون ونحن الخرافيون، وهم لا يعلمون أو لا يريدون أن يعلموا أننا نستدل على الخالق وعلى صحة رسالته بطريقة أكثر علمية من طريقتهم في إنكاره. إن العلوم جميعها باستثناء الرياضيات تقوم على الاستقراء، أما الرياضيات فعلى الاستنتاج. أي جميع العلوم تقوم على الاحتمالات وغلبة الظن، ولم تتقدم البشرية إلا عندما تحررت من أسر الفلسفة الاستنتاجية وانطلقت تستقرئ الكون والطبيعة، لتكتشف القوانين التي تحكمهما، ولتنجح في تسخيرهما لخيرها وخدمتها.

 

الأوربيون ينسبون الفضل إلى "بيكُن" على أنه أول من لفت الأنظار لأهمية الاستقراء، لكنهم يجهلون أنهم مع البشرية كلها مدينون للقرآن الكريم الذي شجع مراراً على استقراء الآيات في الأنفس والآفاق ليتبين لنا أنه الحق. ويتناسون أن الاستقراء كان دائماً الطريقة العقلية للاستدلال التي يتبعها كل البشر منذ آدم في حياتهم اليومية، وإن كانوا لم يسموها باسم مميز لها. لقد حاول محمد باقر الصدر رحمه الله في كتابه "الأسس المنطقية للاستقراء" أن يتغلب بالرياضيات المعقدة جداً على ذرة الشك التي تبقى مهما عظم احتمال وجود الله، وحاول رحمه الله أن يصل بالاحتمال إلى مئة بالمئة عن طريق معادلات رياضية استغرقت عشرات الصفحات. لقد فاته رحمه الله أن ذرة الشك هذه مقصودة ممن خلقنا وبرمج عقولنا، لنقوم نحن بتجاوزها بقلوبنا تجاوزاً متعمداً، فلا نلقِ بالاً لذرة الشك العقلي، إنما نؤمن بالحق الذي جاءنا من ربنا، تماماً كما لو أننا وصلنا إليه بالاستنتاج الرياضي أو غير الرياضي.

 

إن هذه القفزة فوق ذرة الشك المتأصلة في تكوين العقل الإنساني عندما يقوم بالاستقراء، هي الإيمان الذي نستحق عليه الأجر من الله. ولو لم توجد ذرة الشك العقلي هذه، ما كان لنا فضل في إيماننا، وما كنا نستحق من الله الشكر عليه والأجر.

 

15. خداع النفـس والاهتداء

والسؤال الحاسم هو كيف نعرف إن كنا نخدع أنفسنا بخصوص قضية ما، أم نحن نقر بالحق ونكون بذلك مهتدين؟ هذه من المعضلات التي بحثها علم النفس المعرفي المعاصر، وحلها بسيط وبدهي.

 

عندما يكون هنالك احتمالان متناقضان مثل: هل للكون والأحياء خالق أم هم ولدوا بالصدفة المحضة؟ فإن من يأخذ بالاحتمال الأقوى هو المهتدي، أما من يتمسك باحتمال ضئيل وعلى أساسه ينكر ما تقوم الدلائل على أنه الحق، فهو الخادع لنفسه الرافض للهداية التي تقتضيها البداهة البشرية common sense التي يقوم عليها تفكيرنا في كل شيء نستقرئه في حياتنا اليومية. الخادع لنفسه يتبنى ما يثبت العقل والعلم أنه على الأغلب الأغلب باطل، وينكر ما احتمال صحته يقترب من مئة بالمئة.

 

عندما تكون احتمالية صحة الأمر أو عدم صحته متقاربتين وتكادان تكونان خمسين بالمئة لكل منهما، في هذه الحال يصعب علينا تمييز الاهتداء عن خداع النفس، لكن خلافنا مع الملحدين ليس من هذا النوع، حيث الاحتمال العقلي أن الحياة ولدت صدفة، وتطورت وارتقت بمزيد من الصدفة المحضة لتبلغ ذروتها في الإحكام والإتقان والروعة التي خلق بها الإنسان، احتمال ذلك وارد من الناحية العقلية لأن العقل البشري قادر على تخيّله، لكنه احتمال متناهٍ في الضآلة بحيث يكاد يكون صفراً بالمئة.

 

لو أجريت دراسة علمية ووصلت إلى نتائج احتمال صحتها خمسة وتسعون بالمئة، واحتمال أن تكون نتائجها وليدة الصدفة خمسة بالمئة، فإن التفكير العلمي السليم الذي لا يختلف عليه عالمان ولا عاقلان، هو اعتبار ما احتماله خمسة وتسعون بالمئة أو أكثر هو الصواب، واهمال الاحتمال النقيض الذي لا يبلغ خمسة بالمئة، فنبني على ما غلب على ظننا أنه الصواب، فنصنع بمقتضاه دواء جديداً، ولا نعتبر وصف الطبيب له ليعالج به مريضاً ما خطأً طبيباً، حتى لو نتج عن ذلك ضرر للمريض.

 

نحن المؤمنين أن لنا خالقاً خلقنا عن قصد وتعمد وعلم وقدرة لا متناهية على الإبداع، نحن هم العلميون الذين يتبنون ما احتمال صحته هو الأغلب.. أما الذين يتبنون ما احتمال صحته ضئيل جداً لمجرد أن العقل الإنساني قادر على تخيله، فهم الخرافيون اللاعلميون. يحق للمؤمنين بالخالق أن يستعيدوا الثقة بأنفسهم فينتقلوا من موقف الضعيف المدافع عن صحة الاحتمال الذي نتبناه، إلى الهجوم وطلب الدليل من الذي يتبنى الاحتمال الضئيل جداً في فعل معرفي متعمد يناقض ما بني عليه العقل الإنساني من قواعد منطقية وعقلانية.. قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!

 

الإنسان حر حتى بينه وبين نفسه أن يؤمن أو أن يكفر، وعندما تكون الدوافع المضادة للإيمان بالله وبرسوله قوية جداً، فإنه حتى المعجزات لا تعمل شيئاً، كما أنها لم تنجح مع فرعون وقومه عندما أيد الله رسوله موسى بتسع آيات كلها معجزات، ومن كثرة الآيات وصل القوم إلى اليقين أن ما يدعوهم موسى إليه هو الحق ومع ذلك جحدوا وأنكروا وكفروا. قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا۟ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًۭا وَعُلُوًّۭا ۚ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ [النمل: 14]هنا لم يكن خداع النفس هو السائد، بل كان الجحود والكفر بكل وعي وعلى العكس من كل القناعات العقلية التي تدركها النفس الواعية، لكن هذا الجحود لا بد عادة أن يتلوه خداع النفس الذي سماه ربنا زيغ القلب الذي يتلو زيغ النفس الواعية، وهذا واضح في قصة بني إسرائيل الذين كذبوا موسى وهم يعلمون صدقه ثم خدعوا أنفسهم فأقنعوها أنه كاذب، قال تعالى عنهم: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَـٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوٓا۟ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ [الصف: 5].

 

في خداع النفس يقوم الجزء اللاشعوري في الكائن البشري باختيار ما يؤمن به، ويخدع الجزء الشعوري منه ليتقبل مااحتماله ضئيل ويرفض ما احتمال صحته هو الغالب. أي إن الإنسان يخدع جزءاً من نفسه هو في الأصل مصمم ليعمل وفق المنطق السليم الذي تتفق عليه عقول الجميع، فتتبنى هذه النفس المخدوعة ما شاءت من الاحتمالات وتبرر ذلك للوعي المنطقي بمبررات تسكته، وتريح الإنسان من الشعور بأي تناقض معرفي سيزعجه لو لم يتم خداع الشعور، الذي يميل بالفطرة إلى اعتقاد ما يغلب على ظنه، وإهمال ما قل احتماله وتضاءل. وبذلك يخدع الإنسان نفسه، ويمارس أقصى درجات الحرية التي أعطاه الله القدرة عليها.

 

ولنقرب ما يجري في عقل الإنسان وقلبه من اختيار حر لأحد المنظورين إما منظور الإيمان أو منظور الكفر ننظر إلى هذا الرسم البسيط الطريف المسلي الذي يرينا وهماً بصرياً illusion لكنه رائع في تمثيله لما يجري في النفس البشرية ليكون اختيارها للإيمان أو للكفر حراً حرية تامة وليكون الإيمان بالله ورسله فعلاً إرادياً وليس انفعالاً أي اقتناعاً لا نستطيع إنكاره.

 

تأملوا هذ الشكل وأخبروني ما الذي ترونه فيه؟ هل ترون وجهين متقابلين أم ترون مزهرية ولا وجوه معها، بينما عندما نرى الوجهين فإن المزهرية تختفي تماماً؟

 

Rubin's Vase

 

في هذا الشكل ميزة غير متوقعة وهي أن الناظر إلى الشكل لا يمكنه أن يرى الوجهين والمزهرية في الوقت نفسه، فالناظر حتى يرى الوجهين عليه أن يركز نظره فيهما وبذلك تختفي المزهرية وتصبح استمراراً للخلفية وكذلك إن رأى الناظر الوجهين استحال عليه رؤية المزهرية مع أنها قائمة أمامه، وبالتالي من يركز نظره على المزهرية يراها واضحة لكن يختفي الوجهان ويصبحان خلفية للمزهرية مستحيل رؤيتهما مع المزهرية في الوقت ذاته. الدلائل على وجود الخالق وظهور رعايته لما خلق بينما هنالك دلائل من صنع الخيال أن الحياة نشأت وحدها وتطورت حتى تكون البشر بكل طاقاتهم العقلية والبدنية. العلم يعتمد على الاستقراء ويعتبر الاحتمال الكبير الذي يبلغ خمسة وتسعين بالمئة على الأقل ويهمل ما قل احتماله عن خمسة بالمئة. إذن حتى في العلم الحديث لا يصل العلماء إلى اليقين الذي يختفي فيه احتمال ان يكون هنالك سبب آخر لنتيجة الدراسة اختفاءاً مطلقاً، إنما اتفق العلماء على اعتبار ما غلب على ظنهم حقائق واهمال ما قل احتماله كثيراً.

 

احتمال صحة ما ينادي به أنصار النشوء والتطور خالقاً بديلا عن رب العالمين احتمال ضئيل ومتناهٍ إلى صفر بالمئة ومع ذلك يتبناه الملحدون ويدعون أنهم هم العلميون بينما المؤمنون بالخالق خرافيون مع أن احتمال صحة دليل المؤمنين بالخالق عظيم يتناها إلى مئة بالمئة. واضح وضوح الشمس من هو العلمي ومن هو الخرافي.

 

الملحدون يؤمنون بنشوء الحياة بالصدفة وترى صدورهم منشرحة بادعائهم هذا حتى يقول ريتشارد داوكن "اللاشيء خلق كل شيء Nothing created everything" ويستغرب أن المفكرَين الذين كانا معه في الندوة يضحكان من قوله. لقد كتب هذا الملحد كتاباً يسمي فيه الإيمان بالخالق توهماً مرضياً Delusion كالذي نصادفه عند المرضى العقليين. المؤمنون يتبنون الرأي الذي احتماله تقريباً مئة بالمئة بينما احتمال نقيضه يكاد يكون صفراً بالمئة، والملحدون يتبنون النقيض وتعمى قلوبهم عن الاحتمال الذي يكاد أن يكون مئة بالمئة ويسفهونه ويسخرون ممن يؤمن به. قلت يؤمن وهنا بيت القصيد. حيث يؤمن المؤمن بفعل إرادي حر ولو كان لا شعورياً يؤمن بالذي غلب على ظنه ويعتبره يقيناً ويعيش حياته وهو يراه اليقين الذي يعلو على الشكوك. لذلك تأتي كلمة يظن في القرآن وتعني يؤمن لأن كل ما نؤمن به إيماناً هو ظن غالب وإيماننا يجعله يقيناً.

 

هذا الإيمان هو فعل حر إرادي يثاب المؤمن عليه ويعاقب منكره لأن حجة المنكرين داحضة من بعد ما استجيب لله وكانت آياته البادية لمن شاء أن يراها ويعقلها كافية لأنه شاء أن يؤمن. شاء ففاز والآخر شاء شيئاً آخر وخدع نفسه وأوهمها أنه الحق والعلم والتقدم ففاز بغضب الله ومقعد في النار.

 

لكن ما علاقة ذلك بالوجهين والمزهرية، هو مثال ملموس يساعدنا أن نفهم كيف لا يقيم المؤمن أي اعتبار لحجج الملحد ولا يكاد يراها، وكيف لا يرى الملحد وجاهة دليل المؤمن على الخالق، بل يكون مؤمناً بإلحاده ولا يراه إلا الحق تماما كما لا يرى من اختار الوجهين المزهرية مادام ينظر إلى الوجهين، والمؤمن لا يرى إلا المزهرية لأنه اختار أن يركز نظره فيها وتلاشى الوجهان في نظره.

 

إذن الإيمان والكفر عمل يقوم به الإنسان باختياره وإرادته الحرة:

  • "أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ إيمانٌ بالله، ثم صِلَةُ الرَّحِمِ، ثم الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكرِ. و أبغضُ الأعمالِ إلى اللهِ الإشراكُ باللهِ ثم قطيعةُ الرَّحِمِ" (أخرجه أبو يعلى)
  • "قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: الإيمانُ باللهِ. قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ثم مَهْ؟ قال: ثم صِلةُ الرَّحِمِ. قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الأعمالِ أبغَضُ إلى اللهِ؟ قال: الإشراكُ باللهِ. قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، ثم مَهْ؟ قال: قَطيعةُ الرَّحِمِ. قال: قُلتُ: ثم مَهْ؟ قال: الأمرُ بالمُنكَرِ والنَّهيُ عن المَعْروفِ". الراوي: رجل من خثعم الرباعي، فتح الغفار (٢١٢٩/٤) إسناده جيد)
  • قال أبو ذر رضي الله عنه: دخلْتُ على رَسولِ اللهِ ﷺ وهو في المَسجِدِ فاغتَنَمْتُ خَلْوتَه، فقالَ لي: «يا أبا ذَرٍّ، إنَّ للمَسجِدِ تَحيَّةً»، قلْتُ: وما تَحيَّتُه يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: «رَكعَتانِ»، فرَكعْتُهما، ثمَّ التفَتُّ إليه، فقلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّكَ أمَرتَني بالصَّلاةِ، فما الصَّلاةُ؟ قالَ: «خَيرٌ مَوْضوعٌ، فمَن شاء أقلَّ ومَن شاءَ أكثَرَ»، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الأعْمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قالَ: «الإيمانُ باللهِ»، ثمَّ ذكَرَ الحَديثَ إلى أنْ قالَ: فقلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، كمِ النَّبيُّونَ؟ قالَ: «مائةُ ألْفِ نَبيٍّ وأرْبَعةٌ وعِشْرونَ ألْفَ نَبيٍّ»، قلْتُ: كمِ المُرسَلونَ منهم؟ قالَ: «ثَلاثُ مائةٍ وثَلاثَ عَشْرةَ." رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن أبي ذر

 

16. الحب أساس الإيمان

من يستعرض القرآن الكريم يجد الحب هو الأساس الذي يقوم عليه الإيمان وليس الاقتناع العقلي، وهذا يؤكد حرية الإنسان حتى عقلياً في أن يؤمن أو يكفر، فهو إن أحب الله أقر بوجوده وآمن بكتبه ورسله، أما إن استحب غيره أي جعل غيره أحب إليه من الله، أطاعه عقله وصور له أنه على حق، فالله غير موجود أو من يدعي الرسالة كاذب.

 

17. تأليف القلـوب والإيمان

إذن الحب هو الدافع الأول للإيمان، الحب لله والحب للمؤمنين والحب للآخرة الباقية أكثر من الدنيا الزائلة. وهنا ندرك الحكمة من تخصيص جزء من الزكاة لتأليف قلوب غير المؤمنين، أي لكسب حبهم للمؤمنين، فيدفعهم هذا الحب إلى أن يروا الحق الذي في الإسلام، ويدفعهم إلى الرغبة في الانتماء إلى جماعة المؤمنين والانضمام إليها، وليس المال الذي يعطى لهؤلاء ثمناً لإيمانهم، فالله لا يريد منافقين مرتزقة، بل الهدف هو تأليف قلوبهم أي كسب محبتهم لنا، ونحن نعلم أن العطاء دون مقابل يستثير الامتنان والحب في القلوب السوية الكريمة لا القلوب الفاسدة اللئيمة، وهذا هو الهدف عادة من التهادي بين الناس، يقول الشاعر:

أحسِنْ إلى النّاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ          فطالَما استبَعدَ الإنسانَ إحسانُ

 

فالحب يولد في القلوب بفعل شيئين، أولهما الإعجاب وثانيهما الامتنان، والمؤمنون الذين يعيشون حياة اجتماعية وأخلاقية تستثير إعجاب الآخرين بهم، فإذا أحسنوا لهذا الآخر بإهدائه من مال الزكاة، ولم يطالبوه بشيء مقابله، فإن دوافع الحب تكون قوية لدى هذا الذي يتألفون قلبه، وهذا في الغالب يقود إلى إيمانه إيماناً صادقاً، ويكون بذلك إنقاذ له من النار. ولا يقتصر تأليف قلوب غير المسلمين على حال ضعف المسلمين وحاجتهم لكسب ود الآخرين، إنما تأليف القلوب يعطي أفضل النتائج عندما يكون المسلمون أقوياء ومستغنين عن غيرهم، وهذا يعني أن تأليف القلوب يبقى من مصارف الزكاة إلى يوم القيامة.

 

كل ما سبق يرينا أن الطريق إلى هداية الناس وإدخالهم في الإسلام يمر من قلوبهم دون أن يكون خالياً من المنطق العقلي، وإنما تبدأ الدعوة الناجحة إلى الله بتأليف قلوب المقصرين في دينهم أو غير المسلمين، تأليفاً ليس بالضرورة بالمال، بل بالاحترام والحب وحسن الخلق والإكرام وعدم التمييز ضدهم على أساس الدين، ولا بأس مع ذلك من تقديم الهدايا لهم وقبولها منهم ضمن إمكاناتنا المالية دون أن يشكل ذلك عبئاً علينا أو عليهم. والذي يجعل قلوبهم مفتوحة لدعوتنا، إدراكُهم أننا ندعوهم إلى الله حباً بهم وحرصاً عليهم، وليس لكسب لنا شخصي أو سياسي أو غير ذلك، وإذا ما شعروا أنهم إن آمنوا فسيحتلون المكانة التي يستحقونها بخصالهم التي يتميزون بها، وسيحظون بالتقدير الذي هم جديرون به، مما يقوي عندهم الدافع للانضمام إلى أمة الإسلام، وكل هذا يكون في أعلى درجاته عندما تكون أمة الإسلام عزيزة ومتقدمة.

 

ليس الإيمان والكفر مسألة قناعة عقلية، بل هما نتاج دوافع نفسية بحتة، وربنا يبين لنا كيف أنه قادر على أن يهدي الناس جميعاً دون إكراه لو شاء، وكيف أن الناس جميعهم قابلون للكفر إن كانت الفتنة في أشد درجاتها، وذلك حين يقول: ﴿وَلَوْلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةًۭ وَٰحِدَةًۭ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًۭا مِّن فِضَّةٍۢ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف: 33]أي: لو أعطى الله للكافرين في الدنيا كل ما يمكن أن نتخيله من النعيم والزخرف والرفاهية لأدى ذلك لأن يكون الناس أمة واحدة كلها كافرة، حيث سيحرص البشر كلهم على الحصول على هذه النعم والمتع، فتتغلب الدوافع إلى الكفر على الدوافع إلى الإيمان في نفوسهم، فتزيغ قلوبهم عن الحق، وينساقون مع الهوى فيضلون جميعهم.

 

يقول الله تعالى إن النفوس مفطورة على حب الشهوات والافتتان بها: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلْمَـَٔابِ [آل عمران: 14]وبالطريقة نفسها يمكن أن يهدي الله الناس جميعاً، لكنه يريد منا الإيمان الذي يكون بمحض حريتنا، حيث تبقى الدواعي إلى الإيمان والدواعي إلى الكفر متساوية، كي يظهر موقفنا الحقيقي من ربنا، هل نشكر أم نكفر دون إغراء لا يقاوم لا بالإيمان ولا بالكفر، لا بفتنتهم بالعطاء غير المحدود لكل من يكفر، ولا ترهيبهم بالعذاب يرونه واقعاً عليهم ما لم يؤمنوا، وعندها لا يكون إيمانهم بالغيب، إذ يصبح عسيراً على عقولهم أن تخدع نفسها وتشرح صدورهم بالكفر، وهذا كان حال فرعون الذي آمن وهو يغرق فلم ينفعه إيمانه بعد أن فات الأوان، وكذلك كل الأمم التي عذبها الله في الدنيا بسبب فسوقها وكفرها، إلا أمة واحدة هي أمة يونس التي آمنت بعد أن رأت العذاب فكشفه الله عنها. يقول تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَـٰنُهَآ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُوا۟ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَـٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍۢ (98) وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَـَٔامَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا۟ مُؤْمِنِينَ (99)﴾ [يونس: 98 - 99].

 

18. حرية رغم المعجزات

ويبقى السؤال: أليس في المعجزات التي يأتي بها الرسل إكراه لعقول الناس على الإيمان، إذ كيف يكفرون بعد أن يروا معجزة رسولهم؟

 

هذا صحيح والإيمان بعد رؤية معجزة لا يكون إيماناً بالغيب حقيقة، لأنه لا يشترط أن نرى الله بأعيننا، المهم أن نرى أفعاله التي تدل عليه متجاوزة طبائع الأشياء ومستعلية على القوانين الطبيعية. وهنا تتجلى حكمة ربنا في إنزال ملائكة يعلمون الناس السحر الذي يتم فيه تجاوز القوانين الطبيعية تجاوزاً ظاهرياً، حيث يستطيع السحر أن يخلق صورة تراها عقولنا وتصورها آلات التصوير لأشياء لا وجود حقيقياً لها.

 

وبانتشار السحر في الأرض لم تعد معجزات الرسل قاهرة للعقول، بل يبقى للعقول حريتها، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فالذي لا يريد أن يؤمن يقول عن المعجزة إنها سحر لا أكثر، وإنها لا تثبت شيئاً مما يدعيه الرسول لكن سحرة فرعون الذين كانوا منيعين على السحر، ولا يستطيع ساحر أن يوهمهم بشيء، ما كانت لهم حرية عقلية، وما كان لهم بد من أن يؤمنوا بالله عندما رأوا عصا موسى تتحول إلى أفعى حية حقيقية تلقف وتأكل ما صنعوا من السحر، بينما انطلى سحرهم على موسى وأوجس خيفة عندما رأى حبالهم وعصيهم تنقلب حيات وأفاعي تسعى أمامه. لذلك قال ربنا عن السحرة عندما رأوا معجزة موسى وتيقنوا أنها معجزة حقيقية ﴿... فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدًۭا...﴾ هم ما كان لهم أن يفعلوا غير ذلك، أي السجود لله. وكان إيمان السحرة وثباتهم عليه رغم العذاب والموت الذي توعدهم به فرعون دليلاً للناس الذين يشاهدون المباراة بين موسى والسحرة، كانت تلك هي المعجزة التي تُطمئن من يريد الإيمان، أن موسى رسول الله حقاً، ويبقى للمكابر أن يقول ويقنع نفسه أن الأمر كان مؤامرة، اتفق فيها موسى كبير السحرة مع السحرة، كي يُخرجوا الناس من دين آبائهم.

 

وهكذا يبقى المجال لخداع النفس مفتوحاً ويبقى الإيمان اختيارياً مئة بالمئة، اي كانت معجزة موسى مُلْزمة لعقول السحرة دون باقي الناس الذين شاهدوها.

 

قال تعالى: ﴿قَالُوا۟ يَـٰمُوسَىٰٓ إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا۟ ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ (66) فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِۦ خِيفَةًۭ مُّوسَىٰ (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْأَعْلَىٰ (68) وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوٓا۟ ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا۟ كَيْدُ سَـٰحِرٍۢ ۖ وَلَا يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ (69) فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدًۭا قَالُوٓا۟ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـٰرُونَ وَمُوسَىٰ (70) قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُۥ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـٰفٍۢ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًۭا وَأَبْقَىٰ (71)﴾ [طه: 65 - 71].

 

وقال عن السحر ومن أين جاء: ﴿وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتْلُوا۟ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُوا۟ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌۭ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦ ۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشْتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِى ٱلْـَٔاخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍۢ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا۟ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ (102) [البقرة: 102].

 

ويخبرنا ربنا أن الكفار المعاندين لن يؤمنوا، حتى لو فتح الله لهم باباً من السماء يصعدون فيه، فسيقولون ما هذا إلا سحر أو سُكْر. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِۦ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًۭا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَظَلُّوا۟ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوٓا۟ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَـٰرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌۭ مَّسْحُورُونَ (15)﴾ [الحجر: 13 - 15].

 

حرص ما بعده حرص على بقاء الناس أحراراً في أن يؤمنوا أو أن يكفروا وعلى أن يبقى إيمانهم بالغيب. وإن كان سبحانه قد قبل إيمان بعض من فقدوا كثيراً من قدرتهم العقلية على الكفر، مثل قوم يونس وسحرة فرعون، أو مثلهم المشركين العرب الذين بقوا على الكفر إلى أواخر حياة محمد فأمر الله بقتالهم وقتلهم ما لم يؤمنوا، وبالمقابل هو لن يحتسب الكفر على أي مكره طالما كان قلبه مطمئناً بالإيمان مهما صدر منه من أقوال أو أفعال كفرية.

 

19. من شاء فليؤمن

الإنسان خلق للخلافة في الأرض وهو أهل لها من جميع النواحي وبخاصة الناحية العقلية والنفسية، وأساس هذه الأهلية حريته العقلية في أن يؤمن أو أن يكفر، وفي أن يطيع الله أو أن يعصيه، لكنه محاسب يوم القيامة عن ذلك: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

 

الإنسان مأمور بالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر، لكن له الحرية أن يؤمن أو ألا يؤمن، وهو الذي يختار متى يؤمن إن كان ما يزال حياً، وله الحرية أن يلتزم بما يشاء من أوامر رب العالمين، إلا الأمور التي إن لم يلتزم بها تسببت بالضرر للمجتمع، فيجبره المجتمع على التقيد بها إن كان يريد البقاء في هذا المجتمع واحداً منه، وإلا فليخرج منه وليفعل بعيداً عنه ما يشاء، وفي يوم القامة يحاسبه الله عن كل شيء طالما فعله بحرية ودون إكراه. يقول تعالى: ﴿لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَا ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 256]وقال في سورة الكهف: ﴿وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا۟ يُغَاثُوا۟ بِمَآءٍۢ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ جَنَّـٰتُ عَدْنٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلْأَنْهَـٰرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍۢ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًۭا مِّن سُندُسٍۢ وَإِسْتَبْرَقٍۢ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلْأَرَآئِكِ ۚ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًۭا (31)﴾ [الكهف: 29 - 31].

 

ولنتأمل كيف توعد الله من يكفر عندما أعطاه الخيار، وكيف أكثر في وصف ما أعد من الخير لمن يؤمن يوم القيامة. إنها حرية لا تنفك عن المسؤولية، كما لا ينفك وجها عملة واحدة عن بعضهما.

 

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة