المقالات
الإسلام والديمقراطية والديمقراطية الإسلامية
Whatsapp
Facebook Share

الإسلام والديمقراطية والديمقراطية الإسلامية

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف

فصول من كتاب «الميزان: تجديد نظرية الإسلام السياسية»


 

- الإسلام والديمقراطية

  1. تعريف الديمقراطية
  2. الاستقلالية المنقوصة
  3. اللاعبودية حرية
  4. فطرة الاستقلالية
  5. الحرية والديمقراطية
  6. لا إكراه في الدين
  7. أمة بلغت رشدها
  8. التعددية التشريعية
  9. احترام مقدسات الآخرين
  10. لكل مواطن طائفته
  11. حقوق مدنية متساوية
  12. السلطة الرابعة دينية
  13. بين الشورى والديمقراطية
  14. الشورى الملزمة هي الديمقراطية بذاتها

- الديمقراطية الإسلامية

 

الإسلام والديمقراطية

1. تعريف الديمقراطية

عرف أحدهم الديمقراطية أنها «حكم الشعب بالشعب وللشعب». أي يكون الشعب ولي أمر نفسه، ويتولى سياسة نفسه بنفسه، ويسعى لمصلحة نفسه بالدرجة الأولى.

 

2. الاستقلالية المنقوصة

كلنا أتى إلى هذه الحياة طفلاً لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء، واحتجنا إلى من يربينا صغاراً، وهما عادة الوالدان. طفولة الإنسان طويلة تمتد حتى عمر خمس عشرة سنة، حيث يتزامن البلوغ الجنسي والبلوغ العقلي، لكن يبقى الوصول إلى الرشد في حاجة إلى سنين أخرى. وطيلة طفولة الإنسان يكون أبوه ولي أمره، يتولى شؤونه كلها ويضبط سلوكه ويتصرف بأمواله إن كان له مال أو ميراث. كل ذلك حرصاً عليه وعلى ما ينفعه، فالوالدان يقدمان لأولادهم ما يستطيعان، ويسعدان برؤيتهم في أحسن حال. وفي عمر خمس عشرة سنة يبلغ أغلب البشر عقلياً وجنسياً. في مجتمعات القبائل والأمم السابقة يدخل الصبي ببلوغه عالم الرجال وتدخل البنت عالم النساء، فيحملان مسؤولية الكبار ويعطيان امتيازات الكبار. لكن يبقى التصرف بالمال مؤجلاً حتى يصل الإنسان سن الرشد، الذي تعتبره قوانين أغلب دول العالم 18 سنة.. ولما كان الناس ينمون وينتقلون من طور إلى آخر كلٌّ بسرعته الخاصة لم يحدد ربنا عمراً يعتبر فيه الجميع راشدين يمكنهم التصرف بأموالهم، بل أمر أن نختبر اليتيم من الناحية العقلية، فإن آنسنا منه رشداً بما يكفي ليتصرف بأمواله بحكمة، توجب علينا دفعها إليه، وإلا ننتظر حتى يكبر ويرشد أكثر.

 

اعتاد الوالدان في كل الحضارات القديمة أن يتخذوا القرارات المهمة بدلاً عن أولادهما، وفي الغالب يتقبل الولد ذكراً كان أو أنثى ما يختاره له والداه مهما كان كبيراً.. كان الوالدان يختاران لابنهما زوجته ولابنتهما زوجها، ويختاران لأبنائهما المهنة التي سيعملون بها، والدار التي سيسكنون فيها، وأموراً كثيرة يتولى الوالدان زمامها لأنهما أكثر خبرة في الحياة وأكثر حكمة. كان ذلك مفيداً في أغلب الأحيان للأبناء والبنات، لكنه كان على حساب استقلاليتهم وحريتهم في الاختيار. وبالتأكيد كان هنالك من يتمرد ويصر أن يختار لنفسه، لكنه كان الاستثناء لا القاعدة.

 

كانت عقلية تولي الكبير أمر الصغير عامة، وكان الحاكم بمثابة أب للجميع، وولي أمرهم، يتدخل فيما يشاء من شؤونهم، فيكافئ أعمالهم التي ترضيه، ويعاقب من يتمرد على سلطانه، وكان الناس يرون ذلك طبيعياً. الملك في أمة هو المالك لكل شيء فيها، وهو السيد والرعية أقرب للعبيد مع أنهم أحرار وليسوا مملوكين لأحد، إلا ملكهم الذي لا يملكهم بشكل رسمي كما يملك عبيده، لكن عليهم طاعته في كل شيء كما لو كانوا عبيده، وكثيراً ما كان الأمر يصل حد إضفاء صفات إلهية على الملك، وأحياناً عبادته.

 

طاعة الفرد لسلطة المجموع المتمثلة بالملك أو شيخ القبيلة أو كبير العائلة كانت واجبة، ونادراً ما يتجرأ أحد على تحديها. من يُطِع يتلقى الرعاية والحماية وتقف القبيلة معه في أي نازلة، ويشعر هو بالعزة من انتمائه إليها، فيتوحد معها، ولا يخطر بباله أن يستقل عنها. كانوا يتنازلون عن قدر كبير من حريتهم واستقلاليتهم مقابل أن تحتضنهم أسرهم وعشائرهم وملوكهم، وأن يحصلوا على فوائد عضويتهم في الأسرة الكبيرة أو العشيرة أو القبيلة أو القوم، أما من كان يخرج عن سلطة قبيلته فيتشرد، وتنبذه قبيلته ويسمى صعلوكاً عند العرب.

 

3. الـلاعبودية حرية

كان مفهوم الحرية أنها نقيض العبودية، (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) أي إن لم تكن عبداً مملوكاً فأنت حر، وخضوعك للأعراف والتقاليد التي تفرض عليك ما تفعله في أكثر المواقف الحياتية، وأن تكون نسخة عن باقي أبناء القبيلة أو البلدة لم يكن يتنافي مع كونك حراً. قالوا: "وبضدها تتميز الأشياء"، وقد كان الضد للحرية ضداً فاقع اللون لا تخطئه العين، كان هذا الضد هو العبودية وأن يكون الإنسان ملكاً لغيره يبيعه ويشتريه ويفرض عليه ما يشاء.. كانت صورة صارخة لغياب الحرية ما عاد الخضوع للتقاليد أو لشيخ القبيلة أو لأمير البلاد يمثل إزاءها إلا قمة الحرية.

 

كان الناس راضين ومتكيفين مع العيش بحرية منقوصة كما يعيش الأولاد في كنف والديهما. ثم جاء الإسلام ومعه اندفاع المسلمين الأوائل في جميع الاتجاهات لهداية الناس، كل الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكان طبيعياً جداً أن يصل حرص المسلمين المهتمين بأمر دينهم وأمتهم لحد أن يمارسوا دوراً مباشراً في عملية الضبط الاجتماعي، وأن يستشعروا وصاية على الناس كي يلزموهم بما أمر الله، لتكون بذلك نجاتهم من النار إلى الجنة. وجاء الأمر بإكراه المشركين العرب على الإسلام بحد السيف، ومتابعتهم للتأكد أن إسلامهم حقيقي من خلال التزامهم بالصلاة والزكاة وهما عبادتان منظورتان، لذا كان النبي ﷺ يرسل أصحابه ويأمرهم أن لا يغيروا على قبيلة من العرب قبل أن يتريثوا ويرصدوا، فإن كانت الصلاة تقام في ديار تلك القبيلة رجع الصحابة دون أن يهاجموهم، وإن كانت لا تقام ولا يؤذن لها دل ذلك على أنهم مصرون على شركهم وعندها تتم مهاجمتهم.

 

يكاد لا يذكر الإيمان في القرآن الكريم إلا مقروناً بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما كان مجرد الإيمان لا يعصم دماء مشركي العرب، بل لابد مع إعلانهم الإسلام من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولهذا لم يتردد أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة مع أنهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله ويقيمون الصلاة. كان الدخول في الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلزامياً لكل عربي مشرك في عهد الرسول ﷺ، فالمشركون العرب هم الوحيدون الذين استثناهم ربنا من مبدأ لا إكراه في الدين كي يمكّن للإسلام والمسلمين في أرض العرب، فتكون لهم دولة قوية تحمي القرآن والإسلام من التحريف.

 

هذا الأمر الرباني بإلزام المشركين العرب بالدين الإسلامي، مع عدم اعتبار تدخّل حكام الشعوب بشؤونها وفرضهم قواعد سلوك معينة عليها، مساساً بالحرية التي كان يكفي الإنسان منها في تلك الأزمنة أن لا يكون عبداً مملوكاً مثل ملايين البشر الأرقاء من حوله، كل ذلك جعل المسلمين الأوائل ينهجون نهج الإلزام للمسلم بكل ما ثبتت فرضيته أو تحريمه في الإسلام، وتراجعت "لا إكراه في الدين" ليُقصَر معناها على عدم إكراه أحد من غير المسلمين على الدخول في الإسلام، لكن بمجرد أن يدخل في الإسلام ويشهد الشهادتين يكون قد قبل بالالتزام بفرائض الإسلام وبأن يُكْره عليها إن هو قصر فيها. هو لا يُكْره على الدخول في الإسلام وله حرية البقاء على دينه إن هو دفع الجزية، لكنه ليس له الحرية في الدخول في الإسلام دون التزام بتعاليمه، وليس له الحرية أن يخرج منه بعد أن دخل فيه. صار ولي الأمر ومن يوكله من قضاة ومحتسبين وغير ذلك مسؤولين عن أداء المسلمين لعباداتهم، وعن امتناعهم عن المحرمات الكبرى كالزنا وشرب الخمر. بدت هذه المسؤولية التي تحمّلها ولي الأمر بوصفه خليفة رسول الله ﷺ وكأنها امتداد لوجوب ضرب أولادنا الذين بلغوا العاشرة إن هم لم يؤدوا الصلاة. هو إلزام نابع من الحرص عليهم ومن الحرص على تطبيق تعاليم الدين بحذافيرها.

 

ومع الحركة الفقهية التي أتت بعد الرسول ﷺ بعدة أجيال، والأخذ بعموم اللفظ لا بخصوصية السبب، أي ما كان النص الشرعي يفهم دائماً في سياقه، بل الأصل أن يعتبر تشريعاً لحكم فقهي يسري على المسلمين في كل زمان ومكان إلى يوم الدين، تم الإبقاء على حكم قتل من يرتد من المسلمين، وبالحكم نفسه يقتل تارك الصلاة. لقد نشأ الفقه الإسلامي بروح أبوية تشجع الكبير على إلزام الصغير بما ينفعه في الدين والدنيا، فصار الإنسان يكبر ويبلغ الرشد، فيتحرر نسبياً من ولي أمره الأول الذي هو أبوه، لكنه يبقى تحت ولاية أمير المؤمنين بحكم أنه ينوب عن رسول الله ﷺ الذي كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أي من بعضهم بعضاً. اختلط مفهوم ولي الأمر في الأمة بمفهوم ولاية الكبير على الصغير. فكان ولي الأمر بمثابة الوالد الذي له صلاحيات كثيرة على ولده.

 

4. فطرة الاستقلالية

تغيرت البشرية بعد مرور القرون وتقدم العلوم وشيوع الدعوة إلى الحرية وإعلاء قيمتها فوق الكثير من القيم. ابن آدم مفطور على الاتباع، ومفطور أيضاً على الاستقلالية، وظروف النشأة والبيئة الاجتماعية تشجع لديه أحد الميلين، بحيث يصبح غالباً عليه ومنسجماً معه. العصور السابقة كانت تشجع على الاتباع والطاعة والانقياد لمن هم موضع إجلال أو تقديس، وما زالت الحال كذلك إلى حد ما لدى شعوب جنوب شرق آسيا. بالفطرة أيضاً هنالك عشرة بالمئة من البشر يأنفون الطاعة والانقياد والاتباع، ولديهم ميل زائد إلى الاستقلالية والشعور أنهم لا يفعلون إلا ما هم مقتنعون به أو راغبون فيه، وهؤلاء من المستبعد أنهم كانوا منسجمين مع أن يكون للإنسان ولي أمر طيلة حياته، لكنهم أقلية على كل حال.

 

في هذا الزمان تغذي الثقافة النزوع والميل إلى الاستقلالية، التي هي في الأصل فطرة إنسانية، لأن الحرية أصبحت مقدسة، ولم تعد هي مجرد ألا يكون الإنسان عبداً مملوكاً لغيره، بل هي حرية فردية في جميع مجالات الحياة. حرية في التفكير والاعتقاد، حرية في تحديد أهداف الإنسان في حياته، والمهنة التي سيعمل بها، والتوجه السياسي الذي سيناصره، والهوايات التي سيستمتع بها، والكتب أو البرامج التي سيطالعها، واختيار الزوج أو الزوجة التي يريد أن يقضي عمره معها، وغير ذلك كثير من تفصيلات الحياة اليومية بكل أبعادها العاطفية والسلوكية والمعرفية الفكرية.

 

صار أغلب الناس وخاصة في الثقافة الأوربية وفي الشعوب التي تفاعلت معها وتأثرت بها لا يحبون أن يُملي عليهم أحد ما يجب أن يفعلوه أو يعتقدوه أو يحبوه. صار حب الاستقلالية Autonomy شائعاً جداً تحت مسمى الحرية الفردية، وبدأت تظهر على الكثيرين ردود الفعل على تعرضهم لقيود لا يرضون عنها في حياتهم، وصار كل ممنوع مرغوباً، وظهر السلوك الضدّي oppositional حيث يميل الشخص إلى عكس ما يؤمر به، ما لم يشعر أنه حر في الأخذ به أو في تركه. لم تعد الحياة تحت خليفة يمسك عصاه ويضرب بها من أخطأ أو أساء حلماً إلا لقلة من المؤمنين الصالحين الصادقين في رغبتهم في العيش في ظل الشريعة وفي إعادة التاريخ المجيد لأمتنا. هؤلاء يضحون بأية نزعة استقلالية لديهم في سبيل الله وفي سبيل تحكيم شرعه وإظهار دينه على الدين كله. روحهم روح الجندي المتفاني المتجرد الذي يضحي بكل شيء في سبيل ما يجاهد من أجله لا يهمه إلا أن يفوز برضا الله وجنته. هؤلاء المخلصون يظنون أن أي ممانعة عند باقي الأمة للالتزام بشرع الله إنما هي نابعة من فسقهم وربما كفرهم وإشراكهم، لذا هم على استعداد أن يعيدوا من انحرف من الأمة إلى طاعة الله ولو بالقوة والإكراه.

 

وما المشكلة في ذلك طالما سنجبر الناس على ما فيه خيرهم دنيا وآخرة؟

 

إننا نتعامل مع النفس الإنسانية التي خلقها الله للعبادة والانقياد له، وفي الوقت نفسه لخلافته في الأرض وتحقيق صفاته في سلوكها وشعورها وتفكيرها. ربنا الذي خلق هذه النفس المستخلفة أخبرنا في كتابه الكريم أنه لو شاء لهدى الناس جميعاً، لكنه لم يهدهم، لا لأنه يريد أن يضلهم ويملأ جهنم بهم، بل لأنه يريد أن لا يُكْرِههم على شيء، ويريدهم أن يؤمنوا به، ويحبوه، ويطيعوه، التزاماً من أنفسهم، لا إلزاماً يفرض عليها من خارجها، أي يكون إكراهاً وإجباراً. ولهذا قال: (لا إكراه في الدين)، قالها كمبدأ، والمبادئ لا تنسخ، لكن قد يستثنى منها بعض الحالات لاعتبارات معينة، وهذا ما حدث عندما أمر ربنا بقتال كل من يأبى الدخول في الإسلام من العرب المشركين الذين كانوا في عصر الرسالة وفيهم بعث محمد ﷺ، من كان منهم في أرض العرب لا خارجها. لقد تم استثناؤهم من "لا إكراه في الدين" لمصلحة عظيمة، فكانوا محظوظين أن أكرهوا على الإسلام لتكون نجاتهم من النار التي لابد لكل مشرك من دخولها إن هو مات على الشرك. لكن باقي البشرية ليست محظوظة مثلهم، بل لها مطلق الحرية، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ومن شاء أن يبقى في الهداية، ومن شاء أن يرتد ويخرج منها.. البشرية محظوظة بالتكريم الذي كرمها الله به فاحترم حرية كل فرد منها ولم يجبره ولا حتى عقلياً على الإيمان به والدخول في دينه. مقابل هذه الحرية مسؤولية ومحاسبة دقيقة وعذاب السعير لكل من بلغته الهداية بَيِّنة وأصر على ضلاله.

 

5. الحرية والديمقراطية

يعيش الناس في الدول الغربية حرية على كل المستويات، لعل البشرية لم تصل إليها من قبل. حرية جاءت بعد الانتصار على الكنيسة التي كانت تفرض سلطتها وتحكمها على الجميع، ابتداء بالفلاح البسيط وانتهاء بالأمير والملك، باسم الإله، ومن أجل الخلاص في الدنيا والآخرة. هذا الكبت للحريات الذي مارسته الكنيسة هناك ساهم كثيراً في نفور الأوربيين من الدين، وفي انتشار الإلحاد المتذرع بالعلم بينهم، لذلك عندما انهزمت الكنيسة، كانت الحرية المطلوبة حرية متطرفة، وصلت حد المجاهرة بتحقير المقدسات والسخرية منها، وإلى حد ممارسة الجنس بلا استتار في الحدائق العامة. هي انفلات من كل قيد جاء كرد فعل على القهر والكبت والتحكم الطويل، وكان مقصوداً، وكأن غايته إغاظة الكنيسة بتعمد تدنيس كل ما تقدسه، والتمرد والخروج على كل خُلُق كانت الكنيسة تفرضه عليهم. لم تقتصر الحرية على السلوك الشخصي، بل أصبحت الحرية ديناً وغاية بحد ذاتها، فبررتها الفلسفات والآداب والفنون، ورسختها القوانين التي أعطت الجميع حرية مطلقة في التعبير، وحرية مطلقة في العمل السياسي السلمي، وهما صنفان من الحرية تعاني الشعوب المسلمة من الحرمان منهما والتشوّق لهما. تقاربت المسافات ووجد الكثيرون من المسلمين الفارين من الظلم والقهر والكبت في بلادهم ملاذاً، بل فردوساً دنيوياً في أوربا وأمريكا. ثم جاءت الفضائيات والإنترنت لتصبح الأرض قرية واحدة يتواصل الناس فيها بيسر وسهولة بالصوت والصورة والبريد وكل ما يخطر على البال من طرق التواصل. ومخطئ من يظن أن هذا كله لم يوقظ في الشعوب المسلمة حبها الفطري للحرية الفردية والاستقلالية، لكن المؤمنين فيها وأكثر المسلمين مؤمنون ولله الحمد يحلمون بنسخة إسلامية من الحرية التي ينعم بها الغربيون. يريدون إيجابياتها دون أن يخسروا دينهم وإيمانهم وعفافهم، فهم في الوقت ذاته عائدون إلى دينهم وإيمانهم الذي انتقضت عراه كلها، حتى صار نقاشنا مع زملائنا لما كنت في المرحلة الثانوية حول وجود الله أو عدمه.. لكن بفضل الله ونعمته قطعت الأمة شوطاً كبيراً في العودة لدينها وبالتالي انعقاد عرى الإسلام من جديد. عاد لنا انتماؤنا للإسلام وكثيرون منا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، وأقل منهم المتخلقون بأخلاق الرسول ﷺ لكنهم في ازدياد. وعاد الكثير من شباب الإسلام إلى الجهاد في سبيل الله والحرص على الاستشهاد فيه، وإن كان انتشار الأفكار التكفيرية واستباحة دم من يعتبرونه كافراً أو مشركاً قد أفسدت قدراً كبيراً من هذه العودة إلى الجهاد. كما نشطت جماعات وأحزاب إسلامية تدعو إلى عودة الخلافة وإلى تحكيم شرع الله، ونجحت في بعض البلدان في الوصول إلى الحكم لتحقيق أحلامها، فكان نموذج الجمهورية الإسلامية الإيرانية بديمقراطية منقوصة واستبداد فقيه لم ينتخبه الناس، بيده كل القرارات المصيرية. ثم جاء نموذج طالبان في أفغانستان الذين أعطوا صورة مخيفة للشعوب المسلمة عما يمكن أن يكون حالهم لو وصل الإسلاميون إلى الحكم وطبقوا شرع الله عليهم. كان الطالبان مخلصين للدين كما يفهمونه ففرضوا على الناس قيوداً كثيرة في أمورهم الشخصية على أنها شرع الله الذي يجب أن نخضع الناس له كما فعل المسلمون الأوائل.

 

ضاعت حسناتهم بسبب هذا التطبيق الذي يريد أن يعيد التاريخ بحذافيره دون مراعاة أحوال المسلمين وتغيّرهم في هذا العصر. في السعودية نموذج ثالث للدولة الإسلامية أكثر أصالة وأطول عمراً من نموذج إيران وطالبان يزيد عمره على مئتي عام. هو نموذج يتخذ من الحياة الإسلامية المأثورة من عهد الراشدين وما بعدهم الأسوة ولا يتمتع فيه الناس بالحرية نفسها التي يتمتع بها الأوربيون والأمريكيون.. لكن المجتمع السعودي القَبَلي الأصيل الذي مازالت فيه القيم القَبَلية العربية حية وفعالة، منسجم مع هذا النمط من تحكيم الشريعة بما فيه من قيود على الحياة الشخصية، لأن حياة العربي في قبيلته هي حياة التزام وتقيد بأعرافها، فالكل ينشأ عليه ومتعود عليه ومتقبل له ويرفض الخروج عنه. السعوديون سعداء بدولتهم الإسلامية، لكن باقي الشعوب المسلمة لا تحلم بنفس النمط من حكم الإسلام. الغالب في تلك الشعوب أنها لم تعد قبائل، ولم يبق لديها الكثير من التقاليد، بل احتكت بالأمم الأوربية منذ قرون، وتأثرت بتقدمهم الدنيوي وبالحريات التي يتمتعون بها. المسلمون في الغالب يريدون مجتمعات بنظافة المجتمع السعودي من حيث السلوك والعبادات ويريدون في الوقت نفسه حرية فردية لا تقل عن حرية الأوربي والأمريكي... فهل هذا ممكن؟

 

الحرية في المجتمعات الأوربية لم تزدهر إلا مع الديمقراطية، وبالمقابل لا معنى للديمقراطية دون حرية حقيقية. وكلتاهما تتعارضان مع مسلمات لدينا نراها أساسيات في ديننا وهي الاعتقاد أن الحاكمية لله وأنه لا حكم لسواه، وحد الردة، وتكفير من يطالب بأي شرع غير شرع الله، ولزوم تطبيق الحدود كما كانت تطبق في عصور الإسلام الأولى: فتقطع يد السارق ويرجم الزاني المحصن ويجلد شارب الخمر ويقتل من يعمل عمل قوم لوط وغير ذلك. نقول إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فكيف نوفق بينه وبين الديمقراطية والحرية الفردية لننشئ دولاً إسلامية معاصرة لا كالتي أنشأها الطالبان ولا كالجمهورية الإسلامية في إيران؟ هل يتسع الإسلام لنموذج للدولة الإسلامية تحقق للمسلمين حلمهم بالجمع بين أحسن ما في الحضارة الغربية المعاصرة وديننا الحنيف؟ أم لا مخرج إلا أن يتخلى المسلمون عن أحلامهم ويستسلموا للعيش كما كان يعيش أسلافهم ليكونوا في المآل من أهل الجنة؟

 

كثير من الإسلاميين يرون أنه لا مناص من تخلي الشعوب المسلمة عن أية أحلام بحياة تقلد بها الكفار في ديمقراطيتهم وحريتهم الفردية، وعليها العودة إلى حظيرة دين الله وشرعه، ولا يرون مشكلة في أن يفرضوا ذلك على هذه الشعوب فرضاً إن كتبت لهم الغلبة وصار حكم البلاد بأيديهم.

 

لكنني أعتقد أن ديننا مثلما استوعب طريق الأوائل في الحكم قادر على استيعاب المفاهيم والقيم العصرية، ويمكننا الجمع بين الديمقراطية والحرية والدين الإسلامي جمعاً لا يكون على حساب أي منها.

 

6. لا إكراه في الدين

لابد لنا من أجل ذلك أن نعيد الاعتبار لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) ولا نقصرها على نفي الإكراه في الدين قبل أن يدخل الشخص في الإسلام، بل لا إكراه في الدين قبل أن يدخل في الإسلام وبعده، ولا إكراه في كل مجال متعلق بالدين، إنما هي دعوة بالحكمة وبالتي هي أحسن، ويبقى الذي ندعوه حراً في أن يستجيب لما ندعوه إليه أو أن لا يستجيب. هذا ليس تهرباً من استحقاقات ديننا لنرضي الناس كي يتقبلوا حكم الشريعة، هذه عودة إلى الأصل في فهم هذه الآية الكريمة التي تعلنها مطلقة غير مقيدة: لا إكراه في الدين. هكذا تفهم النصوص، هي على ظاهرها وعلى إطلاقها ما لم يكن هنالك قرينة على غير ذلك سواء نص آخر في نفس قطعية النص الذي نفهمه أو السياق النصي أو التاريخي له. إنما الأصل أن نفهم من قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) أنه لا إكراه في كل ما هو دين. فلا نكره أحداً على الدخول فيه ولا نكره أحداً على البقاء فيه، كما لا نكره أحداً على الالتزام بشيء منه إلا ما يتعدى تأثيره وضرره إلى الآخرين فعندها نكرهه على أمور محددة لدفع ضرر معصيته عن المجتمع، كأن نكرهه على ألا يسرق، أو نكرهه على أن لا يعتدي على غيره بلسانه أو يده أو بأي شيء آخر.. أو نكرهه على أن لا يستعلن بالسكر أو الزنا وعلى أن لا يعتدي على أعراض الناس بقذف أو مسبة أو بهتان. أو نكرهه على أن يمتنع عن ترويج ما يؤذي غيره في صحته أو ماله أو علاقاته مثل العقاقير التي تسبب العداوة والبغضاء والإدمان. وكأن نكرهه على أن يؤدي زكاة ماله لأنها حق للفقراء علينا تحصيله وإيصاله لهم.. لكننا لا نتدخل في أي أمر ديني ضرره لا يتعدى صاحبه، بل نكتفي بالموعظة الحسنة.

 

نعم نُكرهه على فعل ما يتضرر الآخرون بتركه له، وعلى الامتناع عن ما يضرهم إتيانه له، لكن من نحن الذين سنكرهه على ذلك؟ ليس لفرد الحق في إكراه غيره إلا من كان منهم تحت سلطانه المباشر كالوالدين اللذين يُكرهان أولادهما دون البلوغ على الصلاة، وكصاحب العمل الذي من حقه أن يتحكم بمكان العمل وشروطه وسلوك العاملين فيه الذي يؤثر على الآخرين. أما باقي الناس فالذي يُكرههم هي الأمة ممثلة بحكومتها التي تعمل وفق القوانين التي أقرتها الأمة التي لا حق لأحد أن يكرهها على سن قانون معين، بل يدعوها إليه ويرغبها به ويبين لها أضرار تعطيله وفوائد تطبيقه، ثم يسألها إن كانت تريد أن تلتزم به، وبالطبع السؤال يكون عن طريق استفتاء الأمة كلها أو ممثليها المنتخبين.

 

هذا يعني أن للأمة الحق في أن تفرض تحكيم بعض الشريعة أو كلها...!

 

لم يسبق للمسلمين أن تركوا لأحد منهم حرية أن يختار الشريعة أو أن يرفضها، فهل يجوز هذا التخيير ونحن نقرأ آيات الله التي تُكَفِّر وتُفَسِّق من لم يحكم بما أنزل الله، وتنفي أن يكون لمؤمن أو مؤمنة الخِيَرة إذا قضى الله ورسوله أمراً.

 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً{36}﴾ [الأحزاب: 36].

 

والجواب سؤال مقابل: ألا يحرم علينا أن نكره مشركاً أو ملحداً أو كتابياً على الدخول في الإسلام؟ وهل هنالك ذنب أكبر من الشرك بالله؟ ومع ذلك لا يحل لنا إلا أن ندعوه بالحكمة والموعظة الحسنة ونتألف قلبه لعله يتذكر أو أن يخشى. فإن رفض فله الحق في أن يرفض وهو حر في أن لا يستجيب لكنه محاسب ومسؤول. احترام حريته في أن يؤمن أو أن يكفر وفي أن يلتزم أو أن يتفلت لا يعني أن كفره أو تفلته وفسقه حلال له. الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن، ولا خيرة لمؤمن أن لا يلتزم بهما، أي لا خيرة له إن أراد أن يبقى ضمن دائرة الإيمان، أو إن أراد أن يكون كامل الإيمان. إيمانه هو من يُلْزمه ويفرض عليه أن يؤمن، وأن يحتكم لشرع الله، ولا يلزم بذلك إلزاماً وهو له كاره.

 

﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ{28}﴾ [هود: 28].

 

عندما جاء جبريل إلى مريم العذراء عليها السلام خافت منه، فقالت له أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً. إذن ماذا لو لم يكن تقياً؟ هي هنا لا تستعيذ بالله كي يحميها منه تقياً كان أو شقياً، لأن الله على كل شيء قدير وقاهر فوق عباده، إنما كانت تحتمي بإيمانه إن كان مؤمناً، حين تقول له أنها عائذة بالله، فإن كان ممن يخافون الله فلن يؤذي عائذة بالله، وبالتالي لن يعتدي عليها، أما إن كان غير ذلك فلن تغير استعاذتها من الأمر شيئاً. هي توجهت بالاستعاذة بالرحمن إلى هذا الرجل الذي دخل عليها وملأها رعباً، ولو كانت متوجهة بالاستعاذة بالرحمن إلى الرحمن نفسه فلن يكون لاشتراطها (إن كنت تقياً) أي معنى. الأصل أن أمور البشر تجري وفق الأسباب والسنن التي وضعها الله سبحانه وتعالى وليس بالمعجزات الخوارق، وبموجب هذه السنن والأسباب لم يكن متوقعاً أن يحميها الله من شر هذا الغريب بمعجزة كما حمى إبراهيم u بمعجزة. لذا تحاول مريم الأخذ بالأسباب واستثارة النخوة والحس الإيماني عند هذا الذي تخشى عدوانه عليها، فتقول له أنا لاجئة إلى الله ومحتمية به، فإن كان مؤمناً وتقياً فلن يعتدي على من استجارت بالله. إبراهيم u لم يستعذ بالله مثل مريم عندما عزم القوم على إلقائه في النار، لأنه لا فائدة من إعلامهم باستجارته بالله وهم ينكرونه ولا يخشونه، إنما قال بينه وبين ربه: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله على الفور: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم. كان عند مريم أمل أن يكون هذا الغريب يخشى الله ويتقيه، فاستجارت بهذه التقوى، وإلا ما كانت لتقول له شيئاً من ذلك إن كانت على يقين أنه لا يتقي الله أبداً، وكانت ستتوجه بدعائها إلى الله وحده، وتستسلم لقضائه وقدره، وتتوكل عليه، دون أن تتعب ذهنها بالتفكير بالوسيلة التي من الممكن أن يحميها الله بها.

 

الصلاة فرض وكذلك تحكيم شرع الله فرض على من كان تقياً، وهذا لا يعني أنها ساقطة عن غير المؤمنين، بل لا أمل فيهم أن يقوموا بها ما لم يؤمنوا أولاً. ولا خلاف على أننا لا يحق لنا أن نكره أحداً على الإيمان ابتداء، بل نرفق به ونتلطف معه ونقول له قولاً ليناً لعله يستجيب لنا فينجو هو ونؤجر نحن. وليس للمؤمن ولا للمؤمنة الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمراً، لا حرية له أن يوافق أو أن يرفض حكم الله، لكن الذي يحرمه حرية الاختيار بين القبول والرفض هو إيمانه وتقواه لا نحن ولا غيرنا من بني آدم. هو لا يحق له أن يختار بين الطاعة والفسوق إن كان مؤمناً، أي إيمانه هو ما يلزمه لا البشر الآخرون. طاعة قضاء الله ورسوله فرض على المؤمن لا خيار له في أن ينفذه أو لا ينفذه، تماماً كما أن شهادة أن لا إله إلا الله فرض على كل بالغ عاقل من البشر، ومع ذلك ليس لنا حق إكراه أحد على الدخول في الإسلام، إن هو أبى واستكبر، بل علينا البلاغ المبين، والدعوة المخلصة، ويبقى هو صاحب القرار، إن اهتدى فلنفسه، وإن ضل فعليها، ولا نسأل عما فعلوا وهم يسألون.

 

تأملوا آية التخيير بين الإيمان والكفر:

 

﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً{29} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً{30} أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً{31}﴾ [الكهف: 29-31].

 

ألا ترون أن هذا التخيير مشفوع بتهديد وتحذير وترهيب لمن يختار الكفر، وبوعد وترغيب عظيم الإغراء لمن يختار الإيمان. إذن هي حرية لا تنفك عن المسؤولية، كأنما هما وجها عملة واحدة، لا وجود ممكناً لأحدهما دون الآخر. وهكذا اللاإكراه عندما نعممه على الدين كله يكون إعطاء للحرية دون إعفاء من المسؤولية.

 

إن آية لا إكراه في الدين عندما تفهم كما يجب أن تفهم، كافية بحد ذاتها لنجمع بين ديننا الحنيف، والديمقراطية والحرية الفردية. لأن جوهر الديمقراطية هو اللاإكراه، فلا يفرض على الأمة قانون إلا برضاها، أما هل هذا القانون مستمد من الشريعة أم من العلم الدنيوي، أم من أي مصدر آخر فلا فرق، الديمقراطية متحققة والحرية مطبقة وللأمة الحق في أن تختار ما تحتكم إليه، حق في الاختيار لا ينفصم عن المسؤولية أمام رب العالمين عن هذا الاختيار. الديمقراطية لا دين لها، وما يدعيه الذين يخافون أن يحكموا بالشريعة من أن الديمقراطية لا تتحقق إلا مع العلمانية ادعاء باطل، لأن العلمانية ليست إلا تقييد حرية الأمة في أن تأخذ من الشريعة ما تريد أن تطبقه على نفسها من أحكام وتجعلها قوانين واضحة يلتزم بها القضاة وغيرهم. عندما نشترط العلمانية مع الديمقراطية فإننا نجعلها ديمقراطية منقوصة طالما أن من يمارسها لا يتمتع بالحرية الكاملة في اختيار ما يشاء من قوانين وأحكام. الديمقراطية لا تكون حقيقية إلا مع الحرية الحقيقية، والحرية المشروطة بالعلمانية حرية منقوصة.

 

7. أمة بلغـت رشـــدها

جوهر الديمقراطية قائم على الاعتراف أن الأمة بلغت رشدها، ولا ولاية لأحد عليها، إنما ولايتها على نفسها. وهي، كما أن الفرد مكلف بفرائض وتحريمات، فإنها مكلفة بفرائض وتحريمات تخصها، وكما أنه لا إكراه للفرد على التزام الفرائض والتحريمات التي كلفه الله بها، فإنه لا إكراه للأمة عليها أيضاً. والأمة ككيان، تمارس حريتها في الاختيار من خلال الديمقراطية، فيكون تصويت أغلب أبنائها لصالح أمر  ما بمثابة الرضا منها به، كما يكون رفض أغلب أبنائها له بمثابة عدم موافقتها كأمة عليه. الأمة شخصية اعتبارية، وليس هنالك كائن له ذات مفكرة وواعية اسمه الأمة، إنما هي مجموع الشعب المكون من ملايين الأفراد، كل فرد منهم بمثابة خلية حية في جسد الأمة الحية، وإذا ما قررت أغلبية هذه الخلايا أمراً اعتبر قراراً للأمة كلها، وعلى الذين قالوا :"لا" أن يلتزموا بما اختارته الأمة بمجموعها. الأمة حرة حرية تامة في اختيار الأحكام التي تريد تطبيقها، والفرد حر حرية تامة في أن يقول لأمر معين: "نعم" أو أن يقول: "لا"، لكن بعد أن تختار الأمة حكماً معيناً فإنه لا حرية لأي فرد فيها في أن يرفضه طالما يريد أن يكون واحداً من هذه الأمة. وهذا يعني أن الأغلبية تفرض على الجميع ما تشاء وعلى الأقلية أن ترضى وتنقاد ولا تتمرد، أي إن الديمقراطية فيها مكوِّن من صلبها مناقض لها وهو ديكتاتورية الأغلبية، من دونه لن تكون ديمقراطية، لأن اشتراط موافقة جميع أفراد الأمة بلا استثناء على أمر ما كي يتم إقراره، هو من قبيل اشتراط المستحيل، وهو بمثابة تعطيل وشلّ للديمقراطية.

 

في أوربا التي تحررت من سلطان رجال الدين كان الناس ثلاث فئات: الذين ما يزالون مؤمنين بالدين المسيحي، واليهود، والأوربيون الذين ألحدوا واتخذوا نظرية النشوء والارتقاء الدارونية ديناً لهم. ومن أجل أن لا تفرض الفئة المؤمنة أية أحكام مستمدة من الدين المسيحي على باقي الأمة من خلال أغلبية الأصوات، وحتى لا يترك أي ثغرة يعود منها رجال الدين للتدخل في الأمر العام، أعلن الأوربيون العلمانية التي هي ضد وعكس حكم رجال الدين، أي هي حكم رجال الدنيا، ومن أجل الدنيا، وهذا ما تعنيه كلمة Secular بالإنكليزية وكلمة laïque بالفرنسية، وقد ترجمها أول من ترجمها للعربية بكلمة العَلْماني ومنها العَلْمانية، أي ما هو منتمٍ  إلى العالَم، أي الدنيا، لا إلى الدين والغيبيات والآخرة، وقد أشكلت هذه الترجمة والتبست مع العِلْمية، وكان الأدق ترجمتها بالدنيوية.

 

يكاد لا يخلو مجتمع مسلم في هذا العصر من الرافضين للدين وأحكامه، ومن ملل وأديان أخرى تشارك في الوطن، وهي بالتأكيد لا ترغب أن يحكمها الشرع الإسلامي، لذا نجدهم يكررون صباح مساء أنهم يريدون "ديمقراطية علمانية" وإلا فلا ديمقراطية، لأنهم يخشون - وخشيتهم في محلها - أن تتحكم الطائفة الأكبر في بلادهم وبالديمقراطية نفسها لتفرض على الأمة كلها أحكاماً مستمدة من شريعتها، وبذلك تقود ديكتاتورية الأغلبية التي لابد منها في الديمقراطية إلى تهميشهم وتحويلهم إلى نوع من الذميين من جديد.

 

نعم لقد فرض المسلمون شريعتهم على الجميع في البلدان التي فتحوها لأنهم كانوا متغلبين ولهم الحق أن يفرضوا على المغلوبين ما يشاؤون، لكن كثيراً من المسلمين في هذا العصر ظنوا أن الفتوحات إنما كانت لهذا الغرض، أي فرض الحكم بما أنزل الله على كل الشعوب والأمم. قد يكون ذلك مبرراً عند التغلب على أمة وثنية، لكن أهل الكتاب مأمورون أن يحكموا بما أنزل الله عليهم في كتبهم.

 

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{68}﴾ [المائدة: 68].

 

ولهم الحق ألا تطبق عليهم الشريعة الإسلامية طالما هم غير مسلمين. ثم إنهم في هذا الزمان ليسوا أمما مغلوبة أمام المسلمين ولا ذميين خاضعين، لقد استعادوا حقهم بالمواطنة الكاملة عندما أصبح من غلبوهم مغلوبين أمام الاستعمار الأوربي.

 

هل هذا يعني أنه لهم الحق ألا تطبق الديمقراطية في بلادنا إلا مع العلمانية؟

 

العلمانية تحميهم من أن نفرض عليهم شريعتنا وطريقتنا في الحياة، لكنها تحرمنا من أن نطبق على أنفسنا شرع الله الذي تَعَبّدنا بالتحاكم إليه، فيكون في الواقع لدينا ديكتاتورية الأقلية على الأكثرية. ولئن كانت ديكتاتورية الأغلبية هي من صميم الديمقراطية، فإن ديكتاتورية الأقلية هي نقيض الديمقراطية، وهي شكل من أشكال الاستبداد الذي نريد أن نتحرر منه.

 

إذن ما الحل وما المخرج من هذا الاستعصاء؟

 

العلمانية تحقق للأقليات ما تطلبه لكنها تحرم الأغلبية مما تطمح إليه، أي أنها ليست الحل العادل الذي ينصف الجميع. الأوربيون تغلبوا على مشكلة التعدد الديني في مجتمعاتهم بأن ألغوا أي اعتبار للدين في تحديد المواطنة، ونظروا لجميع أفراد الأمة على أنهم بريطانيون أو فرنسيون مثلاً، بغض النظر عن الدين الذي يؤمنون به. أي ألغوا الاختلاف الديني والطائفي من اعتبارهم، ولما كان الذين ما يزالون مؤمنين في أوربا أقلية، فقد انسجمت العلمانية مع مبدأ ديكتاتورية الأغلبية الديمقراطي الأصيل.

 

إن الحل في بلادنا هو في الاعتراف باختلاف الأديان والطوائف بدل إنكاره وإغفاله. هذا ما فعله محمد ﷺ عندما هاجر إلى المدينة المنورة وتسلم رئاسة القوم بلا منافس. كان في المدينة يومها ثلاثة أديان أو ثلاث أمم أو ثلاث طوائف. الأولى أمة المؤمنين بمحمد ﷺ، والثانية القبائل اليهودية التي استوطنت المدينة من عدة قرون، والثالثة المشركون من أهل المدينة الذين كانوا ما يزالون على شركهم. كان محمد ﷺ يمثل أمة المؤمنين، وكان لليهود زعماؤهم الذين يمثلونهم، أما بقايا المشركين في المدينة فلم يكن لهم أي شكل من التنظيم والقيادة، بل كانوا أفراداً رغم عددهم الكبير. كتب النبي ﷺ صحيفة يعترف فيها أن يهود المدينة أمة مع المؤمنين وليست منهم، وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ولليهود الأسوة أي المساواة في الحقوق والواجبات مع المؤمنين، ولم يكن في الصحيفة ذكر لمشركي المدينة، اللهم إلا تلميحاً عندما حظرت الصحيفة على أي من أهل المدينة أن يجير للمشركين من خارجها نفساً أو مالاً. المهم الصحيفة اعترفت بيهود المدينة مواطنين متساوين مع المواطنين المؤمنين، وإن كانت كلمة مواطن لم ترد بالصحيفة، لكن الوضع القانوني الذي منحته الصحيفة لليهود مقارب كثيراً للمواطنة التي نسعى إليها في هذا الزمان.

 

8. التعددية التشريعية

لم يفرض المسلمون شريعتهم على يهود المدينة، وإن كان الله أذن لنبيه ﷺ أن يحكم بينهم بالقرآن إن هم أرادوا ذلك.

 

﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{42} وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ{43}﴾ [المائدة: 42-43].

 

أي عملياً كان في المدينة المنورة أمة مكونة من ثلاث طوائف اثنتان منها لهما شرائعهما ويطبق كل منهما شريعته على نفسه. أي بدل إنكار وجود الفوارق الدينية بين المواطنين في مجتمع المدينة تم الاعتراف بهذه الفوارق دون أن تتعارض مع المواطنة، وهذا ما يسمى في عصرنا التعددية. الأوربيون في أرقى ما وصلوا إليه قبلوا أن يكون في مجتمعاتهم تعددية سياسية حيث الأحزاب المختلفة بإيديولوجياتها المختلفة، ثم قبلوا بالتعايش مع من يخالفهم في المعتقد الديني وأسموا ذلك التعددية الثقافية.

 

لكن نبينا ﷺ زاد عليها التعددية التشريعية.

 

أي يمكننا في هذا العصر أن نحل مشكلة الطوائف بالاعتراف باختلاف الطوائف، وبعدم تطبيق أي قانون شرعي إسلامي إلا على المسلمين السّنّة، تماماً مثلما أن لهم الآن قانون أحوال شخصية إسلامياً لا يطبق على غيرهم. يمكن التوسع بهذا القانون الخاص بالمسلمين السّنّة في سورية أو مصر أو أي دولة أخرى وإضافة أحكام شرعية إسلامية تطبق حصراً على المسلمين السّنّة، فيتحقق لهم ما يسعون إليه من تحكيم الشريعة، ويكمل تدينهم وتعبدهم للخالق سبحانه وتعالى.

ويبقى السؤال: إن كانت الحدود والأحكام الإسلامية الأخرى لن تطبق إلا على المسلمين السنة، ما القوانين التي ستطبق على الطوائف الأخرى؟ سيبقى هناك القانون المدني الحالي الذي هو علماني إلى حد ما ليطبق على كل من لا ينتمي إلى الطائفة السنية. لكن هنالك من أبناء الطائفة السنية من لا يريد ان تطبق عليه الشريعة الإسلامية لأنه ليبرالي أو علماني أو يساري أو ملحد، وهؤلاء في دول مثل سورية ومصر ليسوا بالقلة التي لا نحسب لها حساب، كيف سيتم التعامل معهم؟ سنستحدث طائفة جديدة نسميها طائفة العلمانيين، ينتسب إليها من شاء من أبناء الطوائف المختلفة في البلاد، تخضع للقوانين المدنية القائمة التي ستستكمل بقانون أحوال شخصية مدني ينظم شؤونهم... لكن ألا يمكن أن يتلاعب الناس، فإذا ارتكب مسلم سني سرقة قال أنا علماني كي لا تقطع يده؟ سيتم تسجيل من يرغب على أنه مسلم سني ومن يرغب على أنه درزي ومن يرغب على أنه مسيحي ومن يرغب على أنه علوي نصيري ومن يرغب على أنه علماني، وهكذا كل الطوائف والأديان بما فيها طائفة العلمانيين، بحيث لا يبقى أحد من السوريين مثلاً لا ينتمي لإحدى الطوائف وغير مسجل في السجل المدني وفي بطاقته الشخصية اسم طائفته، وعندها لا يستطيع أحد أن يتلاعب. لكن يبقى لكل مواطن الحق في الانتقال من طائفة إلى طائفة أخرى على أن يقدم طلباً رسمياً ويتم نقل اسمه من سجلات طائفة إلى سجلات طائفة أخرى بحسب رغبته واختياره. ولا خوف عليه أن يقتل لأنه مرتد، لأن قتل المرتد كان لأسباب وقتية استدعت سَنَّه، ثم كان أيضاً لفئة محددة تم استثناؤها من مبدأ لا إكراه في الدين، وذلك لمصلحة عليا لم تكن لتتحقق لولا هذا الاستثناء، أما باقي البشرية فعلى الأصل الذي هو "لا إكراه في الدين"، ولا عقوبة على الاعتقاد سواء كان بالنسبة لنا كفراً وردة أو ابتداعاً وانحرافاً.

 

لا معنى للديمقراطية بلا حرية ولا معنى للحرية بلا لاإكراه في الدين، أي يكون لجميع الطوائف حرية الاعتقاد، وحرية التعبير عن المعتقد، وحرية العبادة وفق هذا المعتقد، وحرية إنشاء دور العبادة الخاصة بهم ووسائل الإعلام وكل ما يلزم لهذه الطائفة كي تمارس دينها أو مذهبها كما لو كانت تعيش وحدها في البلاد. إسلام اللاإكراه لا يسمح أبداً بمسبة أي رمز ديني لأي طائفة، لا الله ولا الرسول ولا الصحابة ولا المسيح ولا العذراء ولا أي رمز مقدس عند طائفة من الطوائف بما في ذلك طائفة العلمانيين التي قد يكون عندها رموز لا تسمح لأحد أن يسبهم أو يسخر منهم أو يصورهم بالدراما أو غيرها بصورة تشوه تاريخه وتفتري عليه ما لم يكن فيه. بل ستُجَرّم كل إساءة للرموز الدينية ويعاقب بحزم كل من يقع فيها.

 

9. احترام مقدسات الآخرين

لك الحق أن تقول إنك لا تؤمن بوجود الخالق، لكن ليس لك الحق أن تهزأ منه أو من ديني أو صلاتي أو معتقد من معتقداتي. ربنا نهى المسلمين عن أن يسبوا آلهة المشركين كي لا يستفزوهم فيسبوا الله وهم لا يعلمون قدره، قال تعالى:

 

﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{108}﴾ [الأنعام: 108].

 

كما حرم على المؤمنين مجالسة من يسخر من دين الله حتى يكفوا عن هُزئهم وسخريتهم ويخوضوا في حديث غيره.

 

﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً{140}﴾ [النساء: 140].

 

وفي عصرنا هذا عصر حقوق الإنسان، يجب أن يكون الاحترام على رأس هذه الحقوق، لأن إهانة رمز ديني ما، هي إهانة واستخفاف بمن يقدسه. ولن نراعي حقوق بعضنا بعضاً إن لم نحترم بعضنا بعضاً. أنت حر أن تسخر أو تشتم ما شئت ومن شئت سواء كنت منفرداً أو خلوت بأبناء دينك الذين يشاركونك معتقداتك، لكن إذا تسرب هذا خارج دائرتك فستحاسب كمجرم وتنزل بك العقوبة. لن نفرض على الآخرين أن يقدسوا من نقدس، لكم دينكم ولي دينِ، لكن نفرض عليهم أدب الخلاف والاختلاف، وبذلك نمنع أية تعبيرات تستفز طائفة من الطوائف وتثير الأحقاد وربما العنف، ليعيش الناس بسلام رغم اختلاف أديانهم.

 

10. لكل مواطن طائفته

سيعترض بعض الذين تعودوا على إنكار المشكلات ليوهموا أنفسهم أنه ليس هنالك مشكلات، سيعترضون على تصنيف المواطنين كأبناء طوائف، سيقولون إن ذلك سيفكك البنية الاجتماعية واللحمة الوطنية وسيثير النعرات الطائفية في البلاد.

 

أقول لهم إنكم مخطئون.

 

إن اعترافنا بالحقيقة وهي أنه لكل منا طائفة ينتمي إليها، على اعتبار العلمانيين طائفة من الطوائف، هذا الاعتراف مع اعترافي بحقك بالحياة فدمك معصوم، وحقك في البلد كأحد مواطنيها، لك ما لي وعليك ما علي، وبقاء المودة بيني وبينك حتى لو صنفتك كافراً وصنفتني أنت أنني كافر، فسيكون الانتماء للطوائف مثل الانتماء للعائلات والعشائر، فأنا حتى أكون سورياً ليس علي أن أتخلى عن انتمائي لعائلتي أو قريتي، إنما هي مكملات الهوية لكل منا، وكلنا ننتمي للدولة التي نحمل جنسيتها دون أن نفقد هوياتنا التي تميزنا، سواء منها ما ورثناه من آبائنا وأمهاتنا، أو ما اخترناه نحن بأنفسنا. سنكون شركاء في الوطن رغم اختلاف انتماءاتنا، بل سيشعر كل منا أنه موضع احترام من المجتمع كله الذي لم يفرض عليه الانتماء لطائفة لا يريد الانتماء لها حتى لو كانت طائفة أبويه، ثم هو يراعي اختلافك عن غيرك ويعترف لك بحقك في أن تكون مختلفاً طالما تحمل مسؤولية اختياراتك أمام رب العالمين. لا شأن لي إن كنت تشاركني الاعتقاد أو تخالفني فيه، طالما أنك تحترمني وتحترم مشاعري الدينية ولا تعاملني معاملة سيئة لمجرد أنني مختلف عنك دينياً. المواطنة شراكة مثلما تكون المساهمة في شركة كبرى شراكة مع أناس كثيرين مختلفين في ألوانهم واديانهم، لكن توحدهم شراكتهم ومصلحتهم في نجاح شركتهم كي يكونوا كلهم رابحين، ويبقى كل على دينه والله يفصل بينهم يوم القيامة.

 

أدرك أن هذا المنطق غريب علينا نحن المتدينين الذين نحلم باستعادة تاريخنا المجيد وإحيائه من جديد. لكن العاقل هو الواقعي الذي لا يكابر، فينكر الحقائق لأنها لا تعجبه، وقد تغير واقعنا بعد هزائمنا أمام المستعمرين الأوربيين، وصرنا في واقع غير الذي قرأنا عنه في كتب التاريخ، وغير الذي عاشه أبطالنا والأجيال التي نسعى للاقتداء بها. مع ذلك لو تفكرنا جيداً فسنكتشف أن واقعنا الجديد واشتراكنا في المواطنة مع من يخالفنا في المعتقد ليس مشكلة بحد ذاته، طالما أننا عقلاء، ونترك خلافاتنا الدينية لخالقنا الذي سيخبرنا يوم القيامة من منا كان على حق ومن منا كان على باطل، ونتعاون في سبيل العيش الكريم لنا جميعنا. تذكروا دائماً المسلم الذي يتزوج كتابية كافرة بالنسبة له، ويكون بينهما الحب والمودة والرحمة والتعاون على تربية الأولاد، والحرص على منفعة كل منهما، ولا يكون اختلاف القِبلة التي يصلي كل منهما إليها مانعاً من المحبة والتعاون بينهما. قد يشكل انجذاب الرجال إلى النساء وانجذاب النساء إلى الرجال بالفطرة، قوة دافعة تتغلب على شعورنا بالاختلاف، فيوجد الحب والرحمة والتعاون رغم اختلاف الدين.. هذا صحيح.. لكننا حتى نتعايش مع من يشاركنا المواطنة في بلدنا ويختلف عنا بالمعتقد، لا يلزمنا أن نعشق بعضنا بعضاً، بل أن نَبَرّ بعضنا بعضاً، ونحب الخير لبعضنا بعضاً، ونحترم بعضنا بعضاً، ولا يظلم بعضنا بعضاً، وهذا كله لا يحتاج إلى الانجذاب الجنسي ليعطيه الطاقة، بل يكفينا اشتراكنا بالإنسانية وفي الانتساب إلى أب واحد وأم واحدة..

 

نحن أقرباء كلنا، وأخوة الإنسانية تجمعنا.

 

وعلى الإسلاميين الذين تشبعوا بأفكار سيد قطب رحمه الله وتأكيده على ما يسميه المفاصلة الشعورية بين المؤمن والمجتمع الجاهلي أن لا ينزعجوا عندما يسمعون هذا الكلام، فالقرآن الكريم أكد أخوة الرسل لأقوامهم مع أنهم فسقوا وكابروا واستحقوا عذاب الله:

 

  • ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ{12} وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ{13}﴾ [ق: 12-13].
  • ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ{84}﴾ [هود: 84].
  • ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ{123} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ{124}﴾ [الشعراء: 123-124].
  • ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ{141} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ{142}﴾ [الشعراء: 141-142].

 

11. حقــوق مــدنية متســاوية

يبقى من شروط المواطنة أن يكون الجميع متساوين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن جنسهم أو دينهم، وهذا يعني حقوقاً مدنية وسياسية وفرصاً للمشاركة في إدارة البلاد متساوية للجميع، للمسلم وغير المسلم وللرجل والمرأة على السواء. أي سيكون من حق المسيحي مثلاً أن يترشح لأي منصب، حتى لو كان رئاسة الجمهورية، فإن حصل على غالبية الأصوات أصبح رئيساً للبلاد، وكذلك لو ترشحت امرأة مسلمة أو غير مسلمة. طبعاً تقف أقوال قاطعة وجازمة لعلماء كبار أنه لا ولاية لكافر على مسلم، في طريق قبول الإسلاميين بهكذا احتمال.

 

ويستند من حرم تولية غير المسلمين مناصب قيادية على المسلمين إلى آيات كريمة لا شك في ثبوتها لكن دلالتها بهذا الخصوص ظنية، وهي قوله تعالى:

 

﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً{138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً{139} وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً{140} الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً{141}﴾ [النساء: 138-141].

 

والشاهد في هذه الآيات أولاً إنكاره سبحانه وتعالى على المنافقين اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ثم قوله تعالى: ﴿...وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً{141}﴾ [النساء: 141].

 

كما يستدلون بقوله تعالى (منكم) في هذه الآية:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{59}﴾ [النساء: 59].

 

ويستدلون بنهي الله المؤمنين أن يتخذوا من الكافرين بطانة، في هذه الآيات:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ{118} هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{119} إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{120}﴾ [آل عمران: 118-120].

 

صحيح أن الله نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء، لكن رئاسة الجمهورية أو منصب وزير لا يجعل من يشغله ولياً للمواطنين المسلمين. الولاء علاقة تشبه الأخوة، فقد كان العرب أحياناً يتعاهد اثنان منهم على أن يكون كل منهما ولي الآخر، فتكون العلاقة بينهما حميمة لحد أن يرث أحدهما الآخر إن مات. وكان من يعتق عبداً يصبح العبد مولاه ويرثه سيده السابق إن مات بحكم الولاية التي له عليه. والأب ولي أولاده الصغار وولي بناته البكر حتى يتزوجن.. وكان محمد ﷺ ولي أمر كل من كان يعيش في المدينة المنورة، ولم يكونوا كلهم مؤمنين. كان منهم يهود كثيرون ومشركون يعبدون مع الله الأصنام. كان ولي أمرهم بحكم أنهم كانوا مواطنين في دولته، لكنه لم يكن ولي أحد من المشركين أو اليهود بمعنى الولاء المحرم بين المؤمن والكافر. الولاء قرب شديد بين اثنين، ولا شك عندنا أن محمداً لم تكن علاقته بالمشركين واليهود في مدينته علاقة موالاة، لأن الله حرم على المؤمنين موالاة الكفار ولن يقع ﷺ فيما حرم الله. صحيح أن ولاء العبد المعتق لسيده الذي أعتقه هو ولاء من طرف واحد، لكنه أيضاً ليس علاقة موالاة، حيث الموالاة المحرمة مع الكفار من نوع آخر ولابد أن يشارك فيها الطرفان.

 

لقد كان محمد ﷺ أولى بالمؤمنين من أنفسهم لا بحكم منصبه كرئيس لدولتهم، بل بحكم نبوته، قال تعالى:

 

﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً{6}﴾ [الأحزاب: 6].

 

إن ولاية الأمر مسؤولية وقوامة وليست علاقة موالاة بين ولي الأمر وجميع مواطنيه. قد يكون بينه وبين الذين على دينه منهم موالاة نابعة من الأخوة الدينية التي تربطه بهم لا من كونه رئيساً أو وزيراً.

 

وخلاصة القول: ليس هنالك آية قرآنية تحرم استعمال غير المسلم في وظائف إدارية في دولة المسلمين، وليس هنالك حديث نبوي شريف صحيح بهذا الخصوص، فالتحريم الجازم الذي ورد في كتب فقهائنا القدامى ما هو إلا اجتهاد منهم متناسب مع عزة المسلمين وغلبتهم على كثير من الشعوب، ولعل هؤلاء الفقهاء لو كانوا بيننا هذه الأيام وشاركونا الذل الذي نعيشه لغيروا فتواهم واجتهدوا اجتهاداً آخر ينسجم مع حالنا وظروفنا ويحقق المصلحة للبلاد والعباد.

 

ثم هنالك اعتراض آخر وهو أن ولي أمر المسلمين هو إمامهم، والإمامة كما قال الماوردي “موضوعةٌ لِخلافة النُّبوة في حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا، وعقدها لِمن يقوم بها في الأُمَّة واجب"، فكيف يصح أن يشغل هذا المنصب كافر؟

 

نعم لا يصح لأنه منصب ديني ودنيوي في آن معاً. لكن رؤساء الجمهوريات في الأنظمة الديمقراطية التي نسعى إليها، ليسوا أئمة الأمة بالمعنى الديني للكلمة، وليسوا خلفاء للنبوة، بل هم موظفون دنيويون لا دخل لهم بدين الأمة.. فالدين خارج صلاحياتهم تماماً، إذ ستكون هنالك هيئة مسؤولة عن كل ماله علاقة بالإسلام في الدولة من أوقاف ومساجد ومدارس دينية ومجلات وأقنية فضائية وما شابه، تشرف هذه الهيئة على دين الأمة، وتكون مستقلة عن السلطة التنفيذية استقلالاً تاماً، أي في دولة المسلمين المعاصرة التي فيها أديان وطوائف، سيكون هنالك أربع سلطات لا ثلاث كما هو معروف في الدولة الحديثة.

 

12. السلطة الرابعة دينية

من شروط الدولة الديمقراطية أن يكون فيها ثلاث سلطات مستقلة عن بعضها بعضاً هي السلطة التنفيذية أي الرئيس والوزراء وجميع من يعمل تحت إمرتهم، والسلطة التشريعية المتمثلة بمجلس النواب ومجلس الشورى، والسلطة القضائية من أعلى مراتبها المتمثلة بالمحكمة الدستورية إلى أبسط درجات المحاكم في البلاد. سلطات ثلاث لا تكون الدولة ديمقراطية حقاً إلا إن كانت هذه السلطات مستقلة كل واحدة بنفسها لا تخضع للسلطتين الأخريين. هذا في الدولة الديمقراطية العلمانية، لكن دولتنا المنشودة في بلاد مثل سورية ومصر لن تكون علمانية، بل ستكون دولة الكتاب والحكمة، دولة تلتزم الأحكام الشرعية الثابتة التي لا خلاف بين المسلمين عليها، ودولة العلم والتخصص حرصاً على المصالح المرسلة والمنافع ودفعاً للأضرار والمفاسد. سيكون للإسلام فيها مكانته من حيث الأحكام الشرعية التي سيطبقها المسلمون السّنة على أنفسهم، ومن حيث التزام المسلمين بالعبادات والأخلاق الإسلامية إضافة إلى اجتناب المحرمات. في هذه الدولة سيكون هنالك سلطة رابعة مستقلة عن باقي السلطات استقلالاً تاماً، بحيث لا يستطيع رئيس أو وزير أن يتدخل في عملها أو أن يفرض عليها شيئاً، وبالمقابل ليس لهذه السلطة على باقي السلطات إلا النصح والتوجيه والانتقاد دون القدرة على إلزامهم بشيء، وتشارك هذه السلطة الدينية بعشرة بالمئة مثلاً من النواب أو أعضاء مجلس الشورى ليكونوا حاضرين وشاهدين لكل حوار أو قرار يتخذ، ولا يكون لهم من السلطة التشريعية إلا بعدد أصواتهم.

 

وبذلك نكون قد حررنا الدين من السياسة، وحررنا السياسة من الدين، دون أن نعطل ثوابت شرع الله، إنما هو فصل بين السلطات، لا فصل للدين عن الدولة، فالدين سيكون في صميم دولتنا، لكن دون أن يتدخل علماؤه بالسياسة تدخلاً مباشراً، ودون أن تكون لهم على السياسيين في الدولة سلطة الأمر والنهي والإلزام والمنع. سيشارك علماء الدين في النقاش حول التشريعات المقترحة ويبينون حكم الإسلام في القضية المطروحة، وللأمة ممثلة بنوابها أن تشرع ما لا يتعارض مع الإسلام أو ما يتعارض.

 

ستسهر السلطة الدينية على تديُّن الأمة، وعلى المناهج الدينية التي تدرس في المدارس الدينية والمدارس العامة، كما ستسهر على متابعة تنفيذ ما أقرته الأمة من أحكام شرعية التزمت بها، كل ذلك دون أن يكون لها أية صلاحيات تنفيذية إلا ما يتعلق بإدارتها لمؤسساتها وأوقافها.

 

بذلك يكون منصب رئيس الجمهورية منصباً دنيوياً مئة بالمئة.. وحتى من الناحية الدنيوية لن يكون له من الصلاحيات ما كان يتمتع به خلفاء المسلمين قديماً، لأنه رئيس دولة ديمقراطية يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه من أجل نفسه.

 

الدولة المنشودة لن تكون دولة إسلامية بالمعنى الذي في أذهاننا، بل ستكون دولة للسوريين أو للمصريين أو غيرهم من الشعوب، يتساوى فيها المسلم والكافر والرجل والمرأة والأبيض والأسود.. وستكون دولة ديمقراطية لا يصل فيها مسلم أو مسيحي أو درزي أو نصيري أو غير ذلك لمنصب رئيس الجمهورية إلا بأصوات الناخبين الحرة. والناخبون يصوتون حسب قناعاتهم. فالذي لا يوافق أن يرأس الدولة امرأة يصوت لمرشح رجل، والذي لا يرضى برئيس جمهورية غير مسلم يحجب صوته عن المرشح غير المسلم ويعطيه لمرشح مسلم.

 

إن اتساع الفقه الإسلامي لمتطلبات الدولة العصرية الديمقراطية التعددية لا يلغي قناعات المسلمين ولا يمنعهم من أن يمارسوا حريتهم وحقهم في الدعوة إلى ما يرونه الحق، لكن بالطرق القانونية والسلمية، كما لا يمنعهم من ممارسة سلطتهم التي تتجلى في عملية التصويت في الانتخابات والاستفتاءات.

 

وفيما يخص وصول امرأة لمنصب رئيس الجمهورية فقد روى البخاري في صحيحه عن نفيع بن الحارث الثقفي y أنه قال: لقد نفعني اللهُ بكلمةٍ سمعتُها من رسولِ اللهِ ﷺ أيامَ الجملِ، بعد ما كدتُ أن ألحق بأصحابِ الجملِ فأقاتلُ معهم، قال: لما بلغ رسولَ اللهِ ﷺ أنَّ أهلَ فارسٍ قد ملَّكوا عليهم بنتَ كِسرى، قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ ولَّوْا أمْرَهُمُ امْرَأَةً». هذا حديث صحيح لا يحبذ فيه رسول الله ﷺ أن تتولى أمر المسلمين امرأة. فكيف سنرضى أن تترشح لهذا المنصب امرأة قد تفوز به؟

 

علينا أن ننتبه إلى الفارق الكبير بين منصب الملك قديماً، الذي كان يتولى أمر رعيته بكل ما تعنيه الكلمة، ومنصب رئيس جمهورية ديمقراطية معاصرة. فالصلاحيات التي كانت بيد كسرى أو أي ملك آخر ستكون في زماننا موزعة على أربع سلطات، التنفيذية التي ليس هو إلا جزءاً مهماً منها، والتشريعية والقضائية والدينية، وهو لن يكون منها بشيء. ولي الأمر الحقيقي هو مجموع هذه السلطات الأربع.

 

ألا يجعل هذا في الأمر سعة؟ وبخاصة أننا لا يمكن أن نأخذ ببعض المواطنة ونترك بعضها، أو ببعض الديمقراطية ونترك بعضها، طالما أنه لنا شركاء في الوطن مختلفون عنا في الدين والمعتقد.. ويبقى لكل مواطن الحق في أن يعطي صوته لمن يراه الأصلح لمنصب رئيس الجمهورية. المهم أن ما يقال عن الولاية العظمى والخلافة والإمامة، لا ينطبق على رئاسة الجمهورية في دولة ديمقراطية تتقاسم الصلاحيات فيها أربع سلطات كل منها مؤسسة كبيرة بحد ذاتها.

 

13. بين الشورى والديمقراطية

قد يقول قائل ما لنا نزهد بما عندنا ونسعى وراء ما عند الآخرين نريد أن نقلده وعندنا ما يغنينا عنه؟ ديننا دين الشورى فلم نحرص على الديمقراطية وهي لم تنبت في تربة إسلامية ولا ترعرعت فيها؟

 

نخلط بين مفهومين مختلفين فتتشوش الرؤية. الشورى والديمقراطية مختلفتان تماماً لكن تكمل إحداهما الأخرى. يمكن أن توجد الشورى دون ديمقراطية ويمكن أن توجد الديمقراطية دون شورى. كيف؟!

 

الشورى هي قيام الحاكم بشَوْر آراء من حوله من عقلاء الأمة، والشَّوْر هو الاجتناء، وكأنها شجرة يجني من يستشير غيره ثمارها، أو خلية نحل يجني مالكها عسلها. والحاكم كما كل الناس حينما يستشير غيره فإنه يسعى إلى إحدى هذه الغايات وربما لها كله. الغاية الأولى من استشارة الآخرين هي الاستفادة من علمهم وفنهم إن كانوا متخصصين فيما لا نجيد، كما نستشير الطبيب مثلاً. والغاية الثانية هي تجميع أكبر عدد من الأفكار بخصوص مسألة معينة، مما يوسع أفقنا ويعيننا على الوصول إلى القرار الصائب. والغاية الثالثة هي استطلاع موقف الذي نستشيره، لما لموقفه من أهمية في قرارنا الذي ننوي اتخاذه، كما استشار ﷺ أصحابه قبل أن يغزو غزوة بدر. والغاية الرابعة هي الاستشارة بهدف الاستئذان وضمان عدم الاعتراض أو ضمان مشاركة من نستشيره وعونه، كما استشار إبراهيم إسماعيل عليهما السلام عندما أمره الله بذبحه. والغاية الخامسة نفسية بحتة وهي الإفضاء بما يشغل بالنا ويجلب لنا الهم والحزن والضيق، فنرتاح، حتى لو لم يقدم لنا من استشرناه إلا حسن الاستماع والتفهم.

 

الشورى جوهرها عدم الاستبداد بالرأي فيما للحاكم من صلاحيات هو صاحب القرار فيها. والقرآن الكريم عندما أمر بالشورى أمر بها بما يخص الحكم بالدرجة الأولى، حيث الحكم يسمى في القرآن الأمر. قال تعالى:

 

﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{38}﴾ [الشورى: 38].

 

وقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ{159}﴾ [آل عمران: 159].

 

وكلمة «أمر» غنية بالمعنى فهي تعني الحكم كما تعني الشأن، مما يجعل أمر الله لنا بالشورى لا يقتصر على شؤون الحكم. في الشورى هنالك مشاركة في الرأي والتفكير لا في اتخاذ القرار بالذات، أي الشورى الحقيقية معلمة غير ملزمة، ﴿...وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ...﴾، لأنها لو كانت ملزمة لأصبحت اسْتِئْماراً لا استشارة.

 

إن كنت أسأل من لهم الحق في مشاركتي في اتخاذ القرار عن رأيهم، فأنا هنا لا أستطلع آراءهم فحسب، بل أستطلع إراداتهم بما يخص موضوع الاستشارة، ولما لم تكن لي الصلاحية أن أنفرد باتخاذ القرار في هذا الشأن وعلي اتباع رأي الأكثرية، فأنا هنا اسْتأمرهم أي: أسألهم عما يأمرون به، ويكون القرار تحصيل حاصل وقرار الأغلبية. عندها هم شركاء في الأمر لا مجرد مستشارين. ولنضرب على ذلك مثالاً من عالم الأعمال والتجارة.

 

لو كنت مديراً عاماً لشركة وأردت تطوير العمل، فاستشرت خبيراً يقدم لي نصائحه وأنا أتبع أحسنها، فأنا هنا أستشير. أما إن كان هنالك قرار مهم يجب اتخاذه وعقدت اجتماعاً مع شركائي أو مع أعضاء مجلس الإدارة لنصل سوية إلى قرار نتحمل جميعنا مسؤوليته، فهذه ليست استشارة، بل هي استئمار. وهكذا هي الديمقراطية. فعندما يعرض رئيس الجمهورية مشروع قانون أو اتفاقية أو غير ذلك على مجلس النواب للنقاش والتصويت، فهو هنا يطلب أمر المجلس إضافة لرأيه، وهذا يعني أن الرئيس ليس ولي الأمر الفعلي، لأنه لا يستطيع أن يأمر دون موافقة مجلس النواب. بينما في الحضارات القديمة وفي دولة الإسلام على مر العصور كان الخليفة هو ولي الأمر، أي هو الذي له حق الأمر، ولم يكن لأحد غيره حق الأمر إلا بما يفوضه به هو من نفسه استعانة به. في الدولة الديمقراطية الحديثة ذات السلطات الأربع تكون الأمة هي ولية أمر ذاتها، ممثلة بمجموع هذه السلطات، أي الأمة تحكم نفسها عن طريق السلطات الأربع التي تمثلها، أما في دولة الخلافة فالخليفة يحكم الأمة التي بايعته على السمع والطاعة. لذا كانت الشورى عند أغلب علماء المسلمين الأوائل مُعْلِمة للإمام أي الخليفة أو الأمير، ولم تكن ملزمة له، وهو الصواب والله أعلم.

 

لقد كانت الخلافة نوعاً من الحكم الفردي لا يختلف عن المُلْك الذي عرفته البشرية إلا في التزام الحاكم والمحكوم بأحكام شرع الله، وباحترام حرية الرعية لا استعبادهم. إن كان الحاكم ملكاً قلنا: هو يملكهم إذا قصدنا: يحكمهم، أما في الإسلام فنقول هو يؤمهم أو يسوسهم، لنؤكد على المساواة في الكرامة الإنسانية بين الخليفة ورعيته.

 

في نظام الخلافة تتنازل الأمة عن حقها في اتخاذ القرار لأحد أبنائها، وتبايعه على السمع والطاعة، وهو إن كان كأبي بكر وعمر قال أطيعوني ما أطعت الله فيكم. لكن أغلب خلفاء المسلمين كانوا يستولون على الأمر، أي الحكم ويفرضون على الأمة طاعتهم ببيعة أو بدون بيعة، وإن تمت بيعة فإنها لم تكن بيعة حرة نزيهة أكثر من الاستفتاء على بقاء رئيس جمهورية جاء إلى الحكم على ظهر دبابة.

 

من يقول إن الشورى في الإسلام ملزمة للحاكم لا ينتبه لحقيقة أن الحاكم هو ولي الأمر ولا يشرك في أمره أحداً إلا بمزاجه وحر إرادته.

 

14. الشورى الملزمة هي الديمقراطية بذاتها

لم يكن نظام الخلافة الإسلامية على مر العصور ديمقراطياً، اللهم إلا في وصول الخلفاء الراشدين إلى مناصبهم دون استيلاء ولا تغلب، بل ببيعة حرة من أهل الحل والعقد. لكن حتى الخلفاء الراشدون بعد أن يتسلموا منصب الخلافة فإنهم ينفردون بالحق في اتخاذ القرار في الدولة، وكل من يعمل معهم من القضاة والوزراء وكافة الموظفين الحكوميين نواب موكلون من الخليفة، ويأمرون نيابة عنه شخصياً لاستحالة أن يقوم بنفسه بكل مهام الخلافة. القاضي في الدولة الحديثة يقضي ويصدر حكمه باسم الشعب، أي نيابة عن الشعب الذي لا يستطيع أن يقوم بهذا الأمر بنفسه لكنه فوض هذا القاضي أن يقضي بين الناس نيابة عنه.. أرجو تأمل هذه النقطة كي ندرك كيف أن الشورى التي ألزم نفسه ﷺ بها والتي مارسها الخلفاء الراشدون بشكل يومي لم تكن ديمقراطية، لأن الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب وللشعب.

 

في الديمقراطية لا تتنازل الأمة عن السيادة للخليفة الذي يصبح هو صاحب السيادة ومنه تُسْتَمد شرعية كل الولاة والقضاة والعاملين في الدولة من أكبرهم إلى أصغرهم. كانت الأمة تبايع رجلاً ليكون ولي أمرها مثلما يكون للقاصر ولي أمر مسؤول عن تدبير أموره واتخاذ القرار في كل أمر مهم لحياة هذا القاصر. أما في الديمقراطية فالأمة أو الشعب يحتفظ بالسيادة على نفسه ولا يتخلى عنها، فلا يكون رئيس الجمهورية ولي أمر لشعب أشبه بالقاصرين، بل هو مجرد وكيل عند بالغين راشدين سلطتهم على جميع شؤون حياتهم بأيديهم هم، لكنهم استعانوا بهذا الرئيس كأجير عندهم يتولى ما يكلفونه به من إدارة شؤونهم لاستحالة أن يقوموا هم بها بأنفسهم. هو موظف لا غير ولا يمتلك أية سلطة لشخصه على الأمة، إنما السلطة التي تكون بيده هي للمنصب بغض النظر عمن يشغله وليست لفلان من الناس.

 

في عملنا في الطب النفسي تُحَوّل إلينا حالات من القاضي يسأل فيها هل هذا المريض غير قادر على تولي شؤونه بنفسه بسبب مرضه ويحتاج إلى ولي يتولاها عنه، ام هو رغم مرضه ما يزال قادراً على اتخاذ قرارات حكيمة بما يكفي فيما يخصه من شؤون مالية وغيرها. الذي مرضه يؤثر على قدرته على التفكير المنطقي السليم وسيطول مرضه نوصي أن يوضع تحت ولاية من يدبر له شؤونه، أي يصبح له ولي أمر مثلما كان في طفولته. أما إن كان سليم العقل رغم مرضه النفسي فيمكنه أن يوكل أباه أو أخاه ليتولى شؤونه نيابة عنه، لكن له الحق متى شاء أن يلغي هذه الوكالة ويعزل الوكيل، كما أنه رغم توكيله لغيره يبقى له الحق في أن يقرر هو لنفسه فيبيع ويشتري ويتزوج ويطلق بخلاف من له ولي لصغره أو عدم قدرته العقلية، حيث من لحظة تعيين الولي عليه يفقد هذا المريض حقه في التصرف بالأمور المهمة في حياته، وإن هو قام مثلاً ببيع عقار عنده، فالبيع باطل ما لم يقره وليه.. أما الذي وكل غيره توكيلاً فإن بيعه ثابت، حتى لو تم دون علم أو إذن الوكيل، لأن الوكيل يعمل عنده وليس ولي أمره.

 

يمكن للحاكم الذي اغتصب السلطة بقوة السلاح ألا يقضي أمراً إلا بعد أن يستشير علية قومه، ويستنير برأيهم، وهو عندها يكون حاكماً شوروياً دون أن يكون ديمقراطياً. كما يمكن لحاكم أن يصل إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع ولحكمه أجل ينقضي بعد حين وصلاحياته محدودة فيستبد برأيه في كل ما هو من صلاحياته ولا يستشير إلا من يقول له دائماً أنت على حق، وبذلك يكون حاكماً ديمقراطياً لكنه ليس شوروياً. الوضع المثالي في عصرنا هو أن يكون الحاكم ديمقراطياً وشوروياً في الوقت نفسه. في الحقيقة في النظام الديمقراطي ليس هنالك حاكم بمعنى الكلمة لأن السيادة هي للأمة الممثلة بسلطاتها الأربع، وللرئيس صلاحيات محدودة مخول بها ويمكن للأمة مساءلته ومحاسبته إن أساء استخدامها.

 

لذا في الدولة الديمقراطية الشوروية تكون ممارسة الشورى على كافة الصُّعُد من أصغر منصب إلى أرفعه، وتكون معلمة غير ملزمة إلا إن كانت مشورة لخبير في فن من الفنون لا يجيده المسؤول الذي استشاره، وعندها تكون الشورى ملزمة، وعليه الالتزام بها، ويحمل المسؤولية كاملة إن هو لم يأخذ بها وتسبب ذلك بضرر للأمة، كما يعفى من هذه المسؤولية إن هو عمل بتوصية الخبير ولم يجتهد من عنده دون علم.

 

الشورى في الإسلام خلق المسلم حيث يستشير في بيته وفي سوقه وفي عمله سواء كان موظفاً حكومياً أو كان يعمل لحسابه الخاص. هي تعبير عن تواضع المؤمن وعدم غروره وإعجابه برأيه فلا يقول لسان حاله: (ولا أريكم إلا ما أرى) كما كان فرعون يقول، تواضع لمن حوله سواء كانوا عائلته أو العاملين معه أو حتى اللاعبين معه إن كانوا فريقاً رياضياً. وحتى الذين تنتخبهم الأمة ليمثلوها في المجلس التشريعي عليهم الاستمرار في أن يستشيروا الناس الذين انتخبوهم فيستقرؤون آراءهم ويأخذونها في اعتبارهم في تحديد مواقفهم مما يناقش أمامهم من قضايا البلاد. المسلم لا يشعر أن كرامته نقصت إن هو استشار غيره في أي شأن من شؤونه الشخصية أو التي هو موكل عليها من الأمة، فلا يستكبر ويستعلي، بل يسعى إلى الحق والخير وتحقيق المنفعة لنفسه ومجتمعه. لو تخلق المسلمون بخلق الشورى وأقاموا دولاً ديمقراطية حقيقية فسيكونون فعلاً خير أمة أخرجت للناس حتى في نظام حكمهم وسياسة بلادهم.

 

إذن لا تغني الشورى عن الديمقراطية كما لا تغني الديمقراطية عن الشورى، إنما بهما معاً يمكن أن يتحقق العدل والرفاه للأمة كلها وتنعم بحياة طيبة لجميع أبنائها. نعم نحن عندنا في إسلامنا ما ليس عند غيرنا، ولكن إسلامنا عفا وسكت عن كثير من الأمور وتركها لحكمة البشر يجتهدون فيها، ومن ذلك نظام الحكم الذي كانت الديمقراطية خير ما توصلت إليه البشرية بعد حكم محمد ﷺ وخلفائه الراشدين.

 

السيادة التي تحتفظ بها الأمة لنفسها في الديمقراطية ليست الحاكمية بمعناها المطلق الذي لا يرضى المؤمن أن يكون لغير الله.. إنها مثل السيادة التي يمتلكها الإنسان بعد أن يكبر ويبلغ سن الرشد، هي كونه ولي أمر نفسه بعد أن كان أبوه وليه طيلة طفولته. إن وضوح المفاهيم في أذهاننا يجنبنا أن نختلف دون وجه اختلاف حقيقي، ويعيننا على أن نحسن الظن بأنفسنا فلا نظن أننا وحدنا المخلصون والمؤمنون حق الإيمان، وكل من خالفنا في أمر نعتبره خطيراً فهو قليل الإيمان أو الفهم والتبصر.

 

في الدولة الديمقراطية المسلمة يقوم نواب الأمة وعلماؤها الدينيون والدنيون بتقديم المشورة للمسؤولين فيها، ولا يوجد مسؤول ليس له مستشارون متفرغون أو غير متفرغين.. صحيح أن السلطة التي ستكون بيد رئيس أو وزير سلطة مقيدة، لكن دون شورى ستكثر الأخطاء التي هي بقصد حسن، لكن حسن القصد وطيب النية لا يمنعان أضرار القرارات الخاطئة. لذا لابد للدستور من أن يحدد الصلاحيات التي يجب استشارة الخبراء فيها وأخذ توصياتهم في الاعتبار ضمن تحديده لصلاحيات رئيس الجمهورية أو غيره من المسؤولين.

 

كما إن ثوابت الشريعة الإسلامية لا الاجتهاديات التي اختلف فيها الفقهاء تكون معايير على الرئيس وغيره أن لا يخالفوها. بالطبع هذا يختلف عن ولاية الفقيه عند إخوتنا الشيعة، حيث الفقيه هو ولي أمر الأمة وصاحب الكلمة الأخيرة، وهذه الولاية هي استمرارية أو بدل مؤقت عن ولاية الإمام من أهل البيت الذي يعتقد المؤمنون أنه معصوم والله يهديه دائماً للحق والصواب. لذلك مهما كان هنالك من آليات ديمقراطية ومناصب نظيرة لما في الدول الديمقراطية كما هو الحال في جمهورية إيران الإسلامية، فإنها تبقى ديمقراطية مزيفة لأن الفقيه هو الذي يحكم ويمتلك السيادة بحكم ولايته على الأمة، بينما الأمة لا تحكم نفسها بنفسها، وحكم الأمة نفسها بنفسها هو جوهر الديمقراطية.

 

ثم إن الشورى هي كالديمقراطية لا حياة لها إلا في بيئة حرة يأمن فيها الإنسان على نفسه مهما كان الرأي الذي سيعطيه، أي حرية اعتقاد وتفكير وتعبير حقيقية لا مزيفة للخداع وذر الرماد في العيون.

 

من هم الذين يستشيرهم الحاكم في شؤون البلاد؟ إن له أن يستشير كل من توسم عنده الحكمة وتوقع أن يسمع منه شيئاً مفيداً. أيام الخلفاء الراشدين كان الذين يُستشارون أغلب الأحيان هم من أطلق عليهم العلماء الذين كتبوا عن السياسة الشرعية لقب أهل الحل والعقد. في زماننا يحتاج الرئيس مستشارين سياسيين متخصصين أو زعماء أحزاب موالية أو معارضة، ومستشارين دينيين من علماء الهيئة الدينية، ومستشارين في العلوم المختلفة. يمكنه أن يعين من هؤلاء مستشارين متفرغين أو يستشير بعضهم دون أن يتفرغوا لهذا العمل. أما الذين يحلون ويعقدون أي نواب البرلمان وأعضاء مجلس الشورى أو الشيوخ فالذي يعيّنهم هو الشعب بالانتخاب المباشر، وبهذا تشارك الأمة كلها في التفكير في أية مشكلة تواجه البلاد.

 

الديمقراطية الإسلامية

الديمقراطية تعني «حكم الشعب بالشعب وللشعب»، أي الأمة هي وليّة أمر نفسها، أما رئيسها وباقي المسؤولين فهم موظفون عند الأمة، لا يحق لهم أن يستبدوا بالقرارات الهامة، بل يرجعون إلى الأمة يستأمرونها، أي يطلبون أمرها، هل توافق على ما يقترحون فعله، أم لا توافق، كما يأخذون في اعتبارهم رأي الأمة المسمى في هذا العصر "الرأي العام"، فيعملون على الاستجابة له، أو على تبصير الأمة بخطئه إن كان خاطئاً.

 

ورجوعهم إلى الأمة يكون إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. المباشر يكون عن طريق الاستفتاء الشعبي، حيث لكل فرد راشد صوت يدلي به مع المشروع المقدم أو ضده، وهذه الطريقة مكلفة في الجهد والمال، لذلك يتم اللجوء إليها في القضايا المصيرية وما في حكمها. أما الطريقة الثانية للرجوع إلى الأمة واستئمارها، فعن طريق طرح المشروع على مجلس منتخب من ممثلي الأمة، يجتمعون تحت قبة واحدة، جلسة أو جلسات عديدة، يتحاورون، ويدلي كل منهم برأيه، بصفته وكيلاً عن الأمة التي اختارته ليمثلها.. وبعد النقاش والجدال، تُطرح القضية للتصويت، فإن نالت موافقة أغلبية أعضاء البرلمان، تم إمضاؤها، وأصبحت قراراً نافذاً، لم ينفرد باتخاذه لا الرئيس ولا غيره، بل اتخذته الأمة بنفسها ممثلة بنوّابها، وبهذا تكون الأمة حاكمة نفسها، وتتحقق الديمقراطية، وينتفي الاستبداد، فتكون القرارات أقرب للصواب ولتحقيق مصلحة الأمة أكثر بكثير، مما لو اتخذها رئيس مستبد برأيه، قد يدفعه هواه لما ليس في صالح الأمة.

 

يمكن للديمقراطية أن تكون علمانية لا تستمد القوانين من الشريعة، لكنها أيضاً يمكن أن تكون إسلامية تقرر فيها الأمة تطبيق الشريعة على نفسها، أي هي تحكم نفسها بالشريعة التي أنزلها الله، وهذا يعني أن الديمقراطية ليست ضد الشرع، إنما هي ضد الاستبداد والتفرد بالرأي وفرضه على الأمة، وما ينتج عن هذا الاستبداد من ظلم للكثيرين من أبناء الأمة، ومن استئثار فئة قليلة بخيرات الأمة وحرمان باقي الأمة منها.

 

أما الشورى التي هي من مبادئ الإسلام الأساسية، فإنها تختلف عن الديمقراطية، وليست بديلاً عنها، بل هي مكملة لها. الشورى هي استشارة الآخرين، وجمع أفكارهم وآرائهم، يستعين بها الإنسان على اتخاذ القرار الصائب في القضية التي يبحث فيها. هو يأخذ آراء الخبراء والحكماء والوجهاء، لكنه، وكما كان الحال في الخلافة الإسلامية، يبقى هو من يقرر، وهو من يختار من الآراء التي سمعها ما يريده.

 

أي الشورى في الأصل ليست مُلزمة.

 

أما إن جعلناها مُلزمة للرئيس، بحيث عليه تقرير ما أشارت به الأكثرية، ولا يحق له أن يخالف هذه الأكثرية، فإن الشورى المُلْزِمة هي الديمقراطية ذاتها.

 

على مدى القرون الطويلة، كان خليفة المسلمين هو ولي أمرهم، كما يكون الأب ولي أمر أولاده، أي هو صاحب الأمر والنهي، فإن استشار غيره كان مهتدياً بهدي الإسلام، حتى لو لم يلتزم برأي الأكثرية، بل مال إلى رأي قال به واحد أو فئة قليلة، أو إلى أمر لم يُشِر به عليه أحد، فيقرره وعلى الأمة طاعته. لو كانت الشورى مُلزمة للحاكم لا يحق له أن يخالفها، فإنه حينها لا يكون ولي الأمر، فهو ليس صاحب الأمر، بل يشاركه فيه أهل الحل والعقد، أو زعماء الناس وحكماؤهم، أو جميع أفراد الأمة.

 

الديمقراطية هي أن تكون الأمة وليّة أمر نفسها، أي هي أمة راشدة، لم تعد قاصرة تحتاج لولي أمر يقرر لها، فقد بلغت سن الرشد، وتمارس حقها في اتخاذ القرارات الهامة بنفسها، وليس للرئيس إلا المشاركة في اتخاذ القرار باقتراحاته، ثم التنفيذ، وهذا سبب تسمية الرئيس والوزراء ومن يعمل معهم "السلطة التنفيذية". أما السلطة صاحبة الأمر والنهي، فهي الأمة يمثلها البرلمان، أو تشارك كلها من خلال الاستفتاء الشعبي. وبما أنه لا يُسَنّ قانون إلا من قبل البرلمان، لذا يسمى نواب الأمة المنتخبون "السلطة التشريعية". هي تشريعية لا بمعنى أنها لا تأخذ بشرع الله وتستغني عنه، بل بمعنى أنها تسن القوانين، التي من خلالها، يتم تطبيق الثابت من أحكام الشرع، وتجتهد هي بسَنّ القوانين فيما عفا الله عنه وسكت، رحمة بنا لا نسياناً، وبقيت متروكة لحكمتنا نحن المستخلفين في الأرض من قبل خالق الأرض والسماء.

 

لا تقتصر الديمقراطية على مجرد حق الأمة في اختيار رئيسها كما اختار المسلمون الخلفاء الراشدين الأربعة، وخامسهم الذي جاء بعد حقبة، عمر بن عبد العزيز، فهم الذين تولوا أمر الأمة برضاها، فكانوا حكاماً شرعيين حقاً، لكن الديمقراطية تمتد فتشمل وجوب رجوع الرئيس المنتخب ومن معه من حكومة إلى الأمة في كل قضية هامة لأخذ أمرها، لا مجرد رأيها.

 

باختصار، الديمقراطية هي «الشورى اللازمة المُلزمة»، هي الشورى الواجبة على الحاكم، والواجب عليه الأخذ بها، لا مجرد الاستئناس بها. هي شورى مفروضة على الحكومة وليست مجرد تواضع منها، وهي مُلزمة لأن الأمة لا تعطي رأيها ومقترحاتها، بل تُصدر أوامرها وقراراتها. لذا علينا ألا نتحسس من الديمقراطية، ظانّين أنها تناقض الإسلام ودخيلة عليه. ليس هنالك كلمة عربية أصيلة تترجم كلمة ديمقراطية الأجنبية، فقام الناس بتعريب الكلمة الأجنبية، وبقيت متنافرة لغوياً مع مصطلحات الشرع، وإن كانت في حقيقتها ليست إلا من مبادئ الشرع، فهي «الشورى اللازمة المُلزمة»، أليست الشورى من صميم ديننا الحنيف؟

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
* كود التحقق
 
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة