المقالات
الموت فراق لا انتهاء
Whatsapp
Facebook Share

الموت فراق لا انتهاء

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

عندما يخشى الإنسان أن يفقد شيئاً مهماً، فإنه يحس بالقلق النفسي، أما إن فقده، ويئس من استرجاعه، فإنه معرض لأن يعاني من الاكتئاب النفسي، حيث تسود الدنيا في عينيه، ويغلبه التشاؤم، وتهبط معنوياته، ويغمره الحزن، ويفقد الرغبة في متع الحياة، من طعام، أو شراب، أو تسلية، أو غير ذلك من المتع التي أحلها الله للإنسان.

 

وقد يسيطر عليه التفكير في الموت فيتمناه، ويراه خيراً من حياة خالية من السعادة، وربما فكر في الانتحار تفكيراً  جدياً ، وقد يقتل نفسه بيده.

 

وتضعف ثقة المكتئب بنفسه، فيصير متردداً، لا يجرؤ على اتخاذ القرارات، خشية أن يقع في الخطأ، ويغمره إحساس بالذنب، ولوم لنفسه لا تستحقه، ويبكي لأبسط الأمور، وتضعف قواه البدنية، كما يضعف تركيزه الذهني، وذاكرته، ويصبح نومه قليلاً  مضطرباً... إنه باختصار إنسان بائس، حزين يائس.

 

ومن بديع صنع الله تعالى: أن الإنسان يحس بالسرور أو الحزن نتيجة تفاعلات كيميائية، ونشاطات كهربيةٍ، وغير ذلك مما يقع من أحداث فيزيولوجية في دماغه.

 

صحيح أن أحداث الحياة، وما تدعو إليه من سرور، أو حزن، هي التي تثير تلك النشاطات في دماغ الإنسان، لتجعله يحس بالمشاعر المفرحة، أو المحزنة، لكنه في بعض الحالات يمكن للإنسان أن يعاني من مشاعر الحزن، واليأس، وجميع أعراض الاكتئاب النفسي، دون أن يكون في حياته ما يدعو إلى ذلك، ودون أن يخسر غالياً، لا مادياً ولا معنوياً، إنما يكون اكتئابه مرضاً مثل باقي الأمراض التي تصيب الإنسان، والخلل والاضطراب في هذه الحالة واقع في عمل الدماغ -آلة الفكر والشعور- وعندها تكون الأدوية النفسية، ونوبات الصرع المحرضة بالكهرباء خير علاج، ويكون فيها الشفاء بإذن الله.

 

لكن الاكتئاب النفسي، يكون في أحيان كثيرة رد فعل على خسارة مادية أو معنوية، تعرض لها الإنسان، كمن يكتئب بعد خسارة مالية، أو بعد فقد عزيز بالموت، أو السفر، أو بانفصام العلاقة معه، أو بعد فقد عضو من أعضاء البدن، أو بعد فقد القدر والمكانة، نتيجة مصائب الحياة.

 

وفي هذا النوع من الاكتئاب النفسي الذي يسميه الأطباء النفسيون "الاكتئاب التفاعلي" تعظم أهمية المنظور، الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الحياة وما فيها، ويبرز دور العقيدة التي يؤمن بها.

 

فالدين وطريقة التفكير، يؤثران في نظرة الإنسان إلى الأمور، وفي رؤيته لها،  فحيث يمكن أن يرى إنسان ما في مصيبة وقعت له نهاية العالم، يراها إنسان آخر من منظوره المختلف مجرد مصيبة بسيطة، يمكنه أن يتكيف معها بسهولة، ويمر فيها بأقل قدر من المعاناة.

 

ومن أهم أسباب الاكتئاب التفاعلي الناتج عن أحداث الحياة: فقد عزيز بالوفاة.

 

فالموت خسارة تبدو للوهلة الأولى نهائية، لكن المؤمن لا يرى في الموت إلا فراقاً يكون بعده اللقاء، وإن كان اللقاء سيتم يوم القيامة، فذلك لا يعني أن الفراق سيطول آماداً بعيدة، إذ لا يفصل أحدنا عن يوم القيامة إلا أن يموت، وعندها لا يشعر بمرور آلاف السنين أو ملايينها، إلا كما تمر الساعة على نائم ما لبث أن أفاق.

 

عندما توفى إبراهيم ابن النبي محمد ﷺ، وفاضت عيناه بالدموع حزناً عليه قال: "...إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ.(رواه البخاري).

 

فالمؤمن يؤلمه الفراق، وهذا أمر طبيعي، لكن إدراكه لاستمرارية الوجود الإنساني، وحتمية اللقاء بمن مات، يخفف من إحساسه بالخسارة، ويحميه من وساوس الشيطان، الذي يجدها فرصة مواتية ليبث في نفس الإنسان وساوسه، كي يجعله يحس أنه مخلوق تافه لا قيمة له، وأن جهده لا جدوى منه، ويبرر الشيطان ذلك، بأن الإنسان الذي تمتلئ نفسه بالأحلام والمشاريع، والذي تمتلئ حياته بالسعي والعمل والأهداف الكبيرة، تأتي يد الموت لتخطفه من هذا كله، غير مبالية بآماله، وطموحاته، ولا بجهوده وأعماله، ويقول الشيطان للإنسان: لماذا العمل؟ ولماذا الطموح؟ ما أنت إلا مخلوق ضعيف سيؤول كل جهدك إلى الزوال.

 

وما لم تكن النفس الإنسانية قد أشرقت بأنوار الإيمان، فإن الشيطان ينجح في جعلها تحس بأنها لا قيمة لها، مع أن الله كرمها، وضمن لها الخلود، واستخلفها في الأرض، وسخر لها ما في السموات والأرض.

 

وينجح الشيطان في جعل النفس التي تغفل عن حقائق الإيمان المشرقة، ينجح في جعلها تحس باللاجدوى في هذه الحياة، فتفقد الرغبة في أن تفعل شيئاً، طالما أنه لا جدوى من فعل شيء، وطالما أنه إلى زوال، لكن المؤمن يعلم كما علمنا رسول الله ﷺ أنه لو كانت بيده فسيلة، وكادت القيامة أن تقوم، فليغرسها، فإن له بها أجراً، مع أن زوالها سيكون بعد لحظات، فلا يهم المؤمن أن تفنى ثمار عمله الدنيوي، طالما أن مالك الدنيا والآخرة سيعطيه الأجر الكبير على كل عمل  صالح قام به.

 

قال رسول الله ﷺ: "إنْ قامتْ على أحدِكُم القِيامةُ، وفي يَدِه فَسيلةٌ فَليَغْرِسْها." (رواه أحمد).

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة