المقالات
اتخاذ القرار في الحياة الزوجية
Whatsapp
Facebook Share

اتخاذ القرار في الحياة الزوجية

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

تواجه الأسرة وبشكل دائم ومتكرر مواقف يلزم فيها اتخاذ قرارات متفاوتة من حيث الأهمية ومن حيث مقدار تأثيرها على حياة الأسرة، وهناك علاقة قوية بين القرارات والسرعة المطلوبة لاتخاذ القرار، حيث أن بعض القرارات لا تحتمل التأجيل ولو للحظات كقرار إخلاء البيت والخروج منه بجميع أفراد العائلة وأوراقهم المهمة إن كان هنالك حريق أو مجرد إنذار حريق، وهناك قرارات تحتمل الانتظار الطويل مثل تحديد البلد الذي ستشتري فيه العائلة منزلاً صيفياً وقرارات تحتمل الانتظار المتوسط كقرار الموافقة على خاطب تقدم لإحدى بنات العائلة.

 

والقرار هو اختيار من بين البدائل المختلفة ونحتاج إلى اتخاذه لحل مشكلة تواجهنا أو لتحقيق حاجة أو رغبة نريدها لأنفسنا ونشعر بافتقارنا إليها. و تتأثر عملية اتخاذ القرار من حيث السرعة والبطء ومن حيث النواحي الأخرى بشخصية المقرر وبقيمه وبأهدافه وبالمعلومات المتوفرة لديه بخصوص القرار المطلوب اتخاذه.

 

وبشكل عام فإن القرارات السريعة التي يصل إليها الإنسان باندفاع ودون تروٍ أو بحث هي قرارات أقل جودة من القرارات التي يصل إليها الإنسان بعد تفكير وتروٍ وبحث وتأمل وجمع للمعلومات واستشارة واستخارة، لأن العواطف تتدخل في القرارات السريعة أكثر مما تؤثر في القرارات المبنية على الروية والتفكير، لكن القرار السريع وقت الحاجة إليه لا يقدر بثمن لأن من مواقف الحياة ما لا يحتمل التأجيل في التقرير أبداً، فقد يكون الأمر إنقاذاً لروح أو لشيء ثمين أو اغتناماً لفرصة قد لا تتكرر مرتين.

 

ثم إن الخبرة وتكرار المواقف أو التدرب المسبق على التصرف الأمثل في موقف معين يساعد على اتخاذ القرارات السريعة السديدة، لأن الإنسان في الحالات الطارئة الخطيرة قد يصاب بالارتباك والحيرة رغم أنه يعرف الكثير مما يمكنه تطبيقه لإنقاذ الموقف، لكن الضغط النفسي الناتج عن هول الموقف قد يشل التفكير إلا إن كان قد سبق له المرور بمواقف مماثلة أو التدرب على مواقف مماثلة مصطنعة، وأكبر مثال على ذلك التصرف عند الحرائق حيث لوحظ في بعض الحرائق وجود أشخاص قد ماتوا اختناقاً خلف أبواب النجاة لأنهم حاولوا فتحها بدفعها فلم تنفتح رغم محاولاتهم المتكررة، لا لشيء إلا لأنها بكل بساطة تنفتح إلى الداخل وتحتاج الى الشد بدل الدفع كي تنفتح وينجو من حصرته النيران والأدخنة داخل المبنى بحياتهم. لقد عطل هول الموقف والتوتر النفسي الناشئ عنه قدرتهم على التفكير بالبدائل للحلول التي خطرت ببالهم فتصوروا أن الباب الذي دفعوه فلم ينفتح باب مقفل ولم يفكروا بحل بديل وهو سحب الباب وشده ولو على سبيل التجربة.

 

إن القرارات السريعة مطلوبة في مواقف الطوارئ وتكون عادة حيوية وهامة جداً، لكنها مهمة أيضاً في مواقف يومية متكررة صغيرة مثل بكاء الرضيع المتكرر ليلاً حيث يبدو للأب إزعاجاً يتمنى أن ينتهي، ولو كان مضطراً للعناية بالرضيع فقد يكون بطيئاً في استجابته واتخاذه لقرار النهوض والذهاب إلى الرضيع بينما تميل الأم إلى عدم التردد وعدم المماطلة وإلى الإسراع وكأنما دون تفكير في النهوض والعناية بالرضيع دون تذمر. ويبدو لي أن هنالك ميل لدى الأنثى إلى المسارعة في اتخاذ قرار رعاية شخص آخر يحتاج إلى رعايتها بينما يسارع الرجل إلى اتخاذ قرار المسارعة إلى نجدة أو حماية من يحتاج إلى نجدته، وقد يفقد الرجل حياته وهو يحاول إنقاذ غريق لا يعرفه، ورغم ادعاء الكثيرين أن القضية تربوية بحتة ومع أن ادعاءهم فيه شيء من الحقيقة حيث تساهم التربية مع البيولوجيا والتكوين البدني في صياغة شخصية الفرد فإن الوضع الأمثل يكون عندما تكرس المرأة جُل حياتها لأدوار الرعاية والحب و يكرس الرجل جُل طاقته لأدوار الحماية والكفاية، وعندها يكون كل منهما أقل تردداً ويكون أسرع استجابة للمواقف المناسبة لميوله وفطرته، والاستجابات هي في الغالب استجابات إرادية وكل فعل إرادي لابد له كي يتحول إلى واقع من القدرة عليه والقرار -أي الإرادة- أن يفعل الإنسان.

 

اتخاذ القرارات أمر يقوم به الإنسان كل لحظة لكن الذي يحتاج عادة إلى البحث هي القرارات الأقل حدوثاً والأكثر تأثيراً في حياة الإنسان أو الأسرة.

 

وتمر عملية اتخاذ القرار عادة بمراحل وتكون في حالتها المُثلى إن تضمنت ما يلي:

  • تحديد القرار المطلوب وضرورة اتخاذه والمعلومات اللازمة والمتوفرة من أجل اتخاذه.

  • تقدير الموارد المتوفرة ومدى كفايتها لتحقيق القرار، فالتي تقرر متابعة دراستها الجامعية عليها تحديد قدرتها وقدرة زوجها على تكاليف ذلك وتكاليف ما يتبع ذلك مثل الحاجة إلى خادمة مقيمة في البيت أو تأتي وتذهب إلى غير ذلك من أمور لابد منها لتحويل القرار إلى واقع.

  • الأخذ في الاعتبار للبدائل المختلفة للقرار (هل يتزوج بثانية بعد إخفاق كل محاولات الإنجاب أم يتخلى عن حلمه بالأولاد).

  • التفكير في أبعاد القرار ونتائجه وتخيل ما سيحدث إن اتخذ قراراً معيناً وتخيل عواقبه قبل اتخاذه كي يفاضل بين البدائل المتاحة.

  • التأكد أن النتائج الإيجابية للقرار تفوق السلبية وإلا فالذي ضُرّهُ أكبر من نفعه عدمه أولى و تركه أجدى.

  • وضع خطة لتنفيذ القرار لأن القرار الذي لا ينفذ إنما هو حلم يقظه وأمنية عاجز . وإن كان القرار خاصاً بأمر كبير فلابد من تقسيم الأمر إلى مراحل وخطوات والسير فيه من خطوة إلى أخرى حتى يتحقق كله.

  • في الطريق نحو الهدف يجب تقييم ما تم تحقيقه وإنجازه وقطعه من خطوات وإلا تحولت القرارات إلى أحلام ميتة.

 

ومن ناحية دور القيم والمبادئ والدين والأذواق في التأثير في اتخاذ القرار يجب أن نذكر أن لكل إنسان خطوطاً حمراء لا يتجاوزها عادة في سلوكه، ولكل إنسان نظرة إلى الحياة تجعله يرى شيئاً معيناً أهم من شئ آخر، فالغيور على زوجته يفضل أن يتعب نفسه وأن يأخذها بنفسه إلى الأسواق لتشتري ما تحتاج إليه ويكون قراره أن يسمح لها بقيادة السيارة والذهاب وحدها إلى الأسواق شيئاً مستبعداً تماماً دون أي تفكير أو اعتبار لهذه البدائل. وكذلك تؤثر القيم في اتخاذ قراراتنا اليومية والحياتية الكبرى في حياتنا الزوجية وغير الزوجية.

 

كما تتأثر سرعة التقرير بمدى الغموض المحيط بالقرار أو مدى توفر المعلومات اللازمة للوصول إلى قرارٍ ما، وإن كان القرار لازماً ومهما فقد يؤجل البت فيه ريثما تجمع المعلومات اللازمة؛ فالوالدان الحريصان على سعادة ابنتهما لن يتسرعا في الموافقة على خاطب مستعجل لها ما لم يكن معروفاً جيداً لهما وإلا خيروه بين رفضهم له أو الانتظار ريثما يجمعوا عنه المعلومات التي تجعلهم يوافقون بضمير مرتاح.

 

ثم إن الخبرة التي تتراكم مع السنين سواء في الحياة عموماً أو في مهنة معينة تجعل القرارات أسرع وأكثر حكمة وإصابة عادة ولو تمت بقليل من التفكير وهذه الحكمة يكتسبها الكثيرون مع التقدم في العمر نتيجة تراكم المعلومات والتجارب، وهي تزيد من قدرة الإنسان على اتخاذ قرارات هامة سريعة لكن الإنسان قد يتردد في اتخاذ القرار ويكون بطيئاً لأنه خائف من المجهول والتغيير الذي يتضمنه القرار أو لأنه خائف أن يخطيء في اتخاذ القرار ويكون موضع اللوم أو موضع المساءلة، أو لأنه معتاد على التسويف والتأجيل لانشغاله بأمور أخرى، أو لأنه فاقد للثقة بنفسه ولم يتعود على أن يتخذ قرارات خاصة به، وهذه مشكله ناتجة عن تربية لم تتح فيها فرصة الاستقلالية ولم تشجع وعن تربية كانت شديدة الهجوم على أخطاء الطفل دو ن التقدير لنجاحاته. وقد يتردد الإنسان عند اتخاذ القرار لأن الموقف كبير وضاغط على نفسه مما يشعره بالعجز والحيرة والارتباك.

 

وقد أطلق الباحثون على الحالة التي يتجنب فيها الإنسان اتخاذ القرارات والخوف من اتخاذها مصطلح رُهاب القرارات Decidophobia.

 

ورغم ذلك فإن الخير للإنسان أحياناً يكون في تأجيل اتخاذ القرارات وبخاصة إن كان غاضباً أو مجروح المشاعر أو مكتئباً أو يائساً أو خائفاً أو متألماً أو ناقماً أو غير قادر على التركيز والتفكير المنطقي السليم. والمريض بالاكتئاب النفسي عليه أن لا يتخذ أية قرارات هامة بما يخص حياته الزوجية (طلاق أو زواج بأخرى) ولا بما يخص مهنـته أو نواحي حياته الأخرى، لأن المصاب بالاكتئاب يتأثر بمزاجه المنخفض ويتخذ قرارات يندم عليها عندما يتحسن ويتمنى أن يعيد عجلة الزمن إلى الوراء كي يلغيها ويلغي آثارها في حياته.

 

ويجب عدم اتخاذ القرارات بناء على الحدس وما يوحيه القلب فقط إن كان العقل يعارضه. والقلب يصدق في مخاوفه أو ارتياحه في كثير من الاحيان لكن يجب عدم الاعتماد عليه وحده ولابد من إعمال العقل معه، فإن اجتمعا على قرار معين فالأغلب أنه قرار صائب لكن إن تعارضا فالحذر وجمع مزيد من المعلومات واستشارة الآخرين واستخارة الخالق ستساعد في الوصول إلى القرار السليم.

 

ومما يؤثر في سرعة اتخاذ القرارات ما يسمى في علم النفس بصراع الإقدام والإحجام حيث يتصارع في النفس دافعان أحدهما يدفع الإنسان نحو فعل شيء معين رغبة في حاجة نفسية يحققها من خلاله والآخر يدفعه بعيداً عن هذا الفعل خشية عواقب معينة، وإذا ما تساوى الداعي (دافع الإقدام) مع الناهي (دافع الإحجام) كانت الحيرة شديدة والتردد لا نهاية له وأدى ذلك إلى بطء كبير في البت في الأمر.

 

ومما يؤثر في سرعة اتخاذ القرار وسلاسة هذه العملية الآليةُ التي من خلالها يتفق الزوجان على القرارات بحيث لا يكون بينهما صراع: كل منهما يريد قراراً مختلفاً. والعلماء لاحظوا لجوء الأزواج والزوجات إلى عوامل متنوعة لجعل الطرف الآخر يوافق على القرار الذي يميل له أحدهما، وأول هذه العوامل وخاصة في مجتمعاتنا الإسلامية عامل الشرع وكون القوامة في الأسرة للرجل بنص القرآن الكريم، وثاني هذه العوامل الإقناع والتشاور وثالثها المحبة والحرص على رضا المحبوب ورابعها الخبرة والتخصص وخامسها الترغيب والترهيب أي المكافأة والعقوبة.

 

ورغم أن القوامة للرجل بنص القرآن الكريم لكن الزوج الذي يستأثر بحق اتخاذ القرارات ويستبد في ذلك أو يتعسف انطلاقاً من هذا الحق يجعل الزوجة تعيسة معه وقد تؤثر السلامة فتطاوعه وهي في داخلها كارهة لذلك وقد تختار الصراع معه لفرض وجهة نظرها وفي الحالين يكون الأثر سلبياً على الحياة الزوجية وعلى سرعة الوصول إلى قرار.. ولئن كانت الزوجة مدعوة إلى التقرب إلى ربها بطاعة زوجها فإن الزوج مدعو إلى أن لا يلجأ كثيراً إلى حقه الشرعي في أن يطاع دون مراعاة لرأي زوجته ورغباتها، فهي إنسان مثله وهي شريك حياته ولها في الزواج مثل ماله، والأولاد أولادها كما هم أولاده... والزوج مدعو إلى اللجوء إلى الوسيلة الثانية أي الحب حيث تطاوعه زوجته حباً منها له أو يطاوعها حباً منه لها "كوني له أمة يكن لك عبداً".. وأذكر أني قرأت مرة أن النبي ﷺ رغب في إحدى الليالي أن يقوم الليل بدلاً من أن يعاشر زوجته المعاشرة الزوجية التي هي من حقها طالما كانت الليلة ليلتها، وكانت هذه الزوجة عائشة رضي الله عنها، فاستأذنها النبي ﷺ أن يصلي فأجابته "أهواك وأهوى هواك" ويقال أيضاً "إن المحب للمحب مطيع" وهذا يفسر التفاهم وعدم شعور أي من الطرفين أن الآخر يحاول أن يفرض عليه آراءه، بل تكون المسايرة وبكل سرور في مرحلة الرومانسية سواء قبل الزواج أو بعده.. وإذا دامت المودة بين الزوجين حرص كل منهما على أن لا يُكره الآخر على شيء وعمل ما يستطيع ليشاركه الآخر في الرأي واتخاذ القرار. أما الزوج الذي يستخدم عضلاته ونبرة صوته القوية والتهديد ليحتفظ لنفسه بحق اتخاذ القرار أو الذي يشتري موافقة الطرف الثاني بمكافأة مالية أو غير مالية فإنه يفوز بحق اتخاذ هذا القرار لكنه يخسر سعادته الزوجية، لأن الأسر التي تقوم العلاقة فيها على الترهيب والتخويف أو على الرشوة أسر غير متفاهمة وأسر ليس فيها مودة ولا رحمة. وقد يقوم أحد الزوجين باتخاذ القرار لأنه الخبير في هذا النوع من الأمور إذ إن بعض الأمور يعرفها الرجال عادة وحدهم أو هي من صميم مهنة أحد الزوجين أو هي أمور نسوية بحتة، لكن هذا شيء قليل الحدوث بالنسبة للقرارات التي يجب أخذها بالتراضي والتشاور وإن كان حق الزوج محفوظاً في أن يرجح رأيه عند تعذر الاتفاق ولكن ليس منذ الجولة الأولى.

 

وعند اختلاف الزوجين في سرعة اتخاذ القرار يجب البحث عن سبب الاختلاف، فهو إما اختلاف في تقدير أهمية الموضوع الذي يجب اتخاذ القرار فيه أو هو بسبب استعجال أحدهما وميل الآخر للتروي لأهمية القرار المطلوب اتخاذه، أو لأن الطرف الأخر مكتئب وفاقد للدافعية أو الرغبة والاهتمام، أو لأنه قلق ووسواسي ودائم التفكير في الاحتمالات السلبية، وما عدا حالة المرض التي تحتاج إلى علاج أو إلى استئذان الطرف الأخر بأن يتخذ الطرف المعافى القرار فإن باقي الحالات تحتاج إلى الحوار وليس الجدال وإلى تبادل المعلومات من أجل تسريع عملية اتخاذ القرار. ويجب عدم اللجوء إلى وسائل خرافية للخروج من التردد، ولا الهروب من اتخاذ القرار والاستسلام للأقدار وترك الأمور تحدث وحدها وما على الزوجين إلا التأقلم والتكيف، إن هذا يسمى في حديث النبي ﷺ العجز، لكن التفكير والتخطيط وبذل الجهد يسمى الكَيْسُ والمؤمن كَيِّسٌ فَطِنٌ، أي يفر من قدر الله إلى قدر الله، و يكون فاعلاً لا منفعلاً منقاداً للأقدار لا يساهم فيها بجهده وقراراته.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة