المقالات
الأبعاد النفسية للرياضة في الحياة الزوجية
Whatsapp
Facebook Share

الأبعاد النفسية للرياضة في الحياة الزوجية

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

قديماً لم يكن النَّاس في حاجةٍ إلى الرِّياضة بالقَدْرِ الّذي صِرنا نحن في حاجةٍ إليها. لقد كان الجميع نساءً ورجالاً يقومون بأعمالٍ بدنيَّةٍ يوميَّةٍ فيها من الجهد ما يُماثِل الجهد الّذي يبذله من يمارس الرِّياضة البدنيَّة، وفيها من الاستغراق والانهماك ما يكفي للتّقليل من انشغال النّفس بالهموم والمشاعر السّلبيَّة كالقلق والاكتئاب والتّوتُّر... لكن في عصرنا هذا قلَّ عناؤنا الجسديِّ وكَثُرَت الضّغوط النّفسيَّة علينا، وصِرْنا نعمل بعقولنا وأعصابنا أكثر بكثيرٍ ممّا نعمل بعضلاتنا ومهاراتنا اليدويَّة، وبذلك صِرْنا أكثرَ تعرُّضاً للتّوتُّر النّفسيِّ وللتّرهُّل الجسديِّ، ولِمَا يُنْتِجُ عنهما من آثارٍ سلبيَّةٍ في جميع جوانب حياتنا وأوَّلها حياتنا الزّوجيَّة، لذا فإنَّ البحث في آثار الرِّياضةِ على الحياة الزّوجيَّة ليس من قبيل التّكلُّف واصطناع القضايا أو المُبالغة فيها.

 

وأوّل الآثار النّفسيَّة المُفيدة للرِّياضة البدنيَّة في الحياة الزّوجيَّة يتجلّى في أنَّ هذه الرِّياضة قد تكون نشاطاً مشتركاً يقوم به الزّوجان سويّةً، وربّما شارك فيه الأولاد أيضاً، وهذه المُشاركة في النّشاطات أو حتى الأعمال اليوميّة الواجبة تُشَكِّل مناسبةً لممارسة التّقارب العاطفيِّ والنّفسيِّ ولتعميق المودّة من خلال الانهماك في الشّيء ذاته والاستمتاع بالنّشاط نفسه، وهذا يعني المزيد من الشّعور بالتّشابه في الميول والاهتمامات والمزيد من الإحساس أنَّ طريق الزّوجين في هذه الحياة طريقٌ واحدٌ ورحلتهما مشتركةٌ وغايتهما تقع في اتّجاهٍ واحدٍ... إنَّ المُشاركة والتّعاون الّذي يتمُّ خلالها، والقُرب والحضور الّذي يكون بين الزّوجين، يُوَحِّد ويُؤلِّف بينهما أكثر، ويُمَثِّل تجسيداً للحبِّ والودِّ الّذي يُضمره كلٌّ منهما للآخر.

 

لكن قد لا تُتاح الفِرصة لممارسة الرِّياضة للزّوجين مجتمعين في مكانٍ واحدٍ وزمانٍ واحدٍ، وعندها لا تكون هنالك "المُشاركة"، ورغم هذا يبقى للرِّياضة آثارها النّفسيَّة المُفيدة الكثيرة في الحياة الزّوجيَّة.

 

فالرِّياضة البدنيّة تُحَسِّنُ نظرة الإنسان إلى نفسه ورؤيته لها وتَصوُّره عنها، فالّذي يَنجح في ممارسة الرِّياضة بانتظامٍ يشعر أنَّه قد فعل شيئاً، وأنجز إنجازاً ذا قيمةً يَحقُّ له أن يعتزَّ به في هذا العصر، حيث صارت الرِّياضة دليلاً على الحيويّة ونَفياً للكسل ومُؤشِّراً على التّحضّر والوعي، هذا بالإضافة إلى الشّعور الفِطري بالاقتدار والقوّة والفاعليّة الّتي يُحِسُّ بها كلُّ من يقوم بعملٍ يعتبره مُهمَّاً وبارعاً وبحاجةٍ إلى المهارة أو إلى الإرادة والعزيمة؛ إنَّها تكون بذلك شكلاً من أشكال تحقيق الذّات، حيث تَظهَر الطّاقات الكامنة لدى الإنسان إلى حيِّز الواقع والوجود، ولتحقيق الذّات مُتعَتُه، وللشّعور بالقدرة لذَّته، وللإنجاز جائزته من الرِّضا عن النَّفس والاعتزاز بها والشّعور بأنَّها قريبةٌ من الحال الّتي يحلم الإنسان أن يكون عليها، وكلَّما قلّت الفَجوة بين أنفسنا كما نراها وأنفسنا كما نتمنّاها ازددنا تقديراً لأنفسنا ورضاً عنها، وقلَّ القلق لدينا وتمتّعنا باطمئنانٍ وسكينةٍ وبهجةٍ.. وهذا كلّه يجعل منّا أزواجاً وزوجاتٍ أفضل، ويكون كلٌّ منّا أكثرَ جاذبيّةً وصحبته أكثرَ إيناساً وإمتاعاً، حيث النّفس الرّاضية عن ذاتها المُبتهجة والسّعيدة بما فيها من صفّات، وإنَّ أشدَّ ما يُضعِف جاذبيّة الإنسان لغيره وبخاصّةٍ في العلاقات بين الزّوجين أن يكون لديه إحساسٌ بالنّقص والدّونيّة، فلا يرى نفسه جديراً باهتمام الآخرين ومحبَّتهم وانجذابهم إليه، والبشر مفطورون على الانجذاب إلى القَيِّم الغالي النّفيس لا إلى الرّخيص الوضيع، والّذي يرى نفسه قليلة القيمة وكأنَّها بضاعة فيها عيبٌ وتَلفٌ يكون أقلُّ جاذبيّةً ممّا لو قدّر نفسه حقَّ قدرها دون أن يظلمها في حكمه عليها.

 

إنَّ الرِّياضة بما تُحقِّقه لمن يُمارسها مِن تَحَسُّن في تقديره لذاته تجعل الحياة الزّوجيّة أكثرَ سعادةً، وتجعل العلاقة بين الزّوجين أكثرَ إشباعاً.

 

وقد أثبت الدِّراسات الفيزيولوجية أنَّ ممارسة الرِّياضة البدنيّة ترفع مستوى مادّة (المورفين الدّاخلي بيتا)، الّذي هو أحد الموادّ الطبيعيّة الموجودة في أدمغتنا وأجسادنا وتشبه في تاثيرها مادّة المورفين الطّبيعي النّباتي، لكنَّها تَفوقه في التّأثير أكثر من مائة ضعفٍ، ومن خلالها يتمُّ تحسين المزاج وتسكين الألم ورفع المعنويّات، والرِّياضة تجعل الجسم يُوَلِّد كميّاتٍ زائدةً من المورفين الدّاخلي هذا، ولعلَّ هذا أحد أسباب الانشراح والرّاحة وزوال القلق وتَحَسُّن المزاج الّذي يَشعر به الإنسان بعد الرِّياضة البدنيّة، والّذي قد يدوم عدّة ساعاتٍ أو حتّى طيلة اليوم، لذا ينصح الأطباء مرضاهم الّذين يُعانون من القلق أو الاكتئاب بممارسة الرِّياضة البدنيَّة، ومن جهةٍ أُخرى فإنَّه يُعتقَد أنَّ الرِّياضة تُريح عضلاتنا من توتُّرها من خلال ما تؤدِّي إليه من ارتفاعٍ في حرارة الجسم، حيث يقوم الدفء بفعله على العضلات المشدودة بسبب الضّغوط النّفسيَّة الحياتيَّة، وهذا يُشبه الارتياح الّذي يحصل عليه من يأخُذ حمّام "ساونا" أو حماماً في مَغطسٍ حارٍّ.

 

كلَّها تفسيراتٌ لحقيقةٍ ثابتةٍ هي أنَّ الرِّياضة البدنيَّة تُحَسِّن المزاج وتُخفِّف التَّوتُّر والقلق والاكتئاب، ولا يَخفى على أحدٍ منّا ما يُمكن أن يَنتُج عن ذلك من آثارٍ إيجابيَّةٍ في الحياة الزّوجيّة الّتي صارت في هذا العصر تَئِنُّ تحت ضغوط الحياة، وربّما لا يجد الزّوج أو الزّوجة من يُفَرِّغ فيه توتُّره وغضبه إلّا شريك حياته، لذا تكون الرِّياضة البدنيّة مُتَنَفَّساً وصمام أمانٍ تتخلَّص عن طريقه النّفس من بعض توتُّرها، وبالتّالي تستطيع هذه النّفس أن تكون أقدر على حُسْنِ المُعاشرة والمُخالطة والصّبر والتّسامح والتّقَبُّل للزّوج أو الزّوجة.

 

والرِّياضة المُعتدلة تَزيد الجسم لياقةً وجمالاً وجاذبيَّةً للجنس الآخر، وهذا ينطبق على الرَّجل والمرأة سواء، حيث تُعَدِّل الرِّياضة من نسبة الدّهون إلى غيرها من أنسجة الجسم كالعضلات والعظام، والرِّياضة بذلك تَزيد الجسم قوّةً وجمالاً حتّى لو لم يَنقُص الوزن، لأنَّ العِبرة ليست في الوزن بحدِّ ذاته بل بتناسب الجسم من حيث وزن الدُّهون الّتي فيه ووزن العضلات والعظام، والرِّياضة تُصحِّح الخلل في هذه النِّسبة، هذا الخلل النَّاتج عن حياة الكسل البدنيِّ والانشغال العقلي والتّوتُّر النّفسيِّ الّتي يجد أكثرنا نفسه مضطرّاً لأن يعيشها. والجمال واللّياقة اللّذين تمنحهما الرِّياضة للزّوجين لهما أكبر الأثر في زيادة الجاذبيّة الجنسيّة بينهما، وفي جعل حياتهما الجنسيّة أكثرَ متعةً وإشباعاً وبالتّالي أكثر إحصاناً وإعفافاً لكلٍّ منهما.

 

لكن لا بدَّ للرِّياضة حتّى تُؤتي ثمارها الطَّيِّبة في الحياة الزّوجيَّة، من أن تُمارَس باعتدالٍ وبدافع المتعة والصِّحَّة واللّياقة، أمّا ممارستها بإفراطٍ بحيث تُصبح الهمّ والشّغل الشّاغل، وبحيث تُصبح المحور الّذي يُنظِّم حوله الإنسان باقي نشاطاته وأعماله وعلاقاته، فإنَّها عند ذلك تُصبح إدماناً من الإدمانات لا يستطيع الإنسان تركها ليومٍ أو يومين دون المعاناة النّفسيَّة وهبوط المعنويّات وهبوط التّقدير للذّات. 

 

ومِن جهةٍ أُخرى فإنَّ البعض يُمارس الرِّياضة في إطارٍ نرجسيّةٍ وحبٍّ للنّفس وتدليلٍ لها واهتمامٍ بها وبخاصّةٍ من النّاحية الجسديّة والشّكليّة، يجعل هذا الإنسان شخصاً فاقد القدرة على الاهتمام بغيره وعلى منح الحبِّ والرِّعاية لزوجٍ أو زوجةٍ. والرِّياضة في هذه الحالة تزيد الزّوجين بُعداً ولا تزيدهما قُرباً، لأنَّها صورةٌ من صور الدّوران والتّمحوُّر حول الذّات والانشغال بها والإعجاب المُفرِط بكمالاتِها الموهومة، والحرص على تدليلها دون القدرة على العطاء العاطفيِّ للآخرين من زوجٍ وولدٍ، ويُقابل هذه النّرجسيّة عُقدةٌ أُخرى نَقيضةٌ تدفع البعض إلى المُبالغة في الرِّياضة وهي عدم الإعجاب بالنّفس، وكراهيّة النّفس وبخاصّةٍ الجانب الجسديِّ منها وعدم تَقَبُّلِها، ممّا يجعل الشّخص يُمارس التّدريبات الشّاقّة الطّويلة من أجل أن يُغيِّرَ شكله ووزنه دون داعٍ، إذ يتوهَّم هذا الشّخص أنَّ الحياة ستكون سعيدةً والناس سيتقبّلونه ويُحبُّونه في حالةٍ واحدةٍ فقط وهي أن يتخلّص من وزنٍ يراه زائداً أو خصرٍ يراه ثخيناً أو غير ذلك من عيبٍ في جسده ناتجٍ عن تَوزُّع الدّهون فيها، مع أنَّ النَّاس لا يُعجَبون ببعضهم بعضاً ولا يحبُّ بعضهم بعضاً على أساس الوزن والخَصر وشكل أجزاء البدن الأُخرى، وإن كان للجمال الجسديِّ أهميَّته لكن لصفات الإنسان الأخرى أهميَّة هي في الغالب أكبر بكثيرٍ.

 

الرِّياضة الّتي تُمارَس من أجل الصِّحَّة والمُتعة وبالتّالي تُمارَس باعتدالٍ، رياضةٌ تُفيد الحياة الزّوجيّة وتملؤها بهجةً، أمّا الّتي تُمارَس بدوافع مرضيّةٍ ناجمةٍ عن عُقَدٍ نفسيّةٍ فإنَّها عَرَضٌ ومظهرٌ من مظاهر العِلَّة الأصليّة، وإذا بلغت حدَّ الإدمان الّذي يُلهي ويُنسي ويُنافس ما هو أهم، فإنَّها بالتّأكيد لن يكون لها الأثر الإيجابيِّ نفسه في الحياة الزَّوجيّة.

تعليقات

لا توجد تعليقات بعد


تعليقك هنا
* الاسم الكامل
* البريد الإلكتروني
* تعليقك
 

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة