أنواع القلق الإنساني
أنواع القلق الإنساني
Whatsapp
Facebook Share

أنواع القلق الإنساني

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

  1. القلق الظرفي
  2. القلق الوجودي
  3. القلق المرضي

 

القلق عند الإنسان ثلاثة أنواع: الظرفي، والوجودي، والمرضي.

 

1. القلق الظرفي

 

وهو القلق الذي يخطر ببالنا كلما تحدثنا عن القلق النفسي، فما منا من أحد إلا ومر بظروف أصابه فيها القلق على شيء معين مهم.

 

كالذي يشعر بالقلق عند الامتحان، لأنه لا يضمن النجاح، ويخشى الرسوب والإخفاق، فينتابه شعور متردد، بين الخوف وتوقع الرسوب، والطمأنينة والثقة وتوقع النجاح.

 

وهكذا هو، لحظة يتشجع ويتفاءل، وأخرى يركبه الهم ويتوقع الرسوب.

 

أما إن قلت ثقته بنفسه أكثر، فإن خوفه وتوقعه للرسوب يسيطر عليه أغلب الوقت، أو كل الوقت، ويتحول القلق لديه إلى خوف شديد، ورعب، وهلع، فيشله شلاً، ويتعذر عليه الأداء في الامتحان، ويكون رسوبه مؤكداً، ما لم يهدأ، ويتشجع من جديد.

 

قلق الامتحانات، مثال يسهل علينا جميعاً فهمه، طالما تعلمنا في المدارس، وخضنا تلك الخبرات والتجارب، لكن القلق الظرفي متنوع، فالذي عليه إجراء عملية جراحية لا يضمن الطبيب نتائجها، أو يخشى من حدوث اختلاطات لها غير سارة، أو أنها عملية لطفله الحبيب، أو لزوج غال لا يتصور الإنسان الحياة من دونه، أو القلق على بضاعة استوردها تاجر، لا يضمن هل ستباع كلها، وهل سيربح أم سيخسر.... إلى غير ذلك.

 

حتى قلق السيدة التي تستعد لاستقبال ضيوف أعزاء على وجبة غداء، تراها تنجز كل ما يتوجب إنجازه من نظافة، وترتيب، وطبخ، وتحضير، وتزين... قبل مجيء الضيوف؟، ترى هل سيعجبهم الطعام؟ ترى هل...؟.

 

أشياء كثيرة يمكن لمن شاء أن يقلق بسببها في ظرف كهذا.

 

وهكذا كل ظروف الحياة، يمكن للإنسان أن يجد فيها ما يدعو إلى القلق والتوتر.

 

أما الشفاء والوقاية من القلق الظرفي، فهو في التوكل على الله حق التوكل، وفي بذل الجهد الممكن إضافة للتوكل، ليتحقق ما أمر به رسول الله ﷺ، عندما سأله أحد أصحابه عما يفعل بناقته خلال فترة سيقضيها في مكان ما: هل يعقلها ويربطها إلى شيء ثابت كي لا تسرح وتشرد وتضيع عنه، أم يطلقها دون تقييد ويتوكل على الله. فقال له النبي الحبيب عليه الصلاة والسلام: "اعقِلْها وتَوَكَّلْ". أي: افعل الأمرين معاً.

 

اعقلها: لأن الحكمة والعقل السليم تقتضي ذلك، وتوكل على الله: لأن التوكل خلق المؤمن الذي يعلم أن رب العالمين محيط بكل شيء، وناظر لكل شيء، وعلى كل شيء قدير.

 

وهو سبحانه وتعالى يحب منا أن نعتمد عليه، ونتكل عليه، وهو يحب المتوكلين...

 

ثم إن الإنسان مهما أخذ من الأسباب، فإن العقل البشري يضع احتمالات لوجود نقص في الأسباب، والإعدادات التي اجتهد الإنسان فيها، إما لأنها فوق طاقته، أو لأنها خارج علمه، أو لأنه نسيها، أو غير ذلك من الاحتمالات التي يمكن أن تؤدي إلى نتائج لا تسرنا رغم أننا أخذنا كل الاحتياطات والأسباب التي نعرفها.

 

إذاً "اعقلها" وحدها لا تكفي كي ينعم الإنسان بالسكينة وراحة البال والطمأنينة، ولا بد لذلك من التوكل على الله، والثقة أنه سيختار لنا الأحسن، طالما أننا مؤمنون به، ومتوكلون عليه.

 

إن التوكل الحق على الله يضمن راحة البال، واطمئنان القلب، رغم كل الظروف.

 

فالشيطان لا سبيل له على القلوب المؤمنة المتوكلة، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)﴾ [النحل: 98 - 99].

 

إذا اجتمع الإيمان مع التوكل، كانت السكينة التي ما بعدها سكينة، وكانت الطمأنينة التي ليس كمثلها طمأنينة، رغم الظروف المختلفة التي تهز النفوس والقلوب.

 

وقد أشكل على البعض قوله ﷺ: "اعقِلْها وتَوَكَّلْ" وما روي عن عمر بن الخطاب: "إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة"، فاشترطوا لصحة التوكل على الله، أن يأخذ الإنسان بالأسباب، وإلاّ كان متواكلاً لا متوكلاً، وهذا غير صحيح على الإطلاق.

 

لأن مفهوم التواكل بمعنى التوكل على الله دون أخذ بالأسباب، لم يرد في القرآن الكريم، أو الحديث الشريف، بل وردت عبارة "فتواكلنا الكلام" في أحد الأحاديث بمعنى وكل كل منا الكلام إلى صاحبه يريده أن يبدأ الكلام قبل صاحبه.. فالتواكل هنا صيغة مفاعلة من وكل تعني اتكالهم على بعضهم بعضاً ولا علاقة له بالتوكل على الله لا مع الأخذ بالأسباب ولا مع تركها.

 

وقد سمى النبي محمد ﷺ، الأخذ بالأسباب "الكيس"، وسمى ترك الأخذ بها "العجز". وقال: "إنَّ الله يلومُ على العَجزِ، ولَكِن عليكَ بالكَيسِ، وإذا غلبَكَ أمرٌ فقُل: حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ" (رواه أحمد وأبو داود وغيرهما).

 

وقال ﷺ: "المؤمنُ القَويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ تعالى منَ المؤمنِ الضَّعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِص علَى ما ينفعُكَ، واستعِن باللهِ ولا تعجِزْ، وإن أصابَكَ شيءٌ فلا تقُلْ : لَو إنِّي فعلتُ كانَ كذا وَكَذا، ولَكِن قُل : قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعلَ، فإنَّ لَو تفتحُ عملَ الشَّيطانِ" (رواه مسلم).

 

وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من العجز والكسل فيقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والهَرَمِ، وأَعُوذُ بكَ مِن فِتْنَةِ المَحْيا والمَماتِ، وأَعُوذُ بكَ مِن عَذابِ القَبْرِ" (رواه البخاري).

 

والمؤمن يعد لكل أمر ما استطاع من عدة ولا يتبع نفسه هواها ثم يتمنى على الله الأماني.. قال رسول الله ﷺ: "الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ المَوتِ والعاجِزُ مَن أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على اللهِ" (رواه الترمذي وحسنه والحكم في مستدركه وقال صحيح على شرط البخاري).

 

لكن التوكل مع العجز صحيح، وهو توكل وليس تواكلاً كما يقول البعض، بل على العكس كان علماء الأمة القدامى يخشون أن يؤثر الأخذ بالأسباب في صحة التوكل على الله، إذ كانوا يظنون أن التوكل الحق على الله يعني: الثقة به سبحانه وتعالى وحده دون اللجوء إلى غيره من جهد أو أسباب، وبخاصة عندما قرؤوا ما رواه البخاري عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ قال: "يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفًا بغيرِ حِسابٍ، هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".

 

لكنهم بفضل الله، اهتدوا إلى الحق، وهو صحة التوكل على الله، حتى مع الأخذ بالأسباب، بشرط أن لا يتعلق القلب بتلك الأسباب، بل يبقى تعلقه بالله، ولا يرى نافعاً، ولا ضاراً، ولا رازقاً، إلا إياه، أما الباقون فوسائط وأسباب يرسل الله إلينا فضله عبرها.

 

إن اشتراط الأخذ بالأسباب لصحة التوكل، يلغي الفائدة النفسية من التوكل، والتي هي أن لا نقلق.. فالإنسان مهما أخذ من أسباب، يبقى لديه شك، أن يكون هنالك أمر نسيه، أو فاته، لجهله ومحدوديته، فلو كان الأخذ بالأسباب شرطاً لازماً لصحة التوكل، والوصول إلى تحقيق هذا الشرط تحقيقاً تطمئن له النفس، ويرتاح له القلب، أمراَ عسير، لكان التوكل على الله بعيد المنال، وكانت السكينة التي تحصل منه عزيزة لا يصل إليها إلاّ القليل...

 

إن التوكل على الله مستقل عن الكَيْس الذي هو الأخذ بالأسباب، وعن العجز، الذي هو ترك الأخذ بالأسباب، والتوكل مطلوب مع الكَيْس، والكَيْس مطلوب مع التوكل، دون أن يكون أحدهما شرطاً لازماً للآخر، فكل منهما مستقل عن الآخر، وكل منهما مطلوب من المؤمن.

 

الكَيْس مطلوب، والمؤمن كَيِّسٌ فَطِنٌ كما يقال، والتوكل مرغوب من المؤمن، فالله يحب المتوكلين، ويطمئنهم أنه كافيهم، ولن يحيجهم إلى غيره.

 

قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].

 

وقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3]

 

وقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب: 3]

 

وقال: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [النساء: 132]

 

وقال: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ [الإسراء: 65]

 

وعندما نتوكل على الله، نفوضه أن يختار لنا الأحسن، وما هو خير لنا، فلا نحرص على أمر بعينه، إذ قد لا يكون الخير فيه. ولأننا إن حرصنا على شيء معين سنعيش بالقلق رغم التوكل على الله إذ التوكل يضمن لنا أن يكتب الله لنا ما هو خير لنا لا ما نشتهي ونحب، لأننا قد نحب أمراً ولا ندري أنه شر لنا وقد نكره أمراً ويكون خيرنا فيه، لأننا مهما علمنا فإن علمنا محدود ولا نعلم الغيب كما يعلمه الله:

 

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]

 

﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19]

 

لذا كان الحرص على أمر معين يتعارض مع التوكل على الله الذي هو تفويض الأمر إليه ليقدر لنا الخير كما يعلمه هو لا كما نظن نحن.. ولا مانع أن نرغب في شيء معين لكن نذكر دائماً أننا إن توكلنا على الله فسييسر لنا ما هو خير لنا ولو كان غير الذي رغبنا فيه.. وعلينا أن نرضى بما اختاره ربنا لنا طالما أننا توكلنا عليه، وأن نثق أن الخير كل الخير فيما اختاره لنا، وأن الأيام ستثبت لنا أن ما اختاره لنا ربنا خير مما تمنيناه.

 

إن التوكل يضمن لنا أن ييسر الله لنا ما فيه الخير، وسيصرف عنا ما فيه السوء والشر، أي: سيختار لنا الأحسن من الأمور الممكنة، وليس بمعجزة تتجاوز القوانين الطبيعية والأسباب التي جعلها الله ضرورية لحدوث مسبباتها.

 

في حالات خاصة، يصدر أمر الله متجاوزاً كل القوانين الطبيعية، كما حدث لإبراهيم عليه السلام، قال النبي محمد ﷺ فيما رواه البخاري: "كانَ آخِرَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ" (رواه البخاري). ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69].

 

من أجل إبراهيم، وحين توكل على الله حق التوكل، في موقف ليس هنالك أعصب ولا أصعب منه، أمر الله النار على الفور أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم.

 

لكن من أجلي ومن أجلكم، فإننا نطمع أننا عندما نتوكل على الله حق التوكل، فإنه ييسر ويقدر أموراً تقود إلى حصول الخير الذي نسعى إليه، إذ لا بد لكل شيء من الأقدار التي تصنعه، وتؤدي إليه وفق القوانين الطبيعية، وسنن الله في خلقه ومخلوقاته، تلك السنن التي لن نجد لها تبديلاً ولا تحويلاً.

 

والله يذكرنا بضرورة الصبر والانتظار مع التوكل، لأن لكل شيء قَدْر، والله بالغ أمره في الوقت المقدر.

 

﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3]

 

إذن لا بد حتى نتوكل على الله من أن نفوضه، ونفوض أمرنا إليه، وأن لا نعلق قلبنا بأمر معين، ونحرص عليه بشدة، ثم نقول: توكلنا على الله، لأن الله الذي فوضناه، ووكلناه، ووليناه أمرنا،سيقرر لنا، ويختار لنا، وقد يختار لنا غير الذي تمنيناه لأنفسنا، لأنه يعلم أن الخير فيه.. لا بأس أن نرغب في شيء نرى فيه الخير، ونتوكل على الله، ونأمل أن يحققه الله لنا، لكن مع الاستعداد لتقبل ما يقدره الله بدلاً عنه، والرضا به، ثقة منا بأن الله الذي اتخذناه وكيلاً، وهو نعم الوكيل، قد اختار لنا ما هو أحسن، وما هو خير لنا في الدنيا والآخرة.

 

إن التوكل هو مجرد أن لا نقلق "Do not Worry". لكن من الذي لا يقلق أمام الأمور الهامة في الحياة، إلا طفل غافل، أو غبي جاهل لا يدرك الاحتمالات السيئة الممكنة، أو شخص مستند إلى قوة عظمى، بيدها كل شيء، وتقف إلى جانبه، ومنحازة إليه، وهل هنالك أعظم من رب العالمين، الذي يدعونا إلى التوكل عليه، والاستنامة إلى عظمته، وقدرته، والطمأنينة في أحضان رحمته، طمأنينة أحلى من طمأنينة الرضيع على صدر أم رؤوم حنون...

 

أن أتوكل على الله، أي: أن لا أقلق وأنا أجابه ظروف الحياة وضغوطها، رغم كل الاحتمالات، لأني اكتفيت به سبحانه وتعالى {حسبي الله ونعم الوكيل}. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]

 

بعدما نزل بالمؤمنين والرسول محمد ﷺ من قرح، ومعاناة، بعد معركة أحد، وهم يلملمون جراحهم، جاءهم من يقول: إن المشركين قد جمعوا حشودهم، ليعيدوا الكرة عليهم، ويفنوهم عن آخرهم، فقالوا: "حسبنا الله ونعم الوكيل".. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء.. اقرؤوا وتأملوا:

﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾ [آل عمران: 172 - 174].

 

والله وعدنا على لسان نبيه، أن لو توكلنا عليه حق توكله، لرزقنا كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، أي: تخرج في الصباح وبطونها خاوية خالية، وتروح، أي: ترجع بطاناً، أي: قد ملأت بطونها بما وجدته من القوت والرزق، فالطير يخرج من عشه، ويبحث عن رزقه الذي يجده ملقياً هنا وهناك، حباً أو دوداً، أو غير ذلك، والجهد اللازم، إنما هو في التقاط هذا الرزق، والعودة به إلى العش، ليغذي به صغاره، ويتغذى هو بما يفضل ويزيد عن صغاره.. عن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: "لو أنَّكم توَكلتُم على اللَّهِ حقَّ توَكلِه لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ تغدو خماصًا وتروحُ بطانًا" (رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح وقال الحكم في مستدركه صحيح الإسناد).

 

المتوكلون يرزقهم الله رزقاً ميسراً، وبسهولة، كما يرزق الطير، بيسر وسهولة، أي: إن للتوكل على الله مكافأة فورية، هي تيسير الرزق، وسهولة الحصول عليه....

 

كما إن للتوكل على الله مكافأة كبرى هي الفوز بحب الله. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]. وهل هنالك ما هو أروع من أن يحبنا الله؟، وهل بعد أن يحبنا ربنا، يمكن أن يخزينا أو يذلنا؟. لا والله، لا يمكن أن يتخلى الودود عمن أحب.

 

إن التوكل يوصلنا إلى الشعور بالأمان، والطمأنينة، والسكينة، ويقربنا إلى الله، ويضمن لنا أن يقدر الله لنا الخير، وما هو أحسن لنا، مما لنا به علم، أو من حيث لا نعلم.

 

والتوكل على الله أحد الأسباب التي على المؤمن أن يأخذ بها ليصل إلى ما يريد وهو مكمل للكَيْس الذي دعانا النبي إليه وليس عجزاً وانعدام حيلة. فالتوكل على الله مع الدعاء والطلب من الله أن يعطينا ما نحب من الخير هما من أهم الأسباب التي يسهل على المؤمن الأخذ بها فييسر الله له مراده بأهون الأسباب وأقل الجهد.

 

ونعود إلى القلق الظرفي، الذي لخص رسول الله ﷺ شفاءه، والوقاية منه، في قوله: "اعقِلْها وتَوَكَّلْ"، لنؤكد على أهمية الاجتهاد، وبذل الجهد، والإعداد للأمر قدر المستطاع، لنقلل من دواعي القلق بسببه. فالذي عليه امتحان، عليه الدراسة الجيدة، والمراجعة، والمذاكرة، حتى يتقن المادة المطلوبة منه، وعندها تقل دواعي القلق لديه، وحتى لو رسب، وأخفق، لن يلوم نفسه على التكاسل، والتقصير، لأن الإخفاق سيكون لأمر خارج عن سيطرته.. وكذلك في أمور الحياة الأخرى نبذل من الجهد ما نستطيع ونحن متوكلون على الله فنضمن أن يقدر لنا ربنا الخير وييسره لنا بأهون الأسباب.

 

2. القلق الوجودي

 

أي: القلق النفسي الملازم لوجود الإنسان، إذ بمجرد أن يوجد الإنسان، "Exist" ويدرك ذاته، ويعي نفسه، فإن هموماً وأقلاقاً معينة تفرض نفسها عليه، وتنغص عليه حياته، ما لم يجد لها إجابات مريحة، ومقنعة.

 

ومن الهموم والأقلاق (جمع قلق) الوجودية قلق الموت، حيث ليس هنالك إنسان واحد يعيش على وهم الخلود في الدنيا، فالبشر كلهم على يقين أنهم سيموتون يوماً ما، وللموت رهبته، وهو مصدر قلق وخوف في حياة الإنسان.

 

ومن الأقلاق الوجودية، شعور الإنسان أنه كائن حر مريد، أي: حر وقادر على الاختيار الحر، ويتساءل عما سيفعله بهذه الحرية، وهذه الإرادة.

 

ثم إن الإنسان مخلوق، لا يقدر أن يحيا دون معنى، فهو يعطي لكل شيء في حياته معنى، ثم يتساءل عن معنى وجوده وحياته، ويكون البحث عن معنى الحياة، واحداً من أهم الهموم والأقلاق الوجودية عند الإنسان.

 

هذه الأقلاق الوجودية "Existential" لا شفاء لها حقيقي، إلا بالإيمان الصحيح، وكلما كان الإيمان صحيحاً غير محرف، كلما استراحت النفس الإنسانية من القلق الوجودي، ووجدت في عقيدتها الإجابات الشافية، التي تملؤها بسكينة الإيمان.

 

أما غير المؤمن، فقد يلجأ إلى خداع نفسه، بخرافات نفسية، أو علمية، أو أسطورية، كي يريح عقله وقلبه من ضغط القلق الوجودي على نفسه، وقد يلجأ إلى الخمر، والمخدر، والمتع الحسية، كالجنس، والموسيقى، وغيرها، فيفرط فيها، كي يلهي نفسه، ويشغلها عن تساؤلاتها الوجودية المؤلمة.

 

النوع الثاني من القلق الإنساني، أي: القلق الوجودي، لا علاج له إلا الإيمان، وإن كان المستكبرون الرافضون للخضوع لرب العالمين يدعون أن الحب، والعمل، يكفيان ليشعر الإنسان بالأمان دون إيمان. لكن واقع حياتهم البائسة، والفلسفة العدمية التي طغت على أفكار الأوربيين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ترينا كيف أخفقوا في التغلب على قلقهم الوجودي دون إيمان.. فلا الحب، ولا العمل، كافيان إن عمل العقل وتساءل عما بعد الحب والعمل، ولا الجنس، ولا الخمر، ولا الموسيقى، وغيرها من المتع الحسية، بقادرة على أن تنسي الإنسان أسئلته الأزلية عن مبدئه ومنتهاه، ومعنى وجوده، وماذا بعد موته.

 

في أوربا، حيث استغنى الناس بعقولهم عن الله، ظهرت فلسفات عدمية، وكتابات يائسة، تؤكد أن لا معنى لشيء في الحياة الإنسانية، ولعل أشهر الفلاسفة والكتاب الذين عبروا عن الحياة بلا إيمان، سارتر وكامو، وغيرهما.

 

لقد دخلت أوربا في النصف الثاني من القرن العشرين، مرحلة ما بعد الحداثة، حيث تشككوا في كل شيء، وفقدوا المعنى والهدف، وصارت الحقائق بالنسبة لهم نسبية، فصاروا يتقبلون ويحترمون كل الأفكار، والمعتقدات، لأنهم فقدوا الشعور بالتأكد واليقين، وفقدوا الثقة بالعقل الإنساني، وبقدرته على الوصول إلى الحقيقة عن طريق العلم والفلسفة، وأورثهم ذلك تسامحاً لم يعرفوه من قبل مع الأديان والمعتقدات الأخرى، وصاروا ينادون بالتعايش في المجتمع بين أفراده، حتى لو اختلفت أديانهم، ورؤاهم للعالم والحياة، طالما أنهم لا يحاولون فرض شيء على غيرهم... لقد شعروا بضياعهم، وضعفهم البشري، لما بعدوا عن الخالق وهدايته، لكنهم حتى الآن لم ينتبهوا إلى أن المخرج هو في الإيمان الصحيح، والدين القويم، القائم على الحق، لا على الأهواء والخرافات....

 

لم ينتبهوا إلى الآن إلى أن هنالك حق، وهنالك من يعرف هذا الحق معرفة واضحة، وأنهم لو آمنوا به، لاستعادوا السكينة، والشعور بالأمان، والمعنى في هذا الوجود، ولامتلأت حياتهم بهجة وسعادة، وبخاصة أنهم عمروا دنياهم عمارة رائعة، وحلوا الكثير من المشكلات الحياتية التي تنغص على شعوب وأمم كثيرة حياتها.

 

3. القلق المرضي

 

وهو ثالث أنواع القلق الإنساني، وهو قلق بلا مقلق حقيقي، إنه خوف بلا مخيف، ورعب بلا تهديد، إنه الخوف والإنذار الذي يجتاح النفس البشرية، لا لأن هنالك خطراً حقيقياً يتهددها، بل لأن خللاً في أجهزة الإنذار فيها أطلق جرساً، أو صفارة تنذر بالشؤم، وتخيف من كارثة، أو مصيبة، على وشك أن تقع، دون أن يكون هنالك أي مبرر لهذا الإنذار.

 

تخيلوا بناية عظيمة رائعة، بما فيها من شقق فخمة كثيرة، وبما فيها من أجهزة إنذار متطورة، تطلق جرساً عالياً متواصلاً، إذا بدأ حريق صغير في أية زاوية من زواياها.. ينطلق هذا التنبيه، وتضيء لوحات معينة، تشير إلى موقع الدخان، أو الحرارة الزائدة، التي استشعرتها أجهزة الإنذار هذه، كي يبادر القائمون على البناء إلى إطفائها، وتدارك الأمر، قبل أن تنتشر النيران، ويستفحل الحريق، ويتسبب بالأضرار الكبيرة، كما تنبه القاطنين في المبنى إلى ضرورة إخلائه على الفور، ريثما تتم السيطرة على الحريق، ويستعاد الأمان، والسلامة المهددين به.

 

هل هنالك أحسن وأروع من نظام كهذا، لحماية السكان من مصائب قد تقع في أية لحظة من ليل أو نهار؟.

 

لكن تخيلوا جرس الإنذار هذا، وقد انطلق عالياً في هدأة الليل، ليوقظ الجميع من نومهم اللذيذ، بعد يوم من العمل والسهر، وليملأ قلوبهم بالخوف، وليجبرهم على الخروج من بيوتهم، ونزول الأدراج الكثيرة، لأنهم في حال الحريق عليهم عدم ركوب المصاعد، وبعد أن يخرجوا من مبناهم مع أطفالهم، وهم في ملابس النوم يكتشفون أن الإنذار كان كاذباً، أي: أنه انطلق يرن لا لأن حريقاً بدأ يتوهج في مكان ما من المبنى، بل لأن خللاً في الوصلات الكهربائية، أو في الأجهزة الحساسة للدخان، أو الحرارة، أو في الجهاز الذي يجمع المعلومات، ويحللها، ويعطي القرار بإطلاق الإنذار أو عدمه.. المهم: خلل ما تسبب في إنذار، لا داعي له ولا مبرر...

 

لو حدث هذا مرة، فإن الفرحة بأنه ليس هنالك حريق، وأن الأمور كلها على ما يرام، قد تنسي السكان ما عانوه من إزعاج عندما انطلق الإنذار، وأيقظهم، وأخرجهم.

 

لكن لو تكرر هذا الخلل، وتكررت الإنذارات الكاذبة، فإن نظام الإنذار الرائع، يتحول إلى مصدر إزعاج للسكان، بدل أن يكون مصدراً للشعور بالأمن والطمأنينة، وعندها ستكون أمنيتهم هي أن يتم إصلاح نظام الإنذار من الحريق في أسرع وقت، فهم لا يستغنون عنه، لأن البناء الضخم الذي ليس فيه نظام استشعار للحرائق، وإنذار للسكان منها، يكون الإنسان فيه معرضاً للخطورة الزائدة أن يشب حريق، ويستفحل قبل أن يعلم به، وعند علمه به يكون قد انسد أمامه طريق الخروج والسلامة...

 

وهكذا هو القلق المرضي عند الإنسان، إنه ناشئ عن خلل في عمل الأجهزة التي تستشعر المخاطر، وتنبه الإنسان إليها... وتتعرض النفس لإنذارات، وتخويفات، دون سبب حقيقي.

 

إنه خوف بلا مخيف، وشعور بالتهديد بلا مهدد، لأنه ناتج عن مشكلة في الأجهزة، وليس عن وجود ما يدعو للحذر، أو الخوف في الحقيقة والواقع.

 

ومثلما يتحول جهاز الإنذار المختل من نعمة إلى نقمة، يتحول القلق النفسي الذي خلقه الله ليكون لنا نعمة تحمينا من غدر الأقدار التي لا تسرنا، يتحول إلى نقمة، لأن الإنسان ينخدع به في أغلب الأحيان، فيعيش خائفاً يترقب، مع أنه ليس هنالك أي مبرر لخوفه، ولترقبه، ولتوقعه للمصائب، أو المصاعب.

 

عندما يكون الخلل في جهاز إنذار الحريق، يسهل علينا إدراك ذلك، والاطمئنان إلى أن المبنى في أمان، رغم أن الإنذار يصرخ بأعلى صوته، فنتجاهله، ونعود إلى فراشنا، وننام. لكن الإنذار الذي ينطلق في أعماق نفوسنا، وقلوبنا، يحتاج منا إلى وعي، وفهم، وتبصر، كي ندرك أنه ليس هنالك من خطر ولا تهديد، إنما هي مشاعر قلق كاذب، سببه اختلال في المركبات الكيماوية التي تتعامل بها خلايا الدماغ، وتتفاهم بها فيما بينها، ويدعوها علماء الأعصاب "النواقل العصبية Neurotransmitters". وهي تشبه الهرمونات، إلاّ أنها لا تتجول في الدم بحيث يفيدنا معايرتها فيه، بل المهم وجودها في نقاط محددة جداً، تتلامس فيها خليتان عصبيتان، كما يتلامس رجلان وهما يتصافحان، يمد كل منهما يداً تشتبك بيد الآخر، وهكذا مثال المشبك العصبي Synapse، الذي عنده يتم التواصل بين الخلايا العصبية، بإفراز النواقل العصبية التي تنقل الأوامر من خلية إلى أخرى.

 

والطب حالياً يقول: إن الخلل في عمل النواقل العصبية الرئيسية (السيروتونين، والنورإيبنفرين، والدوبامين، والغابا، وغيرها)، هو المسؤول عن الأعراض النفسية، والعقلية، التي تصيب البشر من قلق، وكآبة، أو هياج، أو وسوسة، أو أوهام، أو هلوسات.

 

ولا تستغربوا ذلك، لأن النفس البشرية، جهاز حي صنعه رب العالمين بيده، فأحكم صنعه، وجعله في أحسن تقويم، ثم خلق منه زوجه، ومنهما توالدت البشرية، وأثناء توالدها هذا الذي تركه ربنا يحدث بقدره، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49] تحدث أخطاء بسيطة جداً في بناء هذا الجهاز الحي العجيب الصنع، فيسبب الأمراض للناس.

 

فإن كان الخلل في جهاز الهضم، كانت المعاناة هضمية.

 

وإن كان الخلل في جهاز الحركة، كانت المعاناة حركية.

 

وإن كان الخلل في جهاز الإدراك، والمشاعر، والأفكار، كانت المعاناة نفسية، والقلق، والاكتئاب، والوسواس، وغير ذلك أكثر أنواع المعاناة النفسية حدوثاً لدى البشر.

 

وهذا النوع من القلق الإنساني لا يتعافى، إلا إن تعافى البدن، وتقوم الخلل الفيزيولوجي الذي سببه. وهذا هو القلق الإنساني الذي يعالجه الأطباء النفسيون، والمختصون النفسانيون، بالأدوية، أو بالعلاج النفساني غير الدوائي.

 

القلق المرضي يجعل الإنسان يبالغ في الشعور بالمخاطر، فيرى الصغير منها كبيراً، ويرى البسيط منها عظيماً وخطيراً. لذا فإن المصابين بالقلق المرضي، يعانون من القلق الظرفي الشديد في أغلب الأحيان، لأن الخلل الفيزيولوجي لديهم يجعلهم يرون ما لا يراه غيرهم من أسباب الخطر والتهديد، فيعيشون في رعب، بينما غيرهم مطمئن القلب والبال.

 

إن مرضهم يجعلهم كالذي ينظر إلى الأشياء من خلال عدسة مكبرة، أو يسمع الأصوات من خلال مكبر للصوت، يضاعفه مرات كثيرة، موضوعاً على أذنيه، بحيث يسمع الهمسة صرخة.

 

وهؤلاء لا يرتاحون من القلق الظرفي، إلا إن عولج قلقهم المرضي، حيث تعود إليهم قدرتهم على التوكل على الله، والامتناع عن القلق، توكلاً عليه، واعتماداً على رحمته ورعايته...

 

المريض بالقلق، يستفيد من التطمين، والتوكل، لكن فائدته تكون مؤقتة عابرة، وسرعان ما يعود إلى القلق الشديد الذي يصعب عليه وعلى من حوله أن يطمئنه، ويساعده على التخلص منه، ما لم نوقف عملية التضخيم التي يسببها مرض القلق، أو الاكتئاب، أو الوسواس، أو غير ذلك من أنواع المرض النفسي المولدة للقلق....

 

وفي النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت أدوية كثيرة ورائعة، لعلاج القلق، والاكتئاب، والوسواس، واضطراب العقل بكافة أنواعه. حيث تفيد هذه الأدوية في إعادة التوازن، والفاعلية لعمل النواقل العصبية في الدماغ، التي يعتبرها الطب مسؤولة عن هذه الاضطرابات.

 

وهي علاجات تسيطر على المرض، وتريح الإنسان من أعراضه. كما يسيطر دواء الضغط على الضغط، ويعطينا ضغطاً طبيعياً، طالما نتناول الدواء الخافض للضغط. والفارق بين الضغط والاضطرابات النفسية، أن الضغط مزمن عادة، بينما القلق، والاكتئاب، والوسواس القهري، واضطرابات العقل، تأتي على شكل نوبات يتراوح طولها ما بين أيام قليلة إلى عدة سنوات، تهدأ بعدها حتى لو لم تعالج بالأدوية، ويبقى المريض بخير ما شاء الله أن يبقى، ثم يعاوده مرضه مرة أخرى في أغلب الحالات.

 

العلاج إذاً يختصر المعاناة، ويعيد المريض إلى طبيعته، وهذا خير من بقاء الأعراض، وما تسببه من معاناة للمريض وأهله، ومن عجز عن أداء دوره في الحياة، سواء في مهنته، أو دراسته، أو حياته العائلية.

 

وهذا يعني أن الإيمان وحده لن يكفي لشفاء القلق الإنساني المرضي وغيره من الاضطرابات النفسية الناتجة عن خلل عضوي في عمل الخلايا العصبية في الدماغ، وهذا لا يعيب الإيمان أو القرآن في شيء، إلا إن كانت عدم كفايتهما لعلاج الداء السكري، أو أمراض الكلية، أو السرطان، تقلل من شأنهما.

 

لا بد لعلاج المرض العضوي من إصلاح للخلل المسبب له.. تأمل ما قاله الله تعالى عن زكريا عندما طلب من الله الذرية، وهو شيخ مسن، وامرأته عاقر لا تنجب. ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90] إذاً كان هنالك خلل عضوي مسبب للعقم، احتاج للإصلاح، قبل أن تتمكن هذه المرأة من الحمل والولادة.... والنبي محمد ﷺ يقول "لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذْنِ اللهِ عزَّ وجلَّ" (رواه مسلم).

 

صحيح أن الأعراض في القلق والاكتئاب والوسواس القهري وغيرها من الاضطرابات النفسية والعقلية، أعراض نفسية، تختلف عن الأعراض البدنية المعروفة في الأمراض العضوية، لكن الدماغ هو الآلة التي تصنع المشاعر، والأفكار، والإدراكات، وفيها الرغبة والنفور والشهوة والفرح والحزن والضحك والبكاء والنوم والنشاط واليقظة وغير ذلك من الوظائف النفسية والعقلية.

 

وإذا أصاب خلل عضوي الجهاز الذي يقوم بالوظائف النفسية، فإن الأعراض الناتجة عن الخلل العضوي هذا ستكون نفسية. كما لو كان الخلل العضوي في الجهاز الهضمي، كانت الأعراض هضمية. وكذلك إن كان في الجهاز النفسي، وهو الدماغ، كانت الأعراض نفسية، رغم أن الخلل عضوي.

 

وهذا لا يعني أن كل الأعراض النفسية عند البشر، هي أعراض لخلل عضوي. فالإنسان الذي يفقد عزيزاً، يعاني من حالة نفسية تشبه المرض النفسي، يسيطر عليه فيها الحزن والقلق، ويضطرب نومه وتقل شهيته للطعام والجنس، ويفقد قدرته على الاستمتاع، إلى غير ذلك من أعراض سببها فقده لعزيزه، أو خسارته لشيء غال عليه مالي أو معنوي، وبالتالي ليس سببها عضوياً أبداً، ولا يعالجها الأطباء النفسيون بالأدوية عادة، بل العلاج يكون نفسياً بالكلام، ومحاولة تغيير نظرة المصاب إلى مصيبته، كي يتمكن من هضمها، والتكيف معها، ومع الأوضاع الجديدة في حياته الناتجة عنها.

 

وبمرور الوقت، يتجاوز الإنسان المصائب، ويتكيف غير المريض مع المصاعب، وتعود له ابتسامته، وينطلق في الحياة من جديد.

 

ومع أن الطب النفسي حدد مدة ستة أشهر حداً َأقصى للتكيف مع المصائب والمصاعب، فإذا استمرت الأعراض النفسية بعد ذلك، اعتبرنا الشخص مريضاً نفسياً، وتكون المصيبة عاملاً مسرعاً لحدوث المرض لديه، ومع أن أشد مصائب الحياة العادية على النفس البشرية، هي فقد الزوجة المحبة لزوجها المحب، فإن الخالق الذي يعلم من خلق، حدد مدة أربعة أشهر وعشرة أيام، تخرج بعدها الزوجة من حزنها على فقيدها، وينفتح قلبها للرجال من جديد، إلاّ إن كانت قابلة للاكتئاب النفسي، وكانت وفاة الزوج سبباً في بدء الاكتئاب، أو غيره من الاضطرابات النفسية لديها، فعندها يطول الحزن كثيراً، وقد لا ينتهي إلاّ بالعلاج الطبي النفسي.

 

الخلاصة:

 

للقلق والحَزَن في حياة الإنسان ثلاثة أسباب:

 

أولها: ظروف الحياة وشدائدها.

 

وثانيها: إدراك الإنسان لوجوده ككائن له ذات مستقلة، وحرة، وذات إرادة، وباحثة عن المعنى، ومدركة لما وراء عالم الشهادة من ممكنات والشعور بالضلال والضياع في غياب الإيمان الصحيح.

 

وثالثها: الخلل المرضي العضوي في عمل جهاز العقل والمشاعر لديه، أي: الدماغ.

 

والحكمة تقتضي أن لا يكون العلاج واحداً لأنواع مختلفة من القلق والحزن. إذ لا بد لكل نوع من علاج يناسبه، حتى تتمتع النفس الإنسانية بالسكينة والطمأنينة.

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة