المصائب ابتلاء وأقدار لا انتقام
المصائب ابتلاء وأقدار لا انتقام
Whatsapp
Facebook Share

المصائب ابتلاء وأقدار لا انتقام

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

ويبقى في النفس خوف من عقاب الله على ما تقع فيه من المعاصي، إذ يظن الكثيرون، أن الله يعاقب على الذنوب في الدنيا، وأن ما يحل بنا من مصائب، إنما هي انتقام من الله وعقوبة، فيظن المبتلى، أن الله غاضب عليه وناقم، ويتعمد أذيته، عقاباً له على ما وقع فيه من ذنوب. بينما الواقع مليء بأصحاب الكبائر، بل من الملحدين المحاربين لدين الله، وهم ينعمون بالعيش الرغيد، والعافية، وكل ما تتمناه النفس البشرية من النعم الدنيوية.

 

لنتأمل هذه الآيات الكريمة:

  • ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61]
  • ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ۖ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ۚ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58]
  • ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45]
  • ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68]
  • ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ۚ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: 53]

 

لو كان الله يؤاخذ الناس في الدنيا لما ترك على الأرض لا بشر ولا حيوان، ذلك أن أخذه شديد.. قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]

 

والقرآن الكريم يحكي لنا حكاية عقاب فوري وقع على فئة من قوم موسى عليه السلام أساؤوا الأدب بحق رب العالمين فأخذتهم صاعقة محتهم من على وجه الأرض في طرفة عين قال تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء: 153]

 

لقد أزالهم الله من الوجود عقاباً على كلمة بينما نرى الآن من يبلغ سوء الأدب أن يسب الله بأعلى صوته إذا غضب ولا يقع عليه أي عقاب، لأن المؤاخذة في الدنيا هي الاستثناء لا القاعدة أما القاعدة فهي الإمهال حتى الموت. ولولا الإمهال لاستوت المعصية الصغيرة مع الكبيرة لأن في كليهما عصيان لله الكبير المتعال، لكن مع الإمهال صار ممكناً التمييز بين الكبائر والسيئات حيث الأمر متروك للملائكة تكتب كل ذنب بحسبه بينما الحساب والمؤاخذة مؤجلان لما بعد الموت.

 

وحتى هؤلاء جرى عليهم الإمهال حتى الأجل فقد بعثهم الله بعد موتهم ليستفيدوا من الإمهال لعلهم يستغفرون فيغفر لهم قال تعالى عنهم: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) [البقرة: 55 - 56].

 

وقد آخذ ربنا أمماً سابقة عاندت وعصت رسل الله وفسقت واستكبرت فانتقم ربنا منهم بعد صبر طويل عليهم وبعد استنفاد كل المحاولات لهدايتهم لكنهم أصروا على استكبارهم على الله ورسله وعلى المؤمنين فكان انتقام الله منهم ماحقاً ساحقاً لا يذر منهم أحداً، وكان انتقاماً بأمر الله الذي لا ينتظر العوامل الطبيعية والكوارث التي يمكن أن تتسبب بها، بل جاء أمر الله فأغرقهم أو أرسل عليهم أعاصير أبادتهم أو غير ذلك من وسائل الإهلاك الاستثنائية.

 

قال تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40]

 

أما ما نراه من كوارث طبيعية فهي مما جرت به الأقدار الطبيعية وفق القوانين الطبيعية التي طبع الله مخلوقاته عليها، ووقوعها مستقل عن معاصي البشر لله لكن الله قادر على تلطيفها أو تلطيف أثارها على الأمم الخيرة تعجيلاً منه للمكافأة لهم على أعمالهم الصالحة، أما إن كثرت معاصيهم فإنه يترك المصائب تقع عليهم لعلهم يتضرعون أو يصبرون فيكفر عنهم بصبرهم ما ارتكبوه من الذنوب والمعاصي.

 

إذن ربنا الحليم الصبور العفو الغفور الغفار الرحمن الرحيم، أمهلنا حتى نموت، وأعطانا فرصة لنستغفر فيغفر لنا. ولا يكون هنالك ما يوجب العقوبة، أو نعمل الصالحات فتمحو الحسنات السيئات، ولا يكون علينا عقوبة، أو تصيبنا مصائب الحياة، التي لم يتعمد هو إنزالها فينا، إنما هي من طبيعة الحياة، كالمرض والموت والخسارة، والألم وغير ذلك من الكوارث الطبيعية، أو التي يرتكبها أناس، أضلهم الشيطان، فيعتدون على غيرهم، ويتسببون في أذاهم، أو تقع بالخطأ والنسيان.... فيصبر المؤمن ولا يتذمر، بل يحمد الله على ما قدر عليه من مصيبة، فيرضى الله عنه، لأنه رضي بقضائه وقدره وصبر على بلوائه، فيكافئه بأن يحتسب المصيبة عقوبة للمؤمن على معاصيه، فيمحو عنه معاصيه، مع أنه لم يستغفر لها، بل هو صبر على ما ابتلاه به ربه من مرض أو فقد أو ألم أو غير ذلك.

 

إن معاقبة الله في الدنيا ليست متعمدة، إنما هي المصائب التي هي من أصل الحياة الدنيا، يعتبرها ربنا عقوبة للمؤمن، لا لأنه مستعجل على العقوبة، بل هي المحاباة للمؤمن الحبيب لربه الغفور الرحيم، الذي يثيبه على الصبر، ويكفر عنه بصبره الخطايا.

 

لكن الله يقول: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]

هذه الآية تقول: إن الله قدر المصائب في حياة الناس عموماَ، وأذن بوقوعها -دون أن يتعمدها- لأنهم خطاؤون، والمصائب نافعة لهم، لتكفير خطاياهم، وإن كان يعفو عن الكثير من ذنوبهم دون عقاب.

والذي يفهم من هذه الآية الكريمة، أنه لو كان البشر كالملائكة، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لوقاهم الله المصائب، ومنع حدوثها، ولم يقدرها عليهم.

 

إن الله يختبرنا بالشر، أي: الضر، كما يختبرنا بالخير، أي: النفع. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 35]. وهو يريد منا الصبر على الشر، أي: على المصائب، والشكر على الخير، أي: على العطاء والفضل، فإن فعلنا ذلك، كفر بالمصائب ذنوبنا، وزادنا بالشكر عطاء وفضلاً، فصار واحدنا يمشي، وليس عليه خطيئة، من كثرة الابتلاء.

 

عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: "قلتُ يا رسولَ اللهِ أيُّ النّاسِ أشدُّ بلاءً قالَ الأنبياءُ ثمَّ الأَمثلُ فالأَمثلُ؛ يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ، فإن كانَ في دينِهِ صلباً اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ علَى قدرِ دينِهِ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي علَى الأرضِ وما علَيهِ خطيئةٌ" (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح، ورواه الحكم في مستدركه وقال حديث صحيح على شرط مسلم ورواه أحمد في مسنده).

 

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ" (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح).

 

إن معاقبة الله للمؤمن الصابر في الدنيا، ليست من قبيل المؤاخذة، لأن أخذ الله شديد، إنما هي منحة، وإكرام للمؤمن الصابر، لا ينالها المؤمن الساخط، إذ لا تحتسب له المصيبة عقوبة، كما لا ينالها الكافر وهو أولى بسخط الله وعقابه، لكن كما قلنا، ربنا لم يعجل لنا العقوبة، بل أمهلنا حتى نموت. والمتأمل يجد: أن احتساب المصيبة عقوبة للمؤمن الصابر، هي من قبيل الحب له والرحمة والعطاء، لا من قبيل المؤاخذة والعقوبة والانتقام.

 

أما قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] فهو عما يفسده الناس من البيئة، في البر والبحر، بل هم وصلوا في إفسادهم إلى الجو، وإلى طبقة الأوزون، وغيرها، مما يهدد البشرية بأن تذوق بعض ما صنعت من احتباس حراري، وما يمكن أن يجره من مصائب. إنهم سيذوقون بعض الذي عملوا، لأن الذي يخالف القوانين الطبيعية في البيئة أو في نفسه، تقع عليه عقوبة ملازمة لفعله، هي ناتجة عن فعله ذاته، وليست عقوبة مرسلة من الله، ولا متعمدة منه... إنها طبيعة الأشياء، فالمدخن القابل لسرطان القصبات، يصيبه هذا السرطان، وقد يقضي عليه، لا لأن الله غضب، فأنزل غضبه، ونقمته على هذا المدخن، بل لأن النتيجة ملازمة للفعل، ويكون سرطانه ابتلاء، فإن كان مؤمناً صابراً، احتسب الله ذلك له كفارة لذنوبه كلها... وقد يدخن آخر لديه مناعة أكثر مما دخن الأول دون أن يصيبه السرطان.

 

هنالك بعض الأعمال التي نهى الله عنها، أو أعطانا الحكمة، كي ننهى أنفسنا عنها، إن وقعنا فيها، نالنا وبال ما صنعنا على الفور في الدنيا، لأن هذا الوبال، هو من العواقب الطبيعية، لما وقعنا فيه، وليس عقوبة من الله معجلة.

 

إن تسونامي وغيره من الكوارث الطبيعية ناتجة على الأغلب من أنواع الإفساد البيئي، الذي أوقعه البشر في البر والبحر. وقد أخطأ من قال أن تسونامي كان عقاباً لأهل إقليم آتشه الإندونيسي حيث كانت الخسائر البشرية على أشدها لأن منهم من ارتكب بعض المعاصي على الشواطئ بينما شواطئ العري الكامل في أماكن عديدة لم يصبها شيء، وجهل هذا الذي فسر الأمر على أنهم عقاب من الله لأهل هذا الإقليم أن هذا الإقليم كان مسرح معارك كثيرة بين بعض أهله والحكومة الاتحادية الإندونيسية لأنهم يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية في هذا الإقليم، وهو ما تحقق لهم بعد مصيبة تسونامي.

 

وبالمقابل فإن الله برحمته، يعجل بعض المثوبة في الدنيا للمؤمن الصالح، ويدخر له في الآخرة ما لا عين رأت، ولا خطر على قلب بشر.

 

قال هود عليه السلام لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود: 52]

 

ويحكي نوح عليه السلام عن دعوته لقومه فيقول: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) [نوح: 5 - 13]

 

وقال تعالى:

  • ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16]
  • ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41]
  • ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97]
  • ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ۚ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة: 66]
  • ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]
  • ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30]
  • ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10]
  • ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 122]
  • ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]
  • ﴿فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 148]

 

ويبقى السؤال: ألا يتدخل ربنا في حياتنا أبداً؟

 

بل هو يتدخل، وما أكثر ما يتدخل، لكنه يتدخل دوماً ليسوق لنا الخير، أو ليخفف عنا بعض ما قدر علينا من مصائب، فيصيبنا بمصيبة صغيرة، ليصرف بها عنا مصيبة أكبر أو يكافئنا، فيسوق لنا خيراً، ما كان يسوقه، لو لم يكن عنا راضياً.

 

ولو تأملنا قصة موسى عليه السلام، مع الرجل الذي آتاه الله من لدنه علماً، والذي يعتقد أن اسمه "الخضر"، فإننا نستطيع أن نفهم طبيعة التدخل الرباني في أقدارنا. فقد جسد الخضر، قدر الله المتعمد الذي يقع، دون ذنب من البشر، أو دون مبرر مفهوم. فقد ركب موسى والخضر في سفينة، فقام الخضر بخرقها، وإحداث ثقب فيها، يجعلها سفينة معيبة.. لم يجد موسى مبرراً لهذا الفعل، لكن الخضر أخبره في النهاية، أن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وأراد الخضر أن يعيبها، لينقذها من أن يصادرها ملك يأخذ كل سفينة سليمة غصباً.

 

وما فعل الخضر ذلك عن أمره، بل هو أمر الله، فالله قدر على هؤلاء المساكين مصيبة صغيرة، وهي أن تخرق سفينتهم وتثقب، لا لذنب فعلوه، بل رحمة بهم، لأن هذا الخرق جعل فيها عيباً، فلا يأخذها الملك الغاصب، وتبقى لأصحابها المساكين، ويستطيعون إصلاحها، بعد أن نجاها الله من المصادرة رحمة بهم.

 

ثم يسير موسى مع الخضر، فيجدا غلاماً فيقتله الخضر، دون مبرر ظاهر، ويغضب موسى مرة أخرى، لأنه لا يعلم الغيب، لكن الخضر يبين له في نهاية الرحلة أن الغلام كان أبواه مؤمنين، أما هو فعلم الله أنه لو عاش حتى يكبر، لكان كافراً طاغياً، ومرهقاً لأبويه، فأراد رب العالمين أن يريح هذين الأبوين المؤمنين من طغيان ابنهما وكفره، فقدر موته وهو غلام، ولعله يدخل الجنة مع أبويه، لأن الغلام مرفوع عنه القلم، ثم قدر الله أن يرزقهما غيره، ذرية تكون خيراً منه، تتبعهما بإيمان. إنها مصيبة ترد مصيبة أكبر، جائزة من الرحمن، لأبوين مؤمنين، متوكلين عليه، يختار لهما ما هو خير وأحسن لهما، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

 

ثم يسير موسى والخضر، ويدخلان قرية أهلها لئام، يرفضون أن يضيفوهما، وفي قرية اللئام، يرى الخضر جداراً يريد أن ينقض، أي: إنه جدار متهالك، يكاد أن يقع وينهار، فيشمر الخضر عن ساعدي الجد، ويقيم الجدار، فيثبت دعاماته ويقويه فلا يقع، بل يقوم متماسكاً، يستطيع الصمود السنين الطويلة. لم يتقاضى الخضر أجراً على ما فعل، فعجب موسى، واستغرب من الرجل، أن يبذل الجهد الكبير ليقيم جداراً بلا مقابل لقرية أهلها لئام لم يضيفوه، وهو المسافر الجائع المتعب، فبين له الخضر، أن الجدار كان لغلامين يتيمين في قرية اللئام، وكان تحت الجدار كنز للغلامين، ولما كان أبوهما المتوفى صالحاً، أراد رب العالمين، أن يكبر الغلامان، ويستخرجا كنزهما بنفسيهما، أما لو انهار الجدار، لانكشف الكنز، ولنهبه أهل القرية اللئام، ولم يعطوا منه للغلامين شيئاً. نعمة هبطت على أهل القرية اللئام، رجل ساذج يبني جدارهم دون مقابل، لكنهم يجهلون أن الله حرمهم بذلك من الكنز، وادخره للغلامين إكراماً لأبيهما الصالح. إنه تدخل مباشر من رب العالمين في الأقدار، جزاء لصلاح رجل مؤمن، توفي وترك غلامين يتيمين.

 

وربنا يتدخل في الأقدار حين ندعوه، ونلح عليه في الدعاء، ويريد أن يعجل لنا ما دعوناه من أجله. ربنا قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، لكن الإنسان يدعو أشكالاً وألواناً، وقد يدعو يطلب شيئاً فيه شر له.

 

﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [الإسراء: 11]

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]

 

وقد يدعو الله يطلب خيراً، لكن ربنا يريد أن يعطيه ما هو خير منه، وقد يدعو الله يطلب منه أمراً لا يتحقق إلا بمعجزة، وربنا في جميع هذه الحالات يجيب الدعاء، ويلبي النداء، لكنه رحمة بعبده لا يعطيه ما سأل، بل يدخر له ثواب الدعاء، لأن الدعاء مخ العبادة، أو قد يعطيه من الخير ما يعادل ما دعاه له، لكنه لا يهمل دعاءه، لأنه وعد الإجابة، ووعده حق.

 

أما إن دعا المؤمن، يسأل الله خيراً، لا يحتاج إلى معجزة، وهو خير مؤكد، فإن الله يعجل له ذلك، ويسوق له الخير الذي سأله، لكنه يسوقه له من خلال الأقدار والأسباب، وقد يكون ذلك بعد حين، والشيطان يقول للمؤمن: إن ما طلبت من الله كان سيأتيك، سواء دعوت، أم لم تدع، وهذا إضلال من الشيطان، لأننا لا نعلم الأقدار كيف كانت لو لم ندع الله.

 

وعلينا الثقة أن دعاءنا مجاب في جميع الأحوال، وإن كانت إجابته لا تعني أن يعطينا ما طلبناه منه، لأن ذلك يسمى تعجيل الدعاء، وتعجيل الدعاء له شرطان حتى يقع.

 

أولهما: أن يكون ما تطلبه خيراً، ليس فيه ضرر (إثم) لأحد.. عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لَمْ يَسْتَعْجِلْ قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما الاسْتِعْجَالُ؟ قالَ: يقولُ: قدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذلكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (رواه مسلم).

وثانيهما: أن يكون مما تجري به الأقدار عادة، لا مما يحتاج إلى معجزة ليقع، لأن الله خلق كل شيء بالقدر، وإن كان إذا أراد شيئاً قال له: "كن"، فيكون، لكنه لا يجيب الدعاء بـ"كن فيكون" إلا في حالات خاصة، وهي غالباً للأنبياء والرسل...

 

﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69]

﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63]

﴿وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60]

 

لكن تأمل موسى عندما فر من مصر إلى مدين ودعا: ﴿... فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) [القصص: 23 - 28] أقدار عادية.. فقد سقى للمرأتين قطيعهما ثم آوى إلى الظل ودعا ربه: ﴿... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ.

 

فكان الجواب على الفور.. إحداهما جاءته تدعوه ليجزيه أبوها أجر سقايته لهما، ثم لتطلب من أبيها أن يوظفه، أي "فرصة عمل" وهو في أمس الحاجة إليها.

 

ويعرض الأب الحكيم على موسى أن يزوجه ابنته المعجبة به، مقابل أن يعمل لديه بأجر ثماني سنوات... ليس في هذا معجزات، لكنها الأقدار، ساقها الله لموسى فآواه وزوجه وآنسه، ورزقه وكفاه، وأغناه بفضله عما سواه.

 

وهكذا تقع أقدار طيبة في حياتنا، قد تكون متعمدة من الله رحمة بنا، ومكافأة دنيوية على عمل صالح تقبله منا.

 

لكن لن يتعمد الله أن يصيبنا بمصيبة على سبيل الانتقام والعقوبة. فالمصائب إما إنها من الأقدار المتوقعة بطبيعة الحياة، والعوامل الطبيعية والبشرية. أو إنها متعمدة ليرد الله بها عنا ما هو أكبر، أو ليسوق لنا من خلالها خيراً عظيماً.

 

لنتأمل قصة يوسف عليه السلام... طفل صغير أحبه أبوه أكثر من إخوته، لِما رأى فيه من صفات أعجبته، وبشرت بمستقبله العظيم في الصالحين، رأى الطفل رؤية مبشرة له بمكانة عالية بين الناس، فخاف أبوه عليه من إخوته أن تدعوهم غيرتهم منه وحسدهم له إلى إيذائه، وبالفعل حدث ما كان يخشاه الأب النبي الكريم يعقوب.

 

فقد ألقي يوسف في بئر على طريق القوافل المسافرة، واستخرجه بعض المسافرين إلى مصر، وباعوه عبداً بثمن بخس قليل، لكن الله قدر أن يشتري يوسف عزيز مصر، وأن يربيه كما لو كان ابنه، فعلى ما يبدو، كان الرجل لا ولد له.

 

كبر يوسف، وكان وسيماً وسامة تفوق الوصف، فحاولت زوجة العزيز ومعها صديقاتها زوجات رجالات الدولة، أن يغوين يوسف، ليرتكب الفاحشة معهن، استجابة لشهواتهن، فعصمه الله واتهمته زوجة العزيز أنه حاول اغتصابها، لكن الله برأه.

 

وتضايق يوسف من ملاحقة النسوة له، فدعا ربه ليصرف عنه كيدهن، فاستجاب له ربه، فصرف عنه كيدهن.

 

لكن أمراً غريباً وقع، فقد قرر العزيز، ومن معه من رجالات الدولة، أن يسجنوا يوسف حتى حين، لتقع أقدار كانت بالغة الأثر في حياة يوسف، وأبويه، وإخوته.

 

فقد دخل مع يوسف السجن فتيان، رأى أحدهما في المنام نفسه يعصر خمراً، وكان ساقي الملك، ورأى الثاني في المنام نفسه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، وكان خباز الملك. وكان يوسف يتنبأ بالطعام الذي سيأتيهم هم وباقي المساجين، قبل أن يأتيهم، وكان قادراً على تأويل الرؤى، فلجأ إليه الفتيان فدعاهما إلى الله الواحد الأحد، ثم أول لهما رؤيتيهما: خباز الملك يصلب، وتأكل الطير من رأسه. أما ساقي الملك، فينجو، ويرضى عنه مالكه، ويعود إلى خدمة الملك كسابق عهده.

 

لم يفت يوسف أن يغتنم الفرص، فقال لساقي الملك: ﴿... اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. أي: عند مالكك، والرب هو المالك والراعي، لكن ساقي الملك، نسي أن يخبر الملك عن يوسف، ومرت بضع سنين، ويوسف في السجن، نسيه من أودعوه فيه ظلماً، ونسيه ساقي الملك.

 

لكن الله لم ينسه، وقد كان بشره عندما ألقاه إخوته في البئر، بأنه سيأتي يوم، ينبئ يوسف إخوته بفعلتهم هذه، ويعاتبهم عليها، فهو عائد إليهم لا محالة، وبقي يوسف صابراً في السجن، حتى صحا الملك يوماً من نومه، وقد رأى في منامه، سبع بقرات سمان، وسبع بقرات عجاف ضامرات، يأكلن البقرات السبع السمان، ورأى سبع سنبلات خضر، وسبع سنبلات يابسات...

 

كانت رؤيا عجيبة مليئة بالمعنى، لكن لم يعرف تأويلها أحد.

 

هنالك تذكر ساقي الملك يوسف الذي كان يعبر الرؤيا في السجن، ويتنبأ بالطعام قبل أن يأتي، فحدث الساقي الملك عن يوسف، فأرسله الملك إليه يسأله عن تأويل رؤياه، فقال يوسف: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) [يوسف: 47 - 49]

 

أي تزرعون سبع سنين دأباً، فما حصدتم فذروه في سنبله، إلاّ قليلاً مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبع سنوات شداد، يأكلن ما قدمتم لهن مما ادخرتم من حبوب، إلا قليلاً مما تحافظون عليه جيداً، ليكون بذاراً للسنة التي بعدها، حيث فيها يغاث الناس بالمطر الكثير، والماء الوفير، وفيه تثمر أشجارهم، ويعصرون ثمارها، كما اعتادوا من قبل.

 

أعجب الملك كثيراً بهذا التأويل، الذي استخلص المعنى من رؤياه التي عجز الحكماء عن فهمها، ومعرفة ما ترمز إليه، فقال: ائتوني بيوسف أستخلصه لنفسي. ويذهب الداعي إلى السجن، يدعو يوسف ليكون جليس الملك ومستشاره، فيأبى يوسف أن يستجيب لدعوة الملك، قبل أن يتحقق الملك مما اتهم به يوسف، وتتأكد براءته.. وهكذا كان. خرج يوسف من سجنه ليصبح عزيز مصر، وليتولى خزائنها في السنين المعطاءة والسنين العجاف، وليتولى تنفيذ ما نصحت به رؤيا الملك، وليأتي إخوة يوسف من فلسطين، يطلبون أن يشتروا بعض الطعام، إذ السنين العجاف كانت على المنطقة كلها، ويعرفهم يوسف، دون أن يعرفوه، ويحتال ليجعلهم يحضروا له أخاه الحبيب إليه، الذي من أمه وأبيه، بينما كان البقية من أم أخرى، ثم يعرفهم بنفسه، ويدعوهم مع والديه لترك البادية، والاستقرار في مصر، حيث تكاثر أولاد يعقوب (إسرائيل)، أي: يوسف وإخوته، إلى أن صاروا شعباً كبيراً على مدى القرون.

 

والشاهد في القصة، أن الله قدر ربما متعمداً، أن يسجن يوسف، وأن يكون ذلك في اليوم الذي يدخل فيه السجن ساقي الملك، الذي يتعرف على يوسف، ومقدرته العجيبة على تأويل الرؤيا، ثم ينجو الساقي، ويعود إلى عمله عند الملك، وتمضي سنون عدة، ليرى الملك رؤياه التي لا يعبرها إلا يوسف.

 

وينتقل يوسف من عبد مملوك متهم ومسجون، ولا ناصر له إلا الله، إلى عزيز مصر، المسؤول عن خزائنها في أشد وأصعب أوقاتها، ولتتحقق رؤيا يوسف التي رآها وهو صغير، وليتغير التاريخ تغيراً كبيراً.

 

ترى لو لم يدخل يوسف السجن، هل كان ما حدث سيحدث؟ في الغالب، كان سينفد صبر الرجال الذين علموا أن زوجاتهم مفتونات بيوسف ويراودنه عن نفسه، وقد يقوم أحدهم بقتله للتخلص منه، فهو مجرد عبد مملوك، وهم علية القوم.. لكن الله ألهمهم أن يسجنوه، فحماه من شرهم ومن كيد نسائهم، وقدر له اللقاء بساقي الملك، كي يقع ما وقع، عندما رأى الملك رؤياه، إلى آخر الأقدار التي وقعت، وقادت إلى أن يأتي اليوم الذي يسجد فيه أبواه وجميع إخوته له، "سجود التحية". فهو عزيز مصر، وهم أجانب ضيوف، وقد كان كريماً معهم ومتسامحاً مع إساءتهم إليه.

 

هكذا يقود كل قدر إلى قدر آخر، والله لا يتدخل ليعيق ما نعمل، ويحبط ما نبذل الجهد له، لأنه لا يتعمد معاقبتنا، ولا الانتقام منا مهما عملنا.

 

بينما مكافأته لنا منها ما هو معجل في الدنيا، فيسوقه الله لنا من خلال الأقدار، وقد يلزم أن يقدر الله على أحدنا محنة لتكون سبباً لمنحة وعطاء. لكن علينا أن لا ننسى الدعاء، وبخاصة دعوة المظلوم، إذ وعد ربنا بنصرتها والاستجابة لها، ولو بعد حين. وقد يعجل ربنا دعوة مظلوم على ظالم، فيبتليه بما دعا المظلوم به، استجابة للمظلوم، لا تعجيلاً للعقوبة من الله.

 

والنتيجة واحدة: وهي أن تقود معصية، وهي ظلم الناس إلى عقوبة دنيوية، لكن ربنا لا يعاقب في الدنيا على المعاصي في حقه، لأنه أمهل الناس حتى يموتوا، أما إن ظلم الناس بعضهم بعضاً، فقد يلجأ المظلوم إلى الدعاء على الظالم، وتقع المصائب على الظالم بدعاء المظلوم. وإن كان ربنا كثيراً ما شجع المظلومين على المغفرة، ووعدهم أن يعوضهم عما ظُلموه.

 

ثم إن هنالك الدعاء بالخير، الذي يعجل ربنا ما فيه خيرنا، وذلك من خلال الأقدار، ويكون تدخل ربنا للخير والعطاء، ولو مر ذلك بمرحلة مصيبة تقود إلى نعمة، أو فيها خير كثير هي بحد ذاتها. كما سجن يوسف بضع سنين ظلماً كما وجدنا، فكان سجنه حماية له، وإيصالاً له إلى الملك، وإلى المنصب السامي.

 

ربنا لا يقدر ما فيه معاندة لجهودنا، إلاّ إن كنا ظالمين لأحد، واستجاب فينا دعوة مظلوم، وقد يكون لعقوق الوالدين بعض الأثر. أما ما عدا ذلك، فلا يتدخل ربنا في الأقدار إلاّ لخيرنا. ولتعودوا إلى تأمل حكاية موسى عليه السلام مع الخضر الذي جسدت أفعاله تدخل الخالق في الأقدار لحكمة يراها، لكنها كلها تدخلات لخير العباد.

 

إن الإيمان الصحيح بالقدر، يجعل المؤمن فاعلاً في الحياة، يبذل وسعه وجهده لتنجح مساعيه، وهو يحس كما يقال في علم النفس: أن مركز التأثير في حياته، إنما هو داخله، فهو يعلم أن ما يفعله في الحياة كله من قدر الله، وأنه لو شاء الله أن لا يفعل ما فعله، لكان مستحيلاً عليه أن يفعله، وبالتالي فإن المؤمن يدافع القدر الذي لا يحبه، بقدر يحبه، أي: يسعى ويأخذ بالأسباب، وهو يعلم أن قدر الله لن يكون منيعاً على الأقدار الأخرى التي تدافعه. إذ قدر الله، لا يتمرد على القوانين الطبيعية إلاّ عندما تكون معجزة، أو أمراً أمر فيه ربنا بمحو أمة فسقت عن أمر ربها، وأهانت رسولها، واستنفدت جميع الفرص التي أتاحها لها الحليم الرحيم... وهذا النوع من الأخذ انقضى مع انتهاء الرسل، وختمهم بخاتمهم محمد ﷺ.

 

أقدار الله من حولنا لا تخرج على قوانين الله وسننه في مخلوقاته، فموقع الشيء أو الكائن في الزمان والمكان، يحدد قدره بحسب هذا الموقع، وبحسب سنن الله في النفوس، وفي الطبيعة. وطالما أن كل ما يقع لا يقع إلاّ بعلم العليم، وإذن الذي على كل شيء قدير، فإن كل ما يقع في الوجود قدر لله.

 

والذي يمرض ويبحث عن الطبيب الماهر أملاً في الدواء المناسب، لا يكون معانداً لقدر الله، فوقوعه في المرض، يعني أن الله قدر عليه المرض، وإذا وصل إلى الطبيب الماهر، فوصف له الدواء المناسب، وكان الشفاء بإذن الله، فهذا يعني أن الله قدر له الشفاء، مثلما قدر عليه المرض. قال رسول الله ﷺ: "لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذْنِ اللهِ عزَّ وجلَّ" (صحيح مسلم).

 

عن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال: "يا رسولَ اللهِ أرأَيْتَ دواءً نتداوى به ورُقًى نَسترقي بها وأشياءَ نفعَلُها هل ترُدُّ مِن قدَرِ اللهِ ؟ قال : (يا كعبُ بل هي مِن قدَرِ اللهِ)" (رواه الحاكم والترمذي والطبراني)

 

فالعقيم الذي لا ينجب، ليس عقيماً إلاّ بقدر الله، لكن ذلك لا يعني أن يستسلم لهذا القدر، ولا يبحث عن وسيلة لينجب ما يرغب فيه من ذرية، بحجة أن سعيه وراء العلاج معاكسة لقدر الله. إن كل ما نمر به في حياتنا هو قدر لله، فكلما عطشنا، فإننا نعطش بقدر الله، وكلما جعنا، فإننا نجوع بقدر الله. فهل يعني ذلك أن لا نأكل، ولا نشرب حتى لا نعاكس قدر الله؟ لو شربنا، فسنشرب بقدر الله، ولو أكلنا، فسنأكل بقدر الله، ولو امتنعنا عن الطعام والشراب، فسنمتنع بقدر الله، لأن كل ما يقع في الوجود لا يقع إلاّ بقدر الله.

 

نحن نسعى إلى الشفاء من العقم بكل ما يتيسر لنا من وسائل مشروعة، وإن كان الله يريدنا أن لا ننجب، فإن جهودنا لن تأتي بنتيجة، لكن ما أدرانا ما هي إرادة الله لنا، ألا يمكن أنه يريدنا أن ننجب أطفالنا بالأنبوب، أو غيره من الوسائل.

 

إذاً: نسعى لتغيير القدر الذي لا يعجبنا، ونفر من قدر الله إلى قدر الله. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما كان في طريقه إلى الشام، قيل له إن وباء حل فيها، فرجع عمر ولم يدخلها فقال له الصحابي الذي يرافقه وكان أبا عبيدة بن الجراح: "أَفراراً من قدر الله؟".

 

فعلمه عمر درساً رائعاً في القدر، إذ أجابه أنه يفر من قدر الله إلى قدر الله. وضرب له مثلاً لو كان هنالك واد له جانبان أحدهما معشب، والآخر لا زرع فيه، في أيهما يرعى إبله، وذكره أنه إن رعاها في المعشب، رعاها بقدر الله، وإن رعاها في المجدب الذي لا زرع فيه، رعاها بقدر الله. روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس "أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، خَرَجَ إلى الشَّأْمِ، حتَّى إذَا كانَ بسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأجْنَادِ، أبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ وأَصْحَابُهُ، فأخْبَرُوهُ أنَّ الوَبَاءَ قدْ وقَعَ بأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لي المُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وأَخْبَرَهُمْ أنَّ الوَبَاءَ قدْ وقَعَ بالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قدْ خَرَجْتَ لأمْرٍ، ولَا نَرَى أنْ تَرْجِعَ عنْه، وقَالَ بَعْضُهُمْ: معكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وأَصْحَابُ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَا نَرَى أنْ تُقْدِمَهُمْ علَى هذا الوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لي الأنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، واخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي مَن كانَ هَا هُنَا مِن مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِن مُهَاجِرَةِ الفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ منهمْ عليه رَجُلَانِ، فَقالوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بالنَّاسِ ولَا تُقْدِمَهُمْ علَى هذا الوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ في النَّاسِ: إنِّي مُصَبِّحٌ علَى ظَهْرٍ فأصْبِحُوا عليه. قَالَ أبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ: أفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لو غَيْرُكَ قَالَهَا يا أبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إلى قَدَرِ اللَّهِ، أرَأَيْتَ لو كانَ لكَ إبِلٌ هَبَطَتْ وادِيًا له عُدْوَتَانِ، إحْدَاهُما خَصِبَةٌ، والأُخْرَى جَدْبَةٌ، أليسَ إنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ، وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ - وكانَ مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ - فَقَالَ: إنَّ عِندِي في هذا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بهَا فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ".

 

وطالما أن كل ما نفعله نفعله بقدر الله، فلم لا نحرص على ما ينفعنا، ونجتهد في الأخذ بأسباب النجاح في شؤون الدنيا والآخرة، ولا نجعل من إيماننا بالقدر خيره وشره من الله تعالى سبباً للعجز والاستسلام لأقدار يصنعها غيرنا، ويأذن الله بوقوعها، ولا نعمل شيئاً إلاّ أن نستسلم، ونترك غيرنا يتحكم بحياتنا.

 

إننا إن فهمنا القدر الفهم الصحيح، انطلقنا في الكون نسخره لنا، ونؤدي دور الخلافة في الأرض، التي خلقنا الله لها، نصنع الأقدار، ونعلم أننا نصنعها بعلمه وإذنه جل في علاه، ولا نقف مجرد متلقين للأقدار، ومنفعلين بها بسلبية وعجز، ونظن أن ذلك مقتضى إيماننا بالقدر خيره وشره من الله تعالى.

 

قال رسول الله ﷺ: "إنَّ اللَّهَ يلومُ علَى العجزِ، ولَكِن عليكَ بالكَيسِ، فإذا غلبَكَ أمرٌ فقُلْ: حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ" (رواه أحمد وأبو داود وغيرهما)

وقال: "الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ المَوتِ والعاجِزُ مَن أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على اللهِ" (رواه الترمذي وحسنه والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط البخاري)

 

فإن كانت أفعالنا تصنع الأقدار، فلم ننسبها إلى الله تعالى؟

 

ننسبها إلى الله لنتواضع ولا يصيبنا الكبر والغرور عندما نحقق إنجازاً، فنحن نعترف أنه ليس أمر علم عندنا ومهارة و"شطارة"، إذ علمنا لا يفيدنا بشيء، لو لم يقدر الله لنا الظروف المناسبة لنحقق ما حققناه، ولو لم يمنحنا ربنا القدرة والعافية والعلم والمهارة، لنحقق ما حققناه.. فالله محيط بنا، ونحن كل لحظة وفي كل موقف تحت رحمته ولطفه، ولن نفعل شيئاً إذا شاء الله أن لا نفعله. لكن رجلاً جاحداً لفضل الله عليه قال عن ماله الكثير: إنما أوتيته على علم عندي.

 

قال تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) [القصص: 76 - 78]

 

إن إيماننا بالقدر، يقينا من الفرح الذي هو الاختيال، والفخر، والتعالي عند النجاح، وهو الفرح المحرم بخلاف الفرح بمعنى السرور والغبطة والسعادة وهو المعنى الشائع في هذا الزمان لكلمة فرح. وإيماننا بالقدر يحمينا أيضاً من اليأس والقنوط عند المصائب. قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) [الحديد: 22 - 23]

 

إن الإيمان أن كل ما وقع ما كان ليقع لولا أن الله قدره وكتبه يريح النفس عند المصائب، ويزيل عن المصائب العشوائية الظاهرة، مع أن كثيراً من المصائب لا يتعمدها الله، لكنها ليست خارجة عن إحاطته، وقدرته، وتحكمه.

 

إذ لا شيء في الكون، خارج عن سيطرته.

 

وهكذا يكون في إيماننا بالقدر:

أولاً: معرفة قَدْر الله تعالى، وأنه غالب على أمره، وقاهر فوق عباده، وعلى كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.

وثانياً: راحة وسكينة عند المصائب، وعند النعم، فلا نخرج عن شعورنا أننا لسنا وحدنا في هذا الكون، بل نحن خلفاء لرب العالمين، الذي استخلفنا في الأرض، واستعمرنا فيها، وهو الفاعل لكل ما نفعله ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال: 17]. وهذا يعني أنك وإن كنت الذي رماهم بسهامه وأرداهم فإن الرامي الحقيقي لهم وقاتلهم هو الله الذي قدر على يديك رميهم وقتلهم، كما لو أعطاك رجل مالاً أنت في أمس الحاجة إليه فإنه يؤجر على عطائه لك لكن يبقى المعطي الحقيقي لك هو الله الذي قدر عطاء الرجل لك ذاك المال ويبقى الذي رزقك هو الله رغم أن الرجل سيؤجر على ما فعل، فهو قد أعطاك ولكنه ما كان له أن يعطيك لو لم يُقَدِّر الله ذلك: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 30] بينما فعل الله لا يتوقف على مشيئة أحد سواه لذا كان الله هو الفاعل الحقيقي رغم أن البشر أيضاً هم فاعلون ويؤجرون أو يعاقبون على ما يفعلون.. والله هو الخالق لما نصنع ونخترع، لأن ما صنعناه، وما اخترعناه، إنما صنعناه، واخترعناه بقدر الله، والله يخلق بالقدر، ولسنا إلاّ جزءً من قدره المحيط بنا، وبالتالي يكون الله خالق كل شيء، بما في ذلك أفعالنا التي نفعلها خيرها وشرها، ونكون نحن أيضاً فاعلين لأفعالنا، ونستحق عليها المثوبة أو العقوبة، لأن الله لم يجبرنا عليها، بل كانت أقداره من حيث أنه علم بها قبل أن تقع، وأذن لها أن تقع، وهو القدير على الحيلولة دون أن تقع، تقدير تجتمع فيه مشيئة الله غير المباشرة التي هي إذنه، مع إرادتنا الحرة المباشرة، فينسب الفعل لنا وله في الوقت ذاته، ونستحق عليه المثوبة أو العقوبة، ويستحق هو الحمد على ما وفقنا فيه إلى الخير، ولا لوم إلاّ علينا فيما أسأنا فيه، فهو لم يجبرنا عليه، إنما تركنا نفعل ما شئنا، لا لأنه تعمد أن نقع فيما وقعنا فيه، بل هو أذن به، لأنه يريد أن يمتحننا، ويرى أينا أحسن عملاً.

 

قال ﷺ: "إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةّ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي حَديثِ ابْنِ بَشَّارٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ" (صحيح مسلم).

 

ورغم أن أغلب الأقدار في حياتنا، وفي الطبيعة من حولنا تقع بإذن الله وعلمه، فتكون أقداراً منه دون أن يتعمدها، فإنه جل جلاله احتفظ بأهم أمرين تقلق النفوس البشرية عليهما، وهما الأجل والرزق.

 

فهو يحدد الأجل والرزق، عندما يكون الجنين في بطن أمه، فيقضي ربنا أجله ورزقه بما شاء. قال رسول الله ﷺ: "إذا مرَّ بالنطفةِ اثنتانِ وأربعون ليلةً، بعث اللهُ إليها ملكًا فصوَّرها، وخلق سمعَها وبصرَها، وجلدَها ولحمَها وعظامَها، ثم قال : يا ربِّ أَذكرٌ أم أُنثى ؟ فيقضي ربُّك ما شاء، ويكتبُ الملَكُ، ثم يقولُ : يا ربِّ أجلُه، فيقول ربُّك ما شاء، ويكتبُ الملَكُ، ثم يقول : يا ربِّ رِزقُه، فيقضي ربُّك ما شاء، ويكتبُ الملَكُ، ثم يخرجُ الملَكُ بالصحيفةِ في يدِه، فلا يزيدُ على أمرٍ، ولا يُنقِصُ" (مسلم: 2645).

 

وروى مسلم أيضاً في صحيحه أن أم حبيبة زوج النبي محمد ﷺ قالت: "اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بزَوْجِي رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ قالَ: فَقالَ النبيُّ ﷺ: قدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شيئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شيئًا عن حِلِّهِ، ولو كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِن عَذَابٍ في النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ في القَبْرِ، كانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ" (صحيح مسلم: 2663).

 

أي: أن عمر الإنسان قد حدده ربنا، ولن يتقدم أو يتأخر بفعل الدعاء، أو غيره من الأسباب، لذا كان النبي محمد ﷺ يطلب من الله العافية مدى الحياة لا طول العمر. فكان يقول: "اللهم أمتعْنِي بسمْعِي وبصَرِي واجعلهما الوارِثَ منِّي" (أي: أن أموت قبل أن تموت أعضائي) كما روى الحاكم في مستدركه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

 

وكنت أتساءل عن معنى: "واجعله الوارث مني"، فتبين لي عندما درسنا في كلية الطب، كيف تنقل الأعضاء من شخص مات لتوه، ولم تمت أعضاؤه بعد، كالكلية والكبد وغيرهما فتنقل إلى شخص مريض، ليتعافى بها.

 

والذي نفهمه من أن الآجال مضروبة وثابتة، أن الإنسان مهما اعتنى بصحته، فإنه باعتنائه بها، يمكن أن ينعم بالعافية والقوة، ربما طيلة حياته. لكنه لن يتمكن من إطالة حياته، إذ للموت أسباب عديدة، منها الحوادث والجرائم، والكوارث الطبيعية....

 

وعندما يحدد ربنا الأجل، فإنه يضمن أن لا يموت أحد قبل أن يستوفي أجله.

 

ولذلك جعل الله الملائكة التي تكتب أعمالنا، حافظين لنا من الموت، بأمر الله، حتى يحين الأجل.

 

﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) [الانفطار: 10 - 12]

﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد: 11]

 

وكذلك الرزق، أراد ربنا أن نعلق قلوبنا به وحده فيما يخص الرزق والأجل، كي ننعم بالشعور بالأمان في هذه الحياة، ولا نذل لأحد غير الله، إذ لا أحد يملك من أجالنا أو أرزاقنا شيئاً.

 

والمتأمل للواقع يجد: أن آجال الناس تطول، عندما تتقدم الرعاية الصحية في بلد من البلدان، وأرزاقهم تزيد عندما تكون هنالك تنمية وعدالة في المجتمع، وكل ذلك يقع بقدر الله، والله في أقداره لا يحرص على إحباط جهودنا الخيرة، ولا يعاكس السنن التي وضعها لتحكم مسار مخلوقاته كلها.

 

ولكن فيما يخص فرداً من الأفراد، فإن عمره بيد الله مباشرة، بغض النظر عن كل النواميس والقوانين.

 

أي: لو اجتمع أطباء العالم، على العناية بشخص معين، فإنهم قد ينجحون في تحسين صحته، ونوعية حياته، لكنهم لن يؤخروا أجله لحظة، إذ كما قلنا: للموت أسباب تقهر العافية البدنية، وإن قدرها الله على شخص، فسيموت وهو في أوج عافيته.

 

وهذا يعني أن لا يغتر الإنسان بصحته، ولا بتقدم الطب، لأنه لو قدر الله موته في ساعة معينة، فإنه سيموت، مهما توفر له من عناية ورعاية.

 

وبالمقابل، عندما نخطط للمجتمع، نخطط بكل عناية، وحرص، واهتمام، كما لو أن جهدنا هو الذي على أساسه تتحدد أعمار الناس، فنحمل المسؤولية عن حياة الناس، ولا نهمل ونقول: هي آجال مضروبة، لأن الله لم يطلع أحداً على أجله، أو أجل غيره، وقد جعل الله لكل شيء سبباً.

 

وكونه حدد عمراً لإنسان معين، أن يعيش مدة معينة، ثم جاء من قتله، وتسبب في موته، فإن تحديد الله لأجله، لا يعفي قاتله من المسؤولية، ولا يقبل منه حجة أن المقتول مات بأجله. إذ إن الله لم يكلف القاتل بإنفاذ مشيئته في أن يموت المقتول في الوقت الذي مات فيه.

 

نعم علم ربنا أن قاتلاً سيقتله في لحظة معينة، فجعل أجله تلك اللحظة، لكنه سيعاقب القاتل، لأنه قتله بمحض إرادته الحرة.... أما القول أن المقتول مات بأجله، إنما هو لتتعزى نفوس محبيه عند موته. ولنعلم جميعاً، أنه لا شيء مفلت من تحكم ربنا فيه، وأن الله حافظنا من الموت حتى ساعة الأجل التي كتبها هو، وليس لغيره قدرة على تعديلها. فمهما حاول أحد أن يقتله، أو حاول هو أن يقتل نفسه، فإنه لن يموت إلاّ بأجله، ولن يموت إلاّ بإذن الله ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 145].

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة