اختبار الصلاحية للخلافة في الأرض
اختبار الصلاحية للخلافة في الأرض
مع بدايات القرن العشرين، توصل علماء النفس إلى الاختبارات النفسية الأولى، وكانت تركز على تقدير درجة الذكاء عند المفحوص، عن طريق أسئلة توجه إليه، ودراسة إجاباته عليها.
ثم تقدم علم الاختبارات النفسية، وصار هنالك أنواع منها، ولعل من أهمها اختبارات الشخصية، حيث يتم التعرف على ميول الشخص وخصاله من خلال إجاباته على مجموعة كبيرة من الأسئلة.
لكن القرآن الكريم، يحكي لنا قصة أول اختبار نفسي في تاريخ البشرية.. وها هي الحكاية....
بعد أن خلق الله الأرض والسموات السبع، وبعد أن تهيأت الأرض لاستقبال الإنسان، أعلن الله للملائكة أنه على وشك أن يخلق الإنسان ليكون خليفة له في الأرض.
ودور الخلافة في الأرض دور كريم، تطلعت إليه نفوس الملائكة، فعرضوا أنفسهم له، وقارنوا بينهم وبين المخلوق الجديد... فهو مخلوق سيفسد في الأرض، وسيسفك الدماء... أما الملائكة الكرام، فمسبحون بحمد الله، مقدسون له.
لم يكن الملائكة يدركون أبعاد الدور الذي سيناط بالإنسان، وكان تصورهم أنه بالتسبيح والتقديس يتحقق الاستخلاف.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌۭ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةًۭ ۖ قَالُوٓا۟ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].
وأراد الله أن يري الملائكة تفوق الإنسان عليهم في قدرات تؤهله لأن يكون الخليفة في الأرض من دونهم. قال تعالى مكملاً لنا القصة الرائعة: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلْأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَـٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ (31) قَالُوا۟ سُبْحَـٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ (32) قَالَ يَـٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّىٓ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)﴾ [البقرة: 31-33].
لم يكن ذلك اختباراً ومباراة في القدرة على التذكر والحفظ، فالملائكة لا يعرفون النسيان، لأنهم كما أخبرنا تعالى عنهم يفعلون ما يؤمرون، ولا يمكن أن يفعلوا ما يؤمرون، هكذا بإطلاق، إن كان النسيان من طباعهم، أما آدم فالنسيان من طبعه، ولولا نسيانه لتحذير الله له من عداوة إبليس له، لما وقع في إغوائه، ولما عصى وهو في جنة الخلد....
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًۭا﴾ [طه: 115].
وقد كثرت الآراء وتنوعت في المقصود بقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلْأَسْمَآءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31].
ومال ابن كثير -رحمه الله- إلى أنها أسماء الأشياء كلها: ذواتها، وصفاتها، وأفعالها.
وإذا ما تذكرنا أن الاختبار لم يكن اختبار ذاكرة، وأن تفوق آدم على الملائكة لم يكن تفوقاً في الحفظ والتذكر، كما أنه ما كان الله ليلقن آدم معلومات معينة، ويحجبها عن الملائكة، ثم يجعل معرفة آدم لها مقياساً لتفوقه على الملائكة، ودليلاً لصلاحيته أكثر منهم لدور لخليفة في الأرض، إنما التفوق في الصلاحية يكون نتيجة في القدرات، وهذا يجعلنا نفهم أن تعليم الله لآدم ما كان تلقيناً، بل كان إقداراً له على تسمية كل شيء.
ولا يشكل علينا قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ﴾، إذ خلق الله الإنسان، وعلمه البيان، دون أن يعني ذلك أن الإنسان يولد وهو يجيد الكلام وغيره من طرق البيان عما في نفسه، بل كلها تقريباً مما يتعلمه في صغره، لكنه يتعلمه لوجود القدرة لديه على تعلمه، وهو يتعلم ما يكون متوافراً له في بيئته الاجتماعية.
وعندما تعرض الأشياء على الملائكة وعلى آدم، فتعجز الملائكة عن تسميتها، لأنها لم تتلقن أسمائها من قبل، أما آدم فيسميها، وبذلك تظهر قدرته على إطلاق الأسماء على الأشياء، وهي القدرة على الترميز، أي: التعبير بالرموز عن الأشياء، والدلالة بالرمز على الشيء، كما تظهر قدرته على تكوين المفاهيم وإبداعها، حيث يستخلص مما يراه مفاهيم يستخدمها في وصف ما يرى من أشياء وأفعال، وفي تصنيفها بشكل يسهل معه إطلاق اسم واحد على أشياء عديدة تشترك في خواص معينة، وهذه القدرة على الترميز، وعلى إبداع المفاهيم، ما كان للإنسان أن يفكر بالطريقة الفائقة التي يفكر بها، وما كان له أن يبدع ما أبدعه لولاها.
إنها بحق قدرة تجعل منه كائناً أصلح من غيره من الكائنات لدور الخليفة لله في أرضه، ذلك الخليفة الذي يستطيع أن يبدع، ويجتهد في المواقف المختلفة، وأن يجد الحلول للمشكلات التي تعترضه، منطلقاً مما أعطاه الله من قدرات عقلية لم يعط مثلها حتى للملائكة الكرام.
ونعود إلى حديثنا عن الاختبارات النفسية، لنجد أن هذا الاختبار الذي تعرض له آدم، كان أول اختبار ذكاء في التاريخ، أجراه الحكيم العليم.