الاعتمادية والنرجسية
الاعتمادية والنرجسية
Whatsapp
Facebook Share

 الاعتمادية والنرجسية

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

عندما تقولُ سيِّدةٌ ما "زوجي طفلٌ" فإنَّها تَعني أنَّ زوجها ما زالت فيه خصالٌ وطِباعٌ مِن خِصالِ الطّفولةِ وطِباعها، فهو لا يَتحمَّل المسؤوليَّة في الأسرة كما هو مُتوقَّعٌ مِن رَجُلِ البيت، وهو يَشعر أنَّه له الحقُّ في أن تَستَجيبَ زوجته لكلِّ طلباته دونَ أن يُفكِّرَ بمكافأتِها بأن يَستجيبَ لِرَغباتِها واحتياجاتِها، هو يَفهمُ الحُبّ أخذاً لا عطاءً، وإذا لَم يَحصل على ما يُريد ثارَ غضبه ثورةً عاصفةً، فهو يرى نفسه مُهمَّاً إلى أبعدِ الحدود، مُتفرِّداً ليس هنالكَ مَن هو في صفاتِه ومواهبِه وجمالِه وذكائِه، وهو جديرٌ بالاهتمامِ والإعجابِ والتّدليلِ دائماً، ويُدهشه ويُغضبه ألّا يكونَ مَوضِعَ الاهتمامِ أو أن لا يُستجاب لِرغباتِه.

 

حتّى نَفهم أمثال هؤلاءِ الأزواجِ والزّوجات أيضاً، مِن النّاحيةِ النّفسيّةِ لا بُدَّ لنا مِنَ الكلامِ على خصائصِ الشّخصيّةِ البشريَّةِ؛ فكلّ مِنَّا فيه القليل مِن الخصائصِ كلّها، وإذا ما كانت الخصائصُ موجودةً بشكلٍ متوازنٍ وبنسبٍ مُعيَّنةٍ كانت الشّخصيَّةُ طبيعيَّةً مُتَزِّنةً، أمّا إن زادت فيها صفةٌ مُعيَّنةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ فإنَّ الشّخصيّةَ كلّها تتلوَّنُ بِتلكَ الصّفة وتُصبحُ شخصيَّةً مُضطربةً في نَظَرِ الأطباءِ النّفسيين، فكما أنَّ ألوانَ الطّيفِ السّبعة إذا ما مُزِجَت بِنِسَبٍ مُتساويةٍ أعطَت اللّونَ الأبيضَ، فإنه إن زادت فيها نسبةُ لونٍ منها زيادةً كبيرةً طغى ذلكَ اللّون وحَلَّ مَحلَّ اللّون الأبيض، وهذا حالُ الشّخصيَّةِ الإنسانيَّةِ معَ الخصائصِ المُتنوِّعةِ.

 

ومِن الخصائصِ هذه مثلاً صفة الحَذر مِنَ الآخرين والشَّكِّ في نواياهم والاحتياطِ مِن أذاهُم، أو صفة الانبساطِ والانفتاحِ على النّاسِ والدُّخول معهم في علاقاتٍ اجتماعيَّةٍ، أو صفة المَرَحِ أو الكآبةِ، أو صفة استعراض النّفسِ وإظهارِها، أو صفة الدِّقَّة والانضباط والثّبات على قواعد مَعيَّنةٍ، أو صفة النَّرجسيَّة أو صفة الاعتماديّة.

 

فالطّفلُ الّذي لا يَرزقه الله أُمَّاً حنوناً تَستَجيبُ لاحتياجاتِه في السَّنةِ الأولى والثّانية ولا تُظهرُ له الحُبَّ والدِّفء، فإنَّه يَتعلَّقُ بها على كلِّ حالٍ لكنَّه يكونُ قَلِقَاً لا يَشعر بالأمانِ في هذا العالَم، وإذا ما تَرافَقَ ذلك مع عدم تمكينه مِنَ الاعتمادِ على نفسِه وبخاصّة في السّنةِ الثّانيةِ والثالثةِ مِن العُمرِ عندما يَكتشفُ الطّفلُ ذاته كفردٍ مُستقلٍّ ويَبدأ يَقول "أنا" ويَرغبُ في عَملِ كلِّ شيٍءٍ بنفسه، وإذا ما أُضيفَ إليه أن كانَ الوالدان مِنَ النَّوعِ الّذي لا يَتحمَّل الأخطاء والعيوب فيُكثران مِن انتقادِ هذا الطّفل ولا يُرَكِّزانِ إلّا على أخطائِه دونَ أن يَمتَدِحا الصّوابَ الّذي يَعمله ودونَ أن يُشجِّعاه على المَزيدِ مِن العَملِ الّذي يُؤدِّيه بنفسِه حتّى لو كانَ غير كامل، فإنَّ هذا الطّفل سيَكبر لِيصيرَ رَجلاً بالحَجمِ لكنَّه ضَعيفُ الثِّقةِ بنفسه، سلبيَّاً، مُتشائماً، لا يَجرُؤ على مُنافسةِ الآخرين، ويكون تابعاً مُنقاداً في أيَّةِ علاقةٍ يُنشئها مع الآخرين ويَتجنَّب أن يكونَ في مَوقِع المسؤوليّة، وليس لديه روح المُثابرة في العملِ لِتحقيقِ أهدافه، وهذا الضّعفُ لديه يَجعله يَتعلَّقُ بالآخرينَ بما فيهم زوجته تَعلُّقاً يُشبه تَعلُّقه بأمِّه أكثر ممّا يُشبه الحُبّ المعروف بين الكبار حيث العلاقة علاقة ندٍ لِندٍ وعلاقة أخذ وعطاء واعتماد مُتبادل وليس اعتماداً مِن جانبٍ واحدٍ.

 

والأشخاص الاعتماديُّون سواء كانوا أزواجاً أو زوجاتٍ يَتحمَّلونَ الإساءةَ والإهانةَ مِن الطّرفِ الثّاني مِن أجلِ استمرارِ هذه العلاقة مثلما يَتحمَّلُ الطّفلُ الإيذاءَ مِن أمٍّ قاسيةٍ ويبقى مُتعلِّقاً بها... هؤلاء الأشخاص رجالاً كانوا أو نساءً يتركونَ غيرهم يُقرِّرُ لهم في قضايا حياتهم الهامّة، وقَد لا يَجرُؤ أحدهم على أخذِ مسؤوليَّة اختيارِ ملابسه عند شرائِها لأنَّه لا ثِقةَ له حتّى في ذوقِه واختيارِه.

 

أمّا إن قامَ الوالدانِ بِتَحطيمِ ثِقةِ الطّفلِ بنفسه وبِحرمانه مِن الاعتمادِ على نفسه كما ذكرنا لكنَّهما في نفسِ الوقتِ كانا يريانِ فيه جَمالاً خارِقاً أو ذَكاءً غير عادي أو غير ذلك، وكانا مُبالِغين في تَقديرِهما وغير واقعيين، وأخذا في نفسِ الوقتِ يَكيلانِ المَديحَ ويُظهران الإعجاب بالصِّفاتِ الخارقةِ الّتي يَتخيَّلان وجودها في ولدهما (صبيَّاً كان أو بنتاً) فإنَّ ذلك يُؤدِّي إلى صياغةِ شخصيَّةِ هذا الولد بحيث يكونُ مُعتمِداً وبنفسِ الوقتِ نَرجسيَّاً أي مُتمحوِراً حولَ ذاته ومُحبَّاً لها حُبَّاً يُعميهِ عمّا سِواها، فلا يَرى في الدُّنيا مثله ويَعيشُ في عالَمٍ مِن وَهْمِ التَّفوُّقِ والعَظمةِ والتّفرُّدِ مع أنه يكون عادة عاديَّاً في تلك الصِّفات؛ وصِفة النَّرجسيَّةِ هذه تَجعله يَطلبُ الدّلالَ والإعجابَ الدّائم مِنَ الآخرين، ولا يُفكِّر إلّا بنفسه حتّى أنَّه قد لا يَتفهَّم ولا يَتعاطَف مع آلامِ الآخرين ومُعاناتِهم، أمّا مَن يَنتقده فإنَّه عدوّه الأكبر حتّى لو كانَ الانتقادُ في مَحلِّه ومِن قبيلِ النّصيحةِ لا الفَضيحة. إنَّهُ يَتوقّع أن تُقدَّمَ له الخدمات الخاصّة الّتي لا تُقدَّم لِغيرِه لا لشيءٍ إلّا لسواد عَينيه.

 

ليست مَحظوظةٌ الّتي يُقَدَّرُ عليها الزّواج مِن رجلٍ اعتماديٍّ أو نَرجسيٍّ، كما أنَّه ليس محظوظاً مَن يَتزوّجُ امرأةً مِن هذا الصّنف، والمُلاحَظُ أنَّ الاعتماديَّةَ أكثر شيوعاً بين النِّساءِ والنَّرجسيَّةَ أكثر شيوعاً بين الرِّجال.

 

وعلى الزّوجة الّتي تتزوَّجُ رجلاً اعتماديَّاً أن تُساعده على تَقويةِ ثِقته بنفسه بأن لا تُعامله وكأنَّه ابنها، بل تَتركه يَعتمد على نفسه في جميعِ أُمورِه، وتَتركه يُقَرِّرُ لنفسِه وللأسرةِ مهما ضايقه ذلك حتّى تَنضجَ شخصيَّته، فالزّوجة الّتي يَترُك زوجها لها قيادة الأسرة قد يُعجبها ذلك في البِداية، لكن مع مرورِ الوقتِ تَكتشفُ أنَّه فَعَلَ ذلك لأنَّه عاجزٌ عن حَملِ المَسؤوليَّةِ، وعندها يَضعُف إعجابها به وتُصابُ بالقلقِ لأنَّها هي أيضاً بشرٌ وتَتَوقَّعُ أن تَمرَّ بمواقفِ ضَعفٍ تحتاجُ فيها إلى مَن تَستَنِدُ إليه وتَستَمِدُّ منه العَونَ النَّفسي والمَادي، فإن كان زوجها مُعتمِداً عليها فعلى مَنْ سَتعتَمِد هي؟.

 

إنَّ تَشجيعَ الزّوج الاعتمادي على الاستقلاليّةِ وحَملِ المَسؤوليّةِ فيه الخير للزّوجةِ مِثلما فيه الخير للزّوج، وكذلك لو كان الحالُ معكوساً بأن كانت الزّوجة هي الاعتماديّة.

 

وعلينا الحَذر في تَربيةِ أولادِنا بأن لا نُنشِئ رجالاً وَنساءً اعتماديينَ واعتماديَّات أو نرجسيين ونَرجسيَّات دونَ أن نَقصد، عندها نَقَعُ في الأخطاءِ التّربويَّةِ الّتي ذَكَرتُ بعضاً منها.

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة