الزواج حب لا امتلاك
الزواج حب لا امتلاك
Whatsapp
Facebook Share

الزواج حب لا امتلاك

بقلم الدكتور محمد كمال الشريف


 

في كتابها (المتعة) (ترجمة فادي حمود، ونَشر شركة المطبوعات للتوزيع والنّشر، بيروت) في الصفحة (103) والصفحة (108) تَدَّعي شهلا حائري، الأمريكية ثقافة وجنسية والإيرانية المسلمة أصلاً ونسباً، تَدَّعي أنَّ مِن المُسلمين مَن يَنظُر "إلى الأعضاء التّناسليّة والجنسيّة للمرأة على المستويَين الواقعي والرّمزي، على أنَّها شيءٌ أو سلعةٌ مُنفصلةٌ عن شخصها، وفي صلبِ عمليّة التّبادُل الفَرديّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، أي أنَّها شيءٌ يُمكِنُ تَجريده وتَجسيده ماديَّاً في آنٍ واحدٍ، ثمَّ التّعامُل معه على أنّه كيانٌ قائمٌ بِذاته" وتقول في الصّفحة (107): "يُعتَبَرُ الزّواج الدّائم عقد بيعٍ كامل ونهائي، مثل شِراء منزل، كما أوضحَ لي رجل دِينٍ ذاتَ يومٍ" ثمَّ تقول: "في المُقابل، يُشبه عقد الزّواج المؤقَّت استئجار السّيَّارة على حدِّ قولِ أحدِ الّذين قابلتُهم خلال بَحثي هذا". وكانت قد قالت في الصّفحة (103) وهي تَستَنِد إلى أحدِ الباحثين الغَربيين: "على الرُّغم من أنَّ ذلك قد يبدو مُتناقضاً للوهلة الأولى، فإنَّ المرأة ليست موضوع التّبادُل في الزّواج الإسلامي (وهي تَقصُد هنا التّبادل التِّجاري، كما تُتَبادَلُ السِّلَع التِّجاريّة)، بل يُنظَرُ إليها على أنَّها تمتلكُ السِّلعة المَطلوب تَبادلها، أي قدرتها التّناسليّة وأعضاءها الجنسيّة" ثمَّ تقول في صفحة (107): "في عقود البيع يُباعُ الشَّيء بأكمله، ويَفتَرِقُ عن البائع، أمّا في عقدِ الزّواج الدّائم، فإنَّ المرأة تُرافِق موضوع البَيع، لأنَّها تَحمله معها، ولأنَّه جزءٌ أصيلٌ منها.... أمّا في حالةِ الزّواج المؤقَّت، فإنَّ المرأة هي المُؤَجِّر وموضوع الإيجار في آنٍ معاً". وهذا كلامٌ خطيرٌ في هذا العَصر بالذّات، لا لأنّه مُهينٌ ومُذِلٌّ للمرأة المُسلمة فحسب، بل لأنّه كلامٌ غير دقيق وادِّعاءٌ باطِلٌ، وله أبعادٌ نفسيّةٌ تَقلِب طبيعة العلاقة الزّوجيّة رأساً على عَقِب لو صَدَّقَهُ أحدٌ أو آمَنَ به. فهو يَجعَل الزّواج الإسلامي نوعاً من البغاء المُنَظَّم بأحكام الشّريعة، حيث يَستحيل معه أن يَشعر رجلٌ بالاحترام نحوَ زوجته، كما يَستحيلُ على زوجةٍ أن تَحتَرِمَ ذاتها وهي ترى نفسها سِلعة، وترى أعضاءها الجنسيّة تُباعُ أو تُؤَجَّرُ بالمال. إنَّ مِثل هذه النّظرة للزّواج تَقضي على أيّ إمكانيّة للرّومانسيّة في الحياة الزّوجيّة، إذ لا بُدَّ للرّومانسيّة حتّى تُوجَد مِن أن يَنظُرَ المُحب إلى المَحبوب على أنَّه كائنٌ مِثاليٌّ كامِلٌ لا عَيبَ فيه، وعلى أنَّه قَيِّمٌ وغالٍ ونَفيسٌ ولا يَقوم مَقامه أحد... إذ في الحُبِّ عموماً وفي الحُبِّ الرّومانسيِّ خاصّةً يُسَخِّرُ المُحب نفسه لإسعادِ المَحبوب وإرضائه، فكيف يُمكِن للحُبِّ أن يكون بين الزّوجين المُسلمَين لو صَحَّ ما تدَّعيه شهلا حائري. إنّه سوءُ الفَهمِ للإسلامِ وَقَعَت فيه هي، وعلى ما يبدو وَقَعَ فيه بعض المسلمين، وبخاصّة بعض الرِّجال.

 

إنَّ عقدَ الزّواجِ في دينِنا ليس عقدَ شراءٍ وبَيعٍ ولا عقدَ استئجارٍ وتأجيرٍ، بل هو عقدُ التزام، عَقدٌ يَلتَزِمُ فيه الزّوج بالقِيامِ بمسؤوليّاته كزوجٍ وكأبٍ للأولاد الّذين يأتون ثمرة هذا الزّواج، وهو عقدٌ تلتَزِمُ فيه المرأة بأداءِ واجباتها كزوجةٍ مُخلصةٍ مُطيعةٍ، وكأمٍّ صالحة... وإن كان حقّاً أنَّ عَقدَ الزّواج يُعطي الزّوج حقَّ الاستمتاعِ الجنسي بزوجته، فإنَّ عقدَ الزّواجِ نفسه يُعطي الزّوجة حقَّ الاستمتاعِ الجنسي بزوجها. إنَّ عقدَ الزّواجِ عَقدٌ يَستَحِلُّ به الرِّجال فُرُوجَ النِّساء بكلمة الله وليس بأموالهم، كما قال النّبي محمّد ﷺ، وهو عقدٌ تَستَحِلُّ به النِّساء فُرُوجَ أزواجهنَّ كما لَم يُقَلْ صراحة في القرآن أو الحديث لأنَّه مفهومٌ ضمناً ولأنَّ المرأةَ مَفطورةٌ على الحَياءِ الّذي جَعَلَه الله خُلقَ الإسلام. والّذي يُثبِتُ هذه النّظرة للزّواج في دينِنا أنَّ نَبِيَّنا محمّداً ﷺ كانَ أوّلَ مَن صَرَّحَ بكلِّ وضوحٍ بالاعترافِ للزّوجةِ بِحَقِّها في المُتعةِ الجنسيَّة، وَأَمَرَ الزّوج أن لا يَعْجَلَ زوجته إذا قضى وَطَراً، بل يَستَمرُّ معها حتّى تَقضي هي وَطَرَاً أيضاً، والغَربُ المُتَحَضِّرُ لَم يَعتَرِف بحقِّ المرأةِ هذا إلّا في القَرنِ العِشرين. وقُرآننا أَمَرَ الرِّجال أن يَبدَؤوا مُعاشرتهم الجنسيّة لزوجاتهم بالمُلاطفةِ والمُداعبةِ والمُغازَلَةِ والعِناقِ والتَّقبيلِ وكلّ مَظاهِر الحُبِّ والحَنانِ، وهي أُمورٌ مَرغوبةٌ مِنَ المرأةِ بِحدِّ ذاتِها، كما إنَّها ضروريَّةٌ للإثارةِ الجنسيّةِ للمرأة، فقد قال تعالى: ﴿وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: 22] وواضحٌ هُنا الحرص على إشباعِ حاجاتِ المرأةِ العاطفيّةِ والجنسيّة، لأنَّ الزّواج في الإسلامِ يَهدف إلى إشباعِ الاحتياجاتِ النّفسيّةِ وغيرِ النّفسيّةِ للطّرفين، الرّجلُ والمرأةُ على السّواء.

 

وقد يَشْكل على البعض قوله تعالى: ﴿وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النِّساء: 25] إشارة إلى المَهرِ الّذي على الزّوج تَقديمه إلى الزّوجة عند الزّواج، وكلمة أَجور هُنا لا تَعني الأُجور الّتي تُدفَع عند استئجارِ شيءٍ مُقابِلَ التّمَتُّع به، بل هو تَعبيرٌ قُرآنيٌّ يَجِبُ فَهمه بِحَسَبِ الدّلالاتِ اللّغويَّةِ في عَصرِ نزولِ القرآنِ الكريم، كما يَجبُ فهمه في ضَوءِ أحكام الإسلام الأخرى الّتي تُرينا بوضوحٍ أنَّ المَهرَ ليس مُقابلاً ماديَّاً لِخدماتٍ جنسيّةٍ تُقَدِّمها امرأةٌ لِرَجُلٍ، كما هو حال المُومسات، فالمَهرُ قد يَكون آياتٌ مِن القرآن الكريم يُعلِّمها الزّوج لزوجته كما زَوَّجَ النّبي محمّد ﷺ صحابيّةً لِصحابي وكان مَهرُها أن يُعَلِّمها ما معه مِن القُرآن.

 

والّذي يُثبِتُ لَنا أنَّ المَهرَ ليس أجراً على الاستمتاعِ الجنسي أنَّ الّذي يَعقدُ على امرأةٍ ثُمَّ يُطلِّقها قبلَ أن يَمَسَّها جنسيَّاً، ورُبَّما قَبلَ أن يَراها، عليه نِصفُ المَهرِ تَستَحقّه المَرأةُ تَطييباً لِخاطِرها بِمُجَرَّدِ أنَّه عَقَدَ عليها.

 

إنَّ المَهرَ في الإسلامِ هديَّةٌ واجبةٌ على الزّوجِ لِيَشعُرَ هو أوّلاً أنّه لَم يَحصَل على هذه الزّوجة بسهولة، وبالتّالي لِيكون حريصاً عليها ومُقَدِّراً لها، إذ بَيَّنَت الدِّراسات النَّفسيّة المُعاصِرة أنَّ الإنسانَ يَميلُ إلى تَقديرِ ما بَذِلَ الجهد لِيَحصلَ عليه، بينما هو يَميلُ عادةً إلى الاستهانةِ وتَقليلِ قيمةِ ما حَصَلَ عليه بسهولةٍ ودونَ جهدٍ يُذكَر، والمَهرُ يَجعلُ المرأةُ تحسُّ بِقدرها وقيمتها، إذ ترى الرّجل يَتَوَدَّدُ إليها ويَتَكَلَّفُ المالَ الكثيرَ لِيَحظى بالارتباطِ بها ولِيَفوزَ بها كزوجةٍ له. ويؤكد أن المهر ليس أجراً الآية التي تصفه أنه نِحْلَة أي عطية بلا مقابل، قال تعالى: ﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾ [النساء 4]. والمَهرُ حَقٌّ للزَّوجةِ يُمكِنُ للزّواجِ أن يَتِمَّ مِن دونه ومِن دون ذِكره أصلاً.

 

إنَّ المرأةَ في الإسلامِ إنسانٌ بكلِّ معنى الكلمة مُكرَّمة مِن المَولى سُبحانه وتعالى وليست سلعةً تُباعُ أو يُباعُ عضوٌ مِن أعضائها لِمَن يُريدُ المُتعة الجنسيّة، بل الزّواج التزامٌ من الزّوجِ نحو زوجته ومِن الزّوجةِ نحو زوجها، التزامٌ مُؤسَّسٌ على المَودَّةِ والرَّحمةِ الّتي جعلها الله بين النِّساء والرِّجال، وهو التزامٌ يَحفَظُ العَلاقةَ بين المرأةِ والرّجلِ مِن عواصفِ الأيّامِ، فتَصمُد وتَدوم رُغمَ المُشكلات العارضةِ الطّارئةِ، وهو التزامٌ يَحفَظُ حقوقَ الزّوجين كليهما، وإن كانت المرأةُ عادةً بحاجةٍ لهذا الحفظ للحقوقِ أكثر مِن الرّجل.

 

يبقى أن نقولَ إنَّ بعضَ الأزواجِ والزّوجاتِ لديهم نزعة تملُّكيَّة لا علاقةَ لها بالمَهر، بل هي مُشكلةٌ مَوجودةٌ حتّى في الأُسر الأمريكيّة حيث كِلا الزّوجين يُشارِكُ في تأسيسِ الأسرة والإنفاقِ عليها، وحيث لا يَدفَعُ الرِّجالُ مهوراً للنِّساء. إنَّها نزعةٌ نفسيَّةٌ لا علاقةَ لها بالمالِ أبداً. فبعضُ الرِّجالِ يرى زوجته وأطفاله مُلكاً خاصّاً به ويَنسى أنَّ زوجته وأطفاله بَشرٌ مثله لهم شخصيَّاتهم وذَواتهم المُستقلَّة عنه، وأنَّه يَرتَبِطُ بهم بِعلاقةٍ عاطفيّةٍ وقرابةٍ والتزامٍ قانونيٍّ، وهذا الشُّعور بالملكيّةِ للزّوجةِ والأطفالِ مسؤولٌ عن كثيرٍ من حالاتِ الاعتداءِ بالضّربِ والشّتمِ والتّهديدِ مِن الزّوجِ لزوجته، بل بعضهم يَقتلها إن تزوّجَت غيره مِن بعده، وكذلك مسؤولٌ عن كثيرٍ من حالاتِ الإيذاءِ الجنسي من الأب لابنته أو ابنه وكذلك الإيذاءِ الجسدي والعاطفي.

 

إنَّ الحياةَ الزّوجيّةَ مع رجلٍ يرى زوجته مُلكاً له لا يُمكِن أن تكونَ حياةً زوجيّةً سعيدةً وناجحةً، إذ تَفقد فيها الزّوجةُ الإحساس بالأمن والكَرامة، ويَفقد فيها الزّوج أيّ شعورٍ بالحُبِّ نحوها، اللّهمَّ إلّا الشّعور بحُبٍّ يُماثِلُ حبّه لِسيّارته أو بُستانه.

 

ونزعةُ التّملُّك هذه لدى الرّجل تَجعله مُفرِطَ الغيرة على زوجته، يَخنق حريَّتها ولا يُبالي، لأنّه لا يحسُّ بها ولا بِمُعاناتها، وتَجعله كذلك يرى لنفسه كلَّ الحقِّ في أن تتفرّغَ زوجته وتُكرِّسَ حياتها لِخدمته وتَلبية طلباته وتَحقيق أغراضه دون مُراعاة لاحتياجاتها هي.

 

وبالمُقابل يَقَعُ في الشّعورِ بالتَّملُّكِ للزّوجةِ أو الزّوجِ بعض مَن يُريد مِنَ الطّرف الآخر أن يكون له بكامله كما كانت أمُّه له بكُلِّيَّتها يوم كان طفلاً رضيعاً، إنَّها الاعتماديّة الزّائدة الباحثة عَمَّن يُشبعها، وليس هنالك إلّا الزّوج أو الزَّوجة، وهذه المُلكيّة للطّرف الآخر أقلُّ سوءاً من المُلكيَّة الّتي سَبقتها، إذ ليس فيها العدوانيّة والاحتقار الّتي تَنطوي عليه تلك المُلكيّة، لكنَّها في الوقت ذاته مُلكيّةٌ للطّرف الآخر وشعورٌ بالاستحقاقِ لاهتمامه ورعايته دون مُراعاة لاحتياجات هذا الطّرف المَملوك، إذ الإنسان المُعتَمِد الاتّكالي يُشبه الطّفل الّذي يرى الحُبَّ أخذاً ولا يَراهُ عَطاءً كما هو الحال عند الكِبارِ النّاضِجين عندما يُحبُّون، والمُعتَمِد التَّملُّكي شخصٌ غَيُّورٌ، غَيُّورٌ مِن الرِّجالِ على زوجته وغَيُّورةٌ مِن النِّساء على زوجها غيرة مُزعجة وخانقة، ثُمَّ هو غَيُّورٌ أيضاً غيرة لا علاقة لها بالجنس، فهو يَغارُ مِن كلِّ مَن يَأخُذ شيئاً مِن اهتمامِ الطّرف الآخر أو عواطفه أو وقته... لا أحسبها حياةً زوجيَّةً سعيدةً تلك الّتي تكون مع شخصٍ اعتماديٍّ تَمَلُّكيٍّ رجلاً كان أو امرأةً.

 

إذن هنالك نوعان مِن التَّمَلُّك يُمكِن أن يَقَعَ أحدهما بين الأزواج والزّوجات، الأوّل تَملُّك القَوي المُتَسَلِّط للضّعيفِ المُستَعبَد بِلا حقّ، والثّاني تَمَلُّك الضّعيف المُعتَمِد للقَوي الّذي بدلاً مِن أن يَتَزَوَّج يكون قد تبنَّى شخصاً كبيراً في جسمه طفلاً في شخصيَّته.

 

وكِلا النّوعين مِن التَّمَلُّك يَتَنافيان معَ الحُبِّ النّاضِج الّذي يَجِب أن يكون حبَّاً بين اثنين ناضجين يَشعُر كلٌّ منهما بالاستقلاليّة الذّاتيّة، ويَحتَرِمُ كلٌّ منهما استقلاليّةَ الآخر.

 

يبقى هنالك تَمَلُّكٌ وامتلاكٌ مِن طبيعةٍ أُخرى، إنَّه الامتلاك الجنسي، أي الشّعور بنوعٍ مِن امتلاكِ ما هو جميلٌ في شخصٍ مِن خلالِ التّمَتُّعِ الجنسي به، ورغمَ أنَّ هذا النّوع مِن الامتلاكِ قد يبدو لأوّلِ وهلة نوعاً مِنَ التّجريدِ المُبالَغِ فيه، فإنَّ الفَهم العام الشّائع لدى النّاس قد أدركه منذ زمنٍ بَعبدٍ حيث استُخدِمَت كلماتٌ مِن مِثل "أخذها" و"عَرفَها" وما شابه لِتُعَبِّرَ عن تمكُّنِ رجلٍ مِنَ التّمتُّعِ الجنسي بامرأة، لِذا دائماً اعتُبِرَت المرأة خاسرةً في الاتّصالِ الجنسي الّذي لا يُقَدِّم الرّجل شيئاً مُقابله كالمَهرِ والالتزامِ بالمرأةِ كزوجة.

 

المَعرفة امتلاكٌ وهي تَحصل بدرجاتها الأولى مِن خِلال النَّظر، ثُمَّ تترَسّخُ المعرفة باللّمس، أمّا الاتّصال الجنسي فَيُمَثّل للرّجل ذَروةَ الفَوزِ والانتصارِ والامتلاكِ الّذي لا تكون بعده المرأة في عَينِ الرّجل الّذي امتلكها جنسيّاً كما كانت قبلَ أن يَحصَل عليها.

 

أرجو ألّا يُصيب الذّعُر أيَّاً مِن القارئات الكريمات، إذ يَنطَبِق هذا الكلام على الاشتهاءِ الجنسي لِغيرِ الزّوجة، أي على اشتهاءِ الرّجل لامرأةٍ لا حقَّ له فيها، أمّا زوجته فإنَّها تَجذبه إليها بالمودّةِ والحُبِّ، لأنَّ عقدَ الزّواجِ يَتَضَمَّن أن يَستَحِلَّ الرِّجالُ فُرُوجَ النِّساءِ بكلمة الله لا بأموالهم، وكذلك تَستَحِلُّ النِّساءُ فُرُوجَ الرِّجالِ بكلمة الله، أي كلٍّ منهما صار له حقّ الاستمتاع بالآخر ولَم يَبقَ للحصول على الزّوجةِ جنسيّاً أي طَعمٍ بالفَوزِ والتّغلُّبِ والانتصار، إنَّها له وليست بُطولةً أن يَصِلَ إلى جسدها يَطَّلِعُ على كلِّ ما يستر عن غيره منه، أمّا في اشتهاءِ مَن لا حقَّ له فيها وفي حصولِه عليها بالحَرام يكون التّمَتُّع بِنَشوةِ الفَوزِ والامتلاك، لِذا فإنَّ مَشاعِرَ الرّحمة الّتي تكون بين الزّوجين تَجعَل لِقاءهما الجنسي خالياً مِن مَشاعِرِ الاقتناصِ والافتِراسِ الّتي تكون لدى الباحِث عن اللّذة المُحرَّمة.

 

عالِمُ التّحليل النّفسي الكبير (ثيودور رايك) يرى الحُبَّ الّذي يَشعُر به رجلٌ نحوَ امرأةٍ أُعجِبَ بها وسيلةً نفسيّةً راقيةً للحصولِ على ما أَعجبه فيها مِن صفاتٍ جسديّةٍ ونفسيّةٍ، أي الحُب في رأيه مُنبَعِثٌ مِن رغبةٍ لا شُعوريّة بالامتلاك. وبِغَضِّ النّظرِ عن مدى موافقتِنا لهذا العالِم الكبير الّذي استطاع التّحرُّرَ من سِحرِ أُستاذه فرويد، فإنَّ نظريَّته في الحُبِّ فيها انتباهٌ واضحٌ لِرَغبة الامتلاك الّتي يَتَضَمَّنها الاشتهاء الجنسي، أمّا (ألبرتو مورافيا) فقد كَتَبَ روايةً كاملةً رائعةً يُصوِّرُ فيها رجلاً أَعجبَته فتاة فيها مِن قوَّةِ الشّخصيّة ما فيها، كان بعد كلِّ لقاءٍ جنسيٍّ بينهما وبَعدَ أن تُغادِره الفتاة يحسُّ أنَّه لَم يَمتلِكها بعد وأنَّها تتفَلَّت مِن يده، وهكذا تَسيرُ أحداث رواية (السّأم) لِتَروي مُحاولات البطل الشّعور أنَّه امتلكَ تلك المرأة كما اعتادَ أن يَمتَلِكَ غيرها مِن خلال الجنس، لكنَّه يَشعُر أنَّه لَم يَمتلِكها، إلى أن يَخطبها لِيَتزوَّجها لا قَناعة منه بأنَّها المرأة المُناسبة له، إنَّما لِيَشعُر أنَّه امتلكها، لكنَّها لا تَقبَلُ الزّواج به، وفي لحظاتِ يأسٍ وقنوطٍ يقودُ سيّارته بلُبٍّ شاردٍ فيَصطدمُ بشجرةٍ كبيرةٍ، وَيَفيقُ في المُستشفى بعدَ أن كُتِبَت له النّجاة لِيَجِدَ أنَّ مشاعره نحو الفتاة قد تَغيَّرَت وأنَّه لَم يَعُد حريصاً على امتلاكها، ولأوّلِ مرة يَشعُر بالحُبِّ والرّحمةِ نحوَها، وأنَّه يُبارِكُ زواجها بِمَن تُحبّ.. هذه الرِّواية تَشرحُ للقارِئ وتَكشف له عن تلك الرّغبة في الامتلاكِ والانتصارِ الّتي تُحرِّكُ الشّهوة الجنسيّة غير الشّرعيّة، وهذا يَنطبِقُ على أيِّ لِقاءٍ جنسيٍّ بين رجلٍ وامرأةٍ لا حقَّ له فيها، أي ليست زوجته حتّى لو كانت حبيبته، وحتّى لو سَكنا في بيتٍ واحدٍ وأنجبا الأطفالَ طالَما أنَّهما لَم يَتزوَّجا لِتَحلّ له بكلمة الله ويَحِلّ لها بكلمة الله.

 

وبعدَ الحديثِ عن أشكال الامتلاك النّفسي بين الرّجلِ والمرأةِ لا بُدَّ مِن الكلام على الملكيّة الماليّة الّتي شرَّعَ الله لنا أن تكونَ مُنفصلةً بين الزّوجين، وأنَّه لا يَحِلُّ للزّوج أن يأخُذَ مِن مالِ زوجته إلّا ما طابت به نفساً وأعطته إيّاه بِرِضا قلبها، ثمَّ لِنتساءَل عن شعورِ الرّجل الّذي يَستولي على راتب زوجته ويَعتبره حقّاً له، بل منذُ البِداية يَبحَثُ عن زوجةٍ لها حِرفَةٌ ومِهنَةٌ بحيثُ يَستفيد مِن عملِها ويضيفُ دَخلَها إلى دَخلِه يتصرَّفُ به كما يشاء دونَ اعتبارٍ لِرضاها. لا بُدَّ أنَّ مثل هذا الزّوج يُحسُّ أنَّ زوجته ملْكٌ له بمعنىً مِن المعاني، وعندما رَغِبَت سيِّدةٌ فاضلةٌ بِتَركِ عملِها كمُدَرِّسَةٍ بِمُرَتَّبٍ كبيرٍ لِتَتَفرَّغ لأطفالِها عارضَها زوجها وكان ممّا قاله لها: "انتبهي فإنّني تَزَوَّجتُ مُدَرِّسة" أي هو تَزَوَّجَ بقرةً حلوب ولَم يَتَزَوَّج بها لِمُجرَّد أنَّها الزّوجةُ الصّالِحةُ والأمُّ الجيِّدة.

 

وقد دُهِشتُ لِمَا ذَكَرَت لي هذه السَّيِّدة ما قاله زوجها وبخاصّة أنَّني سبقَ لي اللّقاء به ورأيتُ أنَّه رجلٌ ملتزمٌ دينيَّاً ومُثقَّفٌ إسلاميَّاً ويَحملُ شهادةً جامعيّةً في مِهنته ويَعتَبِرُ الدَّعوة إلى الله مِن همومه.

 

إنَّ زوجةً يَستغلّها زوجها بهذا الشّكل لا بُدَّ أن تمتلِئَ نفسها بمشاعر الغَيظِ منه والسّخطِ على حياتها الزّوجيّة إذ ترى نفسها مَغبونةً في حياةٍ زوجيّةٍ تُقَدِّمُ لها أكثر بكثيرٍ مما تأخُذ منها، والشّعورُ بالغُبنِ في الحياةِ الزّوجيّةِ يُدَمِّرُ السّعادةَ فيها ويَحرِمُ الزّوجين كليهما مِن التّمتُّعِ بما جعلَ الله الحياة الزّوجيّة مِن أجله، السَّكَنُ النّفسيُّ والاطمئنانُ اللّذين تَرعاهما المودّة والرّحمة.

حقوق النشر © 2017 جميع الحقوق محفوظة