آجال مكتوبة
آجال مكتوبة
يشكل الموت مصدر قلق نفسي شديد للإنسان فهو يقض مضجع النفس البشرية، ويهزها هزاً، إذ ليس هنالك عاقل على وجه الأرض يشك في أنه سيموت يوماً ما. هذا على المستوى العقلي، لكن على مستوى المشاعر، فإن الإنسان عادة يتغافل عن هذه الحقيقة ويتناساها، فيعيش وكأنه لن يموت، فهو في حالة إنكار نفسي لحقيقة أنه سيموت، وكأن الموت حق، ولكن حالته هو حالة خاصة لا تشملها هذه القاعدة.
والإنكار النفسي، أو الغفلة، أسلوب من أساليب النفس البشرية، للتخلص من القلق الذي تسببه مواجهة بعض الحقائق التي لا يمكنها تغييرها، ولا تستطيع لها دفعا. إنه دفن للرؤوس في الرمال، إن لم يفلح في التخلص من الأعداء، فإنه يفلح في إبعادهم عن الحواس والوعي، ريثما يقع القضاء.
ولحكمة عظيمة، أخفى الله عن كل نفس أجلها، إذ لو علم كل إنسان أجله، لقصر أمله، وداخله اليأس، فالإنسان السوي مهما بلغ من العمر، يبقى لديه أمل في أن يعيش أكثر، وتراه يخطط ويبذل الجهد من أجل المستقبل. قال النبي محمد ﷺ: "لا يَزَالُ قلبُ الكبيرِ شابًّا في اثنتينِ : في حُبِّ الدنيا ، وطُولِ الأَمَلِ" (البخاري: 6057)، وقال أيضاً : "يَكْبَرُ ابنُ آدَمَ ويَكْبَرُ معهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ، وطُولُ العُمُرِ" (البخاري: 6058)، ولو علم كل منا أجله، لتقاعس أكثرنا عن فعل الخير، ولاتبع أكثر الناس أهواءهم، مؤجلين التوبة إلى السنة الأخيرة من حياتهم، أو حتى إلى الشهر الأخير.
ومن جهة أخرى، فإن غير المؤمن، يظن أن الإنسان يموت بحسب المصادفات، ومع ظنه أن العافية البدنية تضمن استمرار الحياة، فإنه يبقى في رعب وقلق، إذ قد يكون مصاباً بداء خفي يقربه من الموت كل يوم خطوات، وقد يموت في حادثة غير متوقعة، فلا العافية ولا الشباب يضمنان البقاء، إذ ما أكثر ما يموت الشباب، بل وحتى الأطفال! وبهذا يحيا غير المؤمن في قلق دائم من الموت، طالما أنه لم يؤمن أنها آجال محددة من الخالق. وقد عبر الشاعر العربي الجاهلي عن اعتقاده أن الموت أمر عشوائي يصيب سيئ الحظ، فقال:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تُمِتْهُ ومن تخطئ يعمر فيهرم
لكن المؤمن يعرف أن الأمر ليس كذلك، إنما هي آجال يكتبها الله عندما يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه، ويضمن الله القدير أن يعيش كل منا إلى أن يبلغ أجله. قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34]، وقال: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42].
إذاً هو أجل قد سماه الله.، إذ حدد لكل منا عمراً يعيشه، ولن تستطيع قوة في الكون أن تميت إنساناً إلا إذا جاء أجله. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا..﴾ [آل عمران: 145].
ومن أجل ذلك، وكل الله بكل إنسان ملائكة تحفظه من الموت، حتى يحين أجله. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الرعد: 11]، وقال: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)﴾ [الطارق: 1 - 4].
إن لمعرفة هذا كله أثره البالغ في بث السكينة والطمأنينة في النفس المؤمنة... وهي خير من الإنكار النفسي والتغافل. فشتان ما بين الطمأنينة التي تأتي من الغفلة، والطمأنينة التي تأتي من إدراك أن كل شيء في هذا الكون بقدر من الله القاهر فوق عباده، المسيطر على كل شيء في الوجود.
فالإنكار والتغافل لا يصمدان أمام الأحداث اليومية التي تذكرنا بالموت، وبخاصة إذا ما وقع الموت قريباَ منا: في صديق، أو قريب. عندها تكون المواجهة مع الحقيقة، ولا يريحنا من القلق الناتج عنها إلا الإيمان الصحيح.
Comments
There are no comments yet
Your Comment