خلق الإسلام الحياء
خلق الإسلام الحياء
قال النبي محمد ﷺ: "إنَّ لِكُلِّ دينٍ خُلُقًا، وإنَّ خُلُقَ الإسلامِ الحياءُ" (رواه ابن ماجه ومالك).
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وخلق فيه من الآليات النفسية والمشاعر والدوافع ما يعينه على أن يكون خليفة في الأرض صالحاً تقياً، بحيث لا يشعر أن تقوى الله، واجتناب حرامه تعاكس فطرته، بل الإيمان وما يتبعه من عمل صالح هو الفطرة التي تنسجم النفس فيها مع ذاتها، فلا تتناقض، ولا تتصارع. ومن المشاعر التي تعين المؤمن على العمل الصالح: الحياء.
والحياء الذي يدعو إليه الإسلام، يختلف عن الخجل وهيبة الناس، الذي يعيق الإنسان عن العمل الصالح، إن كان هذا الإنسان يعيش بين أناس لا يحبون هذا العمل الصالح، ففي المجتمع المنحرف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، تصبح العفة رذيلة، فيخجل الإنسان الضعيف، وتمنعه خشية الناس من أن يكون حيياً، عفيفاً، متطهراً، فيكون الخجل مانعاً من الحياء، وهذا يرينا كيف أنهما مختلفان.
فالحياء في حقيقته، خوف على صورة الإنسان، ونظرته إلى نفسه، من أن تتشوه في عينيه هو، أو عند الخالق تعالى.
إن الإنسان الذي يحس بكرامته، ويحس بحضور خالقه، ويحترم الناس، ولا يتكبر عليهم، هذا الإنسان يصبح حريصاً على ألا يفعل ما يجعله دون المستوى الراقي الذي يريده لنفسه، ويصبح حريصاً على ألا يرى نفسه واقعة فيما يحط من قدرها وكرامتها، ويجعلها دون المثال الذي يسعى إليه، ويصبح حريصاً ألا يراه الله حيث نهاه، وألا يراه الناس واقعاً فيما يراه هو رذيلة أو نقيصة، إنه يكرم نفسه، فينأى بها عما يشوه صورتها لديه، أو لدى الناس، أو عند الله. إنه يحرص على صورته لدى الناس لكن وفق المعايير التي يؤمن هو بها لا التي يحاول الناس فرضها عليه، وهو يحرص ألا يكون متناقضاً مع نفسه يدعو إلى خلق ويقع فيما يخالفه، هو ليس خاضعاً لأعراف مفروضة عليه تخالف معتقداته، بل هو صاحب القول الذي يحدد ما الذي يريده لنفسه والذي يليق به من سلوك، فتجتمع فيه الحرية والانضباط الذاتي في آن واحد.
لذا ترى الحيي إذا واجهه موقف فيه تهديد لقدر نفسه، وفيه خطر الوقوف في موقف يتنافى مع كرامة نفسه، ومع الصورة المثالية التي يسعى أن تكون نفسه على منوالها، إذا وجد نفسه في موقف كهذا احمر وجهه، وانتابه من الأحاسيس ما ينتاب القلق من سرعة في ضربات القلب، وارتعاش وتعرق وغير ذلك، وإذا ما وقع فيما يراه رذيلة، نظر إلى نفسه بازدراء، وإذا اطلع الناس على خطيئته، أحس أنه فقد احترامهم وتقديرهم، وأنه لا قدر له، ولا قيمة... إنه وقع في خطيئة، هو مؤمن أنه على الإنسان الكريم ألا يقع فيها. لذا تراه هو الحاكم على نفسه، بأنه بخطيئته صار أقل قدراً وأقل كرامة.
إن ما يجعله يحس بالخزي، ليس الخوف من الناس، إنما هو وقوعه فيما يعيب صورته، ويشوهها عند نفسه.
إن الحياء يشكل حاسة حارسة للقيم ومكارم الأخلاق، التي يؤمن بها الإنسان، والمؤمن هو أشد الناس إيماناً بمكارم الأخلاق، والمؤمن يؤمن بالقيم التي يدعو إليها إيماناً حقيقياً. لذا كان الحياء خلق الإسلام، ونسبه النبي محمد ﷺ إلى الله تعالى عندما قال: "إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كريمٌ يستحيي إذا رفع الرجلُ إليه يدَيه أن يردَّهما صِفرًا خائبتَينِ" (رواه الترمذي).
وقال ﷺ: "الْحَياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ..." (رواه مسلم).
وقال أيضاً: "الحَياءُ لا يَأْتي إلَّا بخَيْرٍ..." (متفق عليه).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ علَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، وهو يَعِظُ أخَاهُ في الحَيَاءِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: دَعْهُ فإنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ." (متفق عليه).
وكان رسول الله ﷺ قدوة لنا في حيائه، قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "كانَ النبيُّ ﷺ أشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شيئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ في وجْهِهِ." (متفق عليه).
ولما كان الحياء هو الناهي النفسي عن مخالفة الأخلاق والقيم، كان من أهم ما يميز الشخصية السيكوباثية الفاسدة: غياب الحياء، لأنه لا يؤمن بالقيم ومكارم الأخلاق ولا يرى أن عليه مراعاتها، بل يرى متعته ومصلحته الشخصية فوق كل اعتبار وفي سبيلها يستبيح أي شيء، كما إنه ليس لديه أي احترام أو تقدير للناس، لذا لا يأخذ نظرتهم إليه بالحسبان لأنهم بالنسبة إليه ليسوا إلا أدوات لتحقيق رغباته وشهواته.
إنه لا يتورع عن أية رذيلة في سبيل إشباع شهواته، وقد صدق رسول الله ﷺ عندما قال عن هؤلاء الأشخاص المتمردين: "إنَّ ممَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إذا لَمْ تَسْتَحْيِ فاصْنَعْ ما شِئْتَ." (رواه البخاري).
وخلاصة القول: إن الحياء يولد من اجتماع احترامين: احترام الإنسان لذاته واحترامه للآخرين، فإن غاب أي من هذين الاحترامين غاب الحياء، والحياء جوهر الحياة الخلقية، التي تميز الإنسان عن الحيوان، فإن غاب الحياء من إنسان، صار وحشاً في إهاب البشر.
والذي لا يستحي، يجب الحذر من القرب منه، والتعامل معه، لأنه دون الحياء لن يتورع عن أي فعل إلا خوفاً من أن تناله العقوبة الفورية المؤكدة، فإن أمن هذه العقوبة، أو تصور أنه سينجو منها، فإنه لن يمنعه شيء من الانسياق وراء هواه، ولو كان ذلك على حساب الآخرين.
Comments
There are no comments yet
Your Comment