اختبار القابلية للهداية
اختبار القابلية للهداية
في مسيرة حاشدة، حشر سليمان -عليه السلام- جنوده من الإنس والجن والطير وذلك في انضباط رائع.
وتفقد سليمان -عليه السلام- جنوده، وتفقد الطير فلم يجد الهدهد، فقال بحزم القائد العسكريّ الذي لا يسمح بفوضى أو تسيّب بين جنوده: ﴿...مَا لِىَ لَآ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابًۭا شَدِيدًا أَوْ لَأَا۟ذْبَحَنَّهُۥٓ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَـٰنٍۢ مُّبِينٍۢ (21)﴾
وعاد الهدهد من غيبته... ما كان الهدهد ليتغيب عن مسيرة الجند استخفافاً بأوامر سليمان -عليه السلام- إنما كان في عملية استطلاعية رائعة.
عاد الهدهد ومكث غير بعيد من سليمان -عليه السلام-، وقال له: ﴿...أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِۦ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍۭ بِنَبَإٍۢ يَقِينٍ (22) إِنِّى وَجَدتُّ ٱمْرَأَةًۭ تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍۢ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌۭ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَعْمَـٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا۟ لِلَّهِ ٱلَّذِى يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) ٱللَّهُ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ (26)﴾
استمع سليمان عليه السلام لما قاله الهدهد، لكنّه كان حذراً يضع كل الاحتمالات في باله فلم يأخذ حكاية الهدهد شيئاً مسلماً بصحّته، فلربّما كانت كذبةً أراد الهدهد أن يتخلص بها من عقوبة يستحقّها على تغيّبه عن مسيرة الجند السّليماني، فأعطى سليمان -عليه السلام- الهدهد كتاباً يحمله إلى ملكة سبأٍ وينتظر ردّ فعلهم على الكتاب. قال سليمان – عليه – السلام للهدهد: ﴿...سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ (27) ٱذْهَب بِّكِتَـٰبِى هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)﴾
وألقى الهدهد كتاب سليمان -عليه السلام- إلى ملكة سبأٍ، فأخبرت به قومها.. قالت: ﴿...يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَؤُا۟ إِنِّىٓ أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـٰبٌۭ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُۥ مِن سُلَيْمَـٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا۟ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ (31)﴾
وقالت تطلب مشورتهم: ﴿...يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَؤُا۟ أَفْتُونِى فِىٓ أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (32)﴾
قالوا: ﴿...نَحْنُ أُو۟لُوا۟ قُوَّةٍۢ وَأُو۟لُوا۟ بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ وَٱلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾
لقد ذكّروها بقوتهم العسكريّة، لكنها لم تحبّذ هذا الرّد على سليمان -عليه السلام- فقالت للملأ من قومها: ﴿...إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا۟ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوٓا۟ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةًۭ ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍۢ فَنَاظِرَةٌۢ بِمَ يَرْجِعُ ٱلْمُرْسَلُونَ (35)﴾
كانت تريد اختبار صدق سليمان -عليه السلام- في دعوته لها ولقومها، هل كانت دعوته نابعةً من رغبة في توسيع ملكه وكسب المال، إذاً فليكن له المال والهدايا وعندها يتناسى أمر الدعوة.
لكنّ سليمان -عليه السلام- كان يريد إسلامهم لا أموالهم. فلما جاء وفدهم إلى سليمان قال -عليه السلام-: ﴿...أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍۢ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيْرٌۭ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ٱرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍۢ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةًۭ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ (37)﴾
وبعد أن ردّ سليمان -عليه السلام- هدية الملكة علم أنّها ستقدم إليه من بلادها، فأراد أن يختبرها، وأن يريها تفوّقه عليها في قدراته وقدرات جنده وبلاده، مما سيكون أدعى إلى إسلامها، إذ الرغبة في الانتماء هي من أهم العوامل النفسية الكامنة وراء الإيمان.
وأراد سليمان -عليه السلام- اختبار قابليتها للهداية، ومعرفة إلى أي حدٍّ تتحكم بها الكبرياء، أم هي متحررة منها، وهل هي تقر بالحقّ إن كان الحقّ يحرمها من الظهور والعلوِّ، ولو كان إنكارها له سهلاً يصعب على الآخرين اكتشافه.
أمر سليمان -عليه السلام- جنده بإحضار عرشها العظيم إلى قصره دون أن تعلم بالطبع فقد خرجت من بلادها متجهة إلى القدس حيث سليمان عليه السلام، فأحضره له جنديٌّ ذو علم من الكتاب في طرفة عين.
قال سليمان -عليه السلام-: ﴿...نَكِّرُوا۟ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِىٓ أَمْ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)﴾
ما كان سليمان -عليه السلام- وهو الحكيم يريد اختبار ذاكرتها... وأيُّ ملك يرى في عرشه وتاجه أغلى ما يملك سيشكل عليه معرفة عرشه أو تاجه إذا ما عرض عليه؟ لقد أراد سليمان -عليه السلام- أن يرى مدى خضوعها للحقِّ، ومدى صدقها، مع أن صدقها يخفض من مكانتها كملكة، إذ هي تقرُّ أن لدى سليمان في إحدى زوايا قصره عرشاً مثل عرشها، فما يكون ملكها وغناها إزاء ملكه وغناه؟!
كان هيناً عليها أن تنكر أنّ العرش الذي يعرض عليها مثل عرشها، وكانت تستطيع الادِّعاء أنّ عرشها أعظم من ذلك بكثير، إذ أنّى لسليمان -عليه السلام- أن يعرف أنها تكذب ما دام عرشها على بعد آلاف الأميال، ولم يره من رجاله أحدٌ؟
لكن الملكة العاقلة ما كانت لتنساق وراء كبرياء زائفةٍ بحيث تبطر الحقّ وتغمط الناس، بل لما جاءت وقيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت على الفور: ﴿...كَأَنَّهُۥ هُوَ ۚ...﴾ جواب فوريٌّ دون تردُّدٍ، لم تقف كبرياء زائفةٌ عائقاً أمامه.. إنها إذاً امرأة عاقلة قابلة للهداية.
وبعد هذا الاختبار النفسيِّ الذي يمكن وصفه أنه اختبار شخصية بمصطلحات علم النفس المعاصر، بعد هذا الاختبار قيل لها: ﴿...ٱدْخُلِى ٱلصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةًۭ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ...﴾ حتى لا يتبلل ثوبها بالماء. فقال سليمان -عليه السلام-: ﴿...إِنَّهُۥ صَرْحٌۭ مُّمَرَّدٌۭ مِّن قَوَارِيرَ ۗ...﴾ أي أن ما رأته ماء لم يكن إلاّ انعكاس الضوء في الزجاج الذي بني منه الصّرح.
ما كان سليمان -عليه السلام- يريد التعالي عليها، إنما كان يريد تحطيم الحواجز النفسية التي تقف عائقاً أمام إيمانها، وقد أصاب سليمان -عليه السلام- إذ قالت ملكة سبأٍ على الفور: ﴿...رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ (44)﴾
إذن ليست القضية قناعة عقلية لا يستطيع الإنسان مخالفتها بل هو قرار حرٌّ اتخذته بلقيس عندما رأت تفوّق سليمان عليه السلام وأمته فرغبت في الانضمام إليهم فأسلمت مع سليمان والرغبة في هذه المعية كانت العامل المرجح لدواعي الإيمان في نفسها.
وهكذا نرى حكمة سليمان -عليه السلام- الذي عرف أهمية التفوق العلمي والتقني والعمراني لجذب الشعوب الأخرى إلى دين الله، كما كان انتصار المسلمين داعياً لدخول الناس في دين الله أفواجاً لا نفاقاً.
قال تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجًۭا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابًۢا (3)﴾ [سورة النصر].
Comments
There are no comments yet
Your Comment