من الآثار النفسية للحج -2-
من الآثار النفسية للحج -2-
إنّ للحج من الآثار النفسية الرائعة في نفس المؤمن ما يبرر ما ينفقه فيه من مال كثير، وما يبذله في أدائه من جهد كبير. ولعل في المشقة والنفقة الكبيرة التي يتطلبها الحج حكمة، إذ إن عدم تيسّر الحج لكل من شاء متى شاء، بالإضافة إلى كونه الركن الخامس من أركان الإسلام، كل ذلك يجعل أداء الحج إنجازاً هاماً في حياة المؤمن.
والإنجاز مطلب نفسي هام في حياة الإنسان، إذ عندما يتساءل إنسان عن معنى حياته، فإن أول مرتبة في مراتب المعنى في الحياة أن تكون حياة مليئة بالإنجازات، لأن ما يحققه الإنسان من إنجازات يجعل حياته ذات معنى، لا حياة ضائعة فارغة، فالإنجاز في الحياة يحمي النفس الإنسانية من القلق العميق؛ الذي يمكن أن يثيره فيها الظن أن الحياة كانت بلا معنى، والشعور باللامعنى في حياة الإنسان يسلبه السعادة، وقد يدفعه إلى البحث عن معنى زائفٍ في مجرد اللهو والمتعة، أو في غير ذلك من إنجازات قد لا تكون بريئة، بل قد تكون فاسدة مدمرة.
فلئن كان للإنجازات البشرية الدنيوية الأثر الكبير في إضفاء المعنى على الوجود الإنساني، وفي ملء النفس البشرية بالطمأنينة والسكينة والرضاء، وهي تستعرض إنجازاتها فيما مضى من عمرها، فإنّ الحج يحقق للمؤمن سكينة أعظم؛ إذ هو إنجاز باقٍ، ثوابه الجنة والمغفرة، وارتفاع المنزلة.
ومن ناحية أخرى فإن المؤمن الذي يحقق إنجازاً كبيراً في حياته كالحج يحسّ بالرضا عن نفسه، فيحبها أكثر، على عكس ما يحس به من سخطٍ عليها وكراهيةٍ لها إن وقعت في معصية كبيرة، تجعله يحس بالخزي أمام نفسه، وأمام الناس ويستحي من الله، ويندم على ما فعل.
وإن هذا الرضا عن النفس يزيدها عافية وتوازناً ويحميها من الأمراض النفسية وعيوب الشخصية، بينما السخط عليها وكراهيتها أو ازدراؤها يوقعها في الاكتئاب والقلق، وربما الإدمان وغيرها من العيوب النفسية والسلوكية.
والحج كإنجاز في حياة المؤمن وما يرافقه ويتلوه من الرضا لدى المؤمن عن نفسه، يجعله ينظر إلى نفسه نظرة تقدير واحترام، فيراها نفساً صالحةً، وتكون في نظره جديرة بالتقدير والتوقير لصلاحها وتقواها، وهذا يُحسًن لدى المؤمن ما يسميه علماء النفس 'قدر الذات Self- Esteem'.
وقدر الذات أو احترام الذات يترافق مع التوازن والاستقرار النفسي ويقلل من القلق لديه، فالإنسان عموماً يزداد قلقه كلما نظر إلى نفسه فوجدها بعيدة عن الصورة المثالية التي يتمناها لها.
والحج وكل عمل صالح يجعل واقع النفس المؤمنة أقرب إلى الصورة المثالية التي يحلم المؤمن في الوصول إليها، وبذلك يقلل العمل الصالح عموماً -والحج خاصةً- من القلق عند المؤمن؛ إذ يملأ نفسه بالرضا عن نفسه، والتوقير والاحترام لها.
وللحج أثر كبير في ترسيخ التقوى في النفس المؤمنة، فالحج التزام Commitment والمؤمن الذي يحج ويتكلف المشقة والمال والوقت يقطع على نفسه خط الرجعة، الذي ربما كان يحتفظ به قبل الحج، حيث كان يحتفظ بمساحة يعطي نفسه فيها بعض أهوائها المحرمة، فتراه ملتزماً بدينه، إنما قد يتراجع بين الحين والآخر استجابة لشهوة، أو لضغط اجتماعي يقع عليه، لكن عندما يحج فإنه يكون قد قرر أنه سيلتزم بدينه التزاماً جيداً، وأنه سيتقي الله ما استطاع، والحج يأتي بمثابة تجسيد لهذا الالتزام، فيكون بمثابة ميثاق وعهد يقطعه المؤمن على نفسه أنه لن يعصي الله بعده.
ومما يزيد دافعية المؤمن للتقوى والالتزام الكامل بعد الحج أن الحج يبيّض صفحة المؤمن فالذي يحج فلا يرفث، ولا يفسق يعود كما ولدته أمه نقياً من ذنوبه، وبياض الصفحة يدعو المؤمن إلى الحفاظ عليها بيضاء نقية، أما امتلاؤها بالمعاصي فيشجع على المزيد من المعاصي؛ لأن من يلبس ثوباً متّسخاً لن يجد مانعاً من الجلوس على أرض وسخة، أو من أن يمسح بقايا طعام أكله بثوبه، فثوبه متّسخ، ولا يبدو له في إضافة المزيد من الأوساخ مشكلة، أما صاحب الثوب الأبيض النقي فإنه يحرص على بياضه ونقائه من أن يتلوّث بشيء، فتراه يتجنب كل ما يمكن أن يدنّس هذا الثوب أو أن يلطخه، وكذلك المؤمن العائد من حجه بالمغفرة الشاملة تزداد الدافعية النفسية لديه للحفاظ على صحيفته بيضاء تزينها الطاعات وتغيب منها المعاصي والخطايا.
وإنّ من طبيعة الإنسان أن نجاحه يقوده إلى المزيد من النجاح، إذ يشجّعه نجاحه الأول على المزيد، وقد لمس حلاوة النجاح، كما يكسبه نجاحه الأول ثقة بإمكاناته وقدرته على المزيد من النجاح، فتزداد همّته للسعي إلى نجاحات أخرى.
ونجاح المؤمن في أداء هذه الطاعة الكبيرة المتمثلة في فريضة الحج، يشجعه على المزيد من الطاعات، ويهوّن عليه الطاعة، إذ قد تمرّس فيها، وجرّبها في أشد أشكالها وضوحاً، وتجسيداً.
Comments
Your Comment