قلق الموت
قلق الموت
عندما يختار الإنسان سبيل الشاكرين، فيكون أول شكره إيمانه بالله تعالى، إيماناً لا يلابسه شرك، ويكون ثاني شكره إيمانه باليوم الآخر، وثالث شكره أن يعمل صالحا، فإنه لن يضل ولن يشقى، وكيف يضل وأنوار الإيمان تنير سبيله، وتضيء قلبه؟ وكيف يشقى وعنده هداية الخالق العظيم؟
والذي يتوقعه العقل، أن هذا العبد الشاكر، لن يخشى الموت، ولن يكون الموت مصدراً للقلق النفسي لديه، وهذا صحيح، وإن كانت الفطرة تجعله يكره الموت، لأنه حببت إليه الحياة، لكنه قد تكون لديه أحياناً بعض الأسباب التي تجعله يخشى الموت، ويحس بالقلق بسببه.
فالبعض قد يتصور أن الموت نفسه عملية مؤلمة إلى أبعد الحدود.، لذا فهو يخشى ألم الموت، ويصاب بالقلق خشية مواجهة معاناة يرى أنها تفوق التصور والاحتمال.
لكن هذا الظن يجب تصحيحه، فمع أن "لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ"، كما كان يردد النبي محمد ﷺ قبيل وفاته (كما روى البخاري)، فإن الموت سيكون بداية العذاب للكافرين المعاندين لهداية رب العالمين، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)﴾ [الأنفال: 50 - 51].
لكن هنالك صورة مقابلة لهذه الصورة، وعلى النقيض منها، صورة وفاة المؤمنين المتقين... قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]. إن هذه الآية الكريمة، مطمئنة إلى أبعد الحدود لكل مؤمن تقي، أن وفاته ستكون طيبة يشملها السلام والبشرى بجنة الخلد، والنعيم المقيم.
ثم إن البشر جميعهم، مؤمنهم وكافرهم يخشون الموت، لأنه يخرجهم مما هم فيه من نعم ومتاع وزينة، ويفرقهم عن المال، والبنين، والجاه، وغير ذلك مما يحبون.
أما المؤمن التقي، فيعلم أن جنة عرضها السموات والأرض بانتظاره، وأنه له فيها أزواج مطهرة، ومتع لم تخطر على بال، ينالها بعد الموت جزاء وفضلاً، ورحمة من الله تعالى.
فالمؤمن التقي، يجب ألا يخشى فراق ما يحب في الدنيا، لأنه صائر إلى ما هو خير منه، كما أن الله سيلحق به من صلح من آبائه، وذريته، وأزواجه: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾ [الرعد :23].. فلن يكون الموت سبباً للخسارة، بل هو الربح الكبير، والفوز بالكثير جزاء على عمله القليل.
وقد يخشى مؤمن الموت أن ينزل به في أية لحظة، لأنه لا يرى نفسه جاهزاً للقدوم على ربه، فذنوبه كثيرة، وهو يخشى الله، ويخشى أن يعذبه بها.
ولا علاج لهذا القلق لدى المؤمن إلا بتجديد التوبة، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإلا باجتناب الكبائر، والاطمئنان إلى أن الصلوات الخمس، وغيرها من الصالحات، تمحو ما يقع المؤمن فيه من الصغائر واللمم. قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء: 31]. وهذا ليس من قبيل أمن مكر الله، إنما هو ما بشرتنا به آيات القرآن الكريم، أما الذي يتبع نفسه هواها على أمل أن يتوب قبل أن يموت، فإنه قد وقع في أمن مكر الله، ونسي أن الله قد يباغته بالموت قبل أن يتوب، وأن الله إذا غضب من العبد من كثرة كبائره، قد يحول بينه وبين قلبه، فلا يميل قلبه إلى التوبة، ويموت دون أن يتوب، فيكون مستحقاً للعذاب الشديد.
ويبقى لدى المؤمن سبب آخر لخشية الموت، فالذي له أطفال صغار قد يخشى الموت لأنه يخاف على صغاره مرارة اليتم والفاقة.
وهذا المؤمن، مدعو أولاً إلى أن يدخر ما يمكنه ادخاره من دخله، فلا يبسط يده كل البسط إن كان في رزقه سعة، أما إن كان ممن قدر عليهم رزقهم فقل دخلهم، فيبقى له التوكل على الله، والدعاء لأولاده، والتقوى والصلاح، ثم لينم بعدها مطمئناً على أولاده، فإن الله لن يضيعهم.
أما كلف الله الخضر -عليه السلام- ليقيم جداراً في قرية للئام، وذلك حفظاً وحماية لكنز ادخره الله تحت ذلك الجدار ليتيمين في المدينة؟! وما ذلك إلا لأن أباهما كان صالحاً. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82].
وقال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9].. إنه تأمين للأطفال لا يضاهيه التأمين عند أكبر شركات التأمين، وإن أقساطه التقوى والقول السديد، أما حمايته لأطفالنا فمضمونة لأننا قد أمنا لهم عند رب العالمين.. وهل يضيع من تكفّل رب العالمين برعايته وكفايته وحمايته؟