لا قلق مع الاستغفار والتوبة
لا قلق مع الاستغفار والتّوبة
قال تعالى عن المتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)﴾ [آل عمران: 136 - 135].
وقد بينت الدراسات النفسية الحديثة: أن الشعور بالذنب سبب هام من أسباب القلق والاكتئاب النفسيين. فالذي يشعر بالذنب لأنه أساء إلى إنسان ما دون حق، ويشعر أنه قد ظلمه، واعتدى عليه، وأن ذلك يسخط الله منه، هذا المذنب معرض لمشاعر القلق النفسي والاكتئاب.
والقلق يأتي في هذه الحالة من نواح مختلفة، لعل أهمها أننا نحس في أعماقنا أنه "كما تدين تدان"، وأن الله قد يعاقبنا على إساءاتنا إلى غيرنا، وينتقم لهم منا، وبذلك يكون المسيء إلى غيره مهدداً بانتقام الله منه، فيصبح قلقاً لا يدري هل سيكون انتقام الله في نفسه، أم في ماله، أم في عياله.
أما الذي يذنب في حق الله، ويرتكب المعاصي، فيكون في أعماقه خوف من أن يأتيه الموت قبل أن يتوب إلى الله.
وقد يموت لأحدنا عزيز، فيشعر أنه قصر في حقه، ويظن أنه لو أعان في علاجه لما مات، فيعتبر نفسه مذنباً، ومسؤولاً بشكل من الأشكال عن موت هذا العزيز... ويخشى العقوبة من الله، فتمتلئ نفسه بالقلق.
وقد ينتج الشعور بالذنب عن فعل قام به لا يعرف هل هو حرام أم حلال، وتشتبه الأمور عليه، إلى غير ذلك من أسباب الشعور بالذنب.
والشعور بالذنب، ولوم النفس المرافق له مظهران لقدرة النفس البشرية على إدراك أخطائها، ومحاسبة ذاتها، وهذا جعله الله فيها ليكون لها حافزاً على التوبة، وإصلاح ما أفسدت، وتعويض الآخرين عن إساءتها إليهم.
ولوم النفس يدل على الخير في هذه النفس التي تعترف بخطيئتها، وتحاسب ذاتها، أما النفس الظالمة المكابرة المتبعة لهواها، فقلما تلوم نفسها، إنما هي دائماً تتعامى عن أخطائها وعيوبها، بل تضع اللوم على الآخرين، وتحملهم مسؤولية ما أصابها وأصابهم على يدها.
فعندما عصى آدم ربه علمه كيف يستغفر فاستغفر فتاب الله عليه، قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 37].
وعندما قتل موسى رجلاً قتلاً غير متعمد قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص: 16].
لكن عندما عصى إبليس ربه اتهم الله أنه أغواه، ورفض أن يرى خطيئته، وأنكر مسؤوليته عما فعل، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)﴾ [الحجر: 39 - 40].
وقال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾ [الأعراف: 16 - 17].
ولأن النفس اللوامة تصدر عن موقف إيماني لا يبطر الحق، ولا يغمط الناس، ولا يستعلي على رب العالمين، موقف من طبعه الإقرار بالحق لا الكذب على النفس وعلى الغير.، لأن النفس اللوامة تصدر عن مثل هذا الموقف، فقد أظهر المولى تقديره لها عندما أقسم بها فقال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)﴾ [القيامة: 1 - 2].
لكن لوم النفس إذا كان شديداً لا يتناسب مع الموقف الذي أدى إليه، أو إذا رافقه نوع من اليأس من مغفرة الله، تحول إلى مرض نفسي يشل الإنسان، ويثبطه، ويصبغ حياته بالكآبة والحزن.
وهذا ما لا يريده الله لنا على الرغم من أنه أقسم بالنفس اللوامة تقديراً لها، لذا جعل الله التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفتح باب المغفرة والتوبة للعبد حتى يغرغر عند وفاته.
قال النبي محمد ﷺ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً" (حسن صحيح رواه الترمذي).
وقال ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ" (رواه مسلم).
أما رب العالمين فيقول: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
وكلنا يعلم أن من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع بلا خطايا، كيوم ولدته أمه، وأن من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه.
أبواب كثيرة مفتوحة للمؤمن كي يتطهر من ذنوبه، وتغمر أنوار الإيمان قلبه، تبث فيه السكينة، والطمأنينة.