مصادر سكينة الإيمان
تاريخ النشر: 10/08/2024
1. لا تخش الإخفاق
إن من أسباب القلق في حياة الإنسان عموماً الخوف من الإخفاق. هذا النوع من القلق النفسي يعرفه الطالب الذي يخشى الامتحان خوفاً من الرسوب فيه، ويعرفه كل من يقدم على مشروع أو تجارة أو أي عمل يحرص حرصاً شديداً على إنجازه بنجاح ويخاف الإخفاق فيه. وحتى لا يقع المؤمن في مثل هذا القلق، علّمنا رسولنا محمد ﷺ أن نأخذ بأسباب النجاح ما استطعنا، فنخطط لما نريد القيام به ونبذل الجهد ونثابر، ولا نعجز فنستسلم للأحلام دون أن نعد للأمر عدته، ودون أن نسعى في سبيل ما نريد السعي اللازم، فقد سمى النبي محمد ﷺ هذه الحالة من عدم السعي، ومن الاكتفاء بالتمني "عجزاً"، ويقابلها: "الكَيْس"، حيث السعي والأخذ بالأسباب بفطنة المؤمن، واجتهاده، وإتقانه.
عن عوف بن مالك ان النبي ﷺ قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله ﷺ ردوا علي الرجل فقال ما قلت قال قلت حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله ﷺ "إنَّ اللَّهَ يلومُ على العَجزِ، ولَكِن عليكَ بالكَيسِ، فإذا غلبَكَ أمرٌ فقُل: حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ" (أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما)
فمهما استعد الطالب لامتحانه، فإنه لا يضمن ألا يصاب بمرض مفاجئ يمنعه من حضور الامتحان، والأداء فيه كما يجب. ومهما احتاط التاجر، فإنه لا يضمن ألا تقع كارثة طبيعية، أو تنشب حرب غير متوقعة.... إذاً دائماً هنالك ما يدعو إلى الخوف من الإخفاق، ولا علاج لذلك إلا بالتوكل على الله.
وقال ﷺ: "لو أنكم تتوكلونَ على اللهِ حقَّ توكلِهِ لرزقكم كما يرزقُ الطيرُ تغدو خِمَاصًا وتروحُ بِطَانًا" (رواه الترمذي).
وقال ﷺ: "كانَ آخِرَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ" ( رواه البخاري).
وقد يأتي القلق، نتيجة لضعف الثقة بالنفس، من حيث القدرة على القيام بعمل، أو مهمة أوكلت إلى الإنسان. فقد عالج النبي محمد ﷺ حالة قلق نفسي، أصابت أحد أصحابه حين خشي الإخفاق في مهمة تطوع للقيام بها، وتكفل للنبي محمد ﷺ بتنفيذها. ورد في سيرة ابن هشام أنه: بعد غزوة بدر، ذهب كعب بن الأشرف وهو من شعراء اليهود إلى مكة، يحرض المشركين على قتال المسلمين، ثم عاد إلى المدينة، فشبب بنساء المسلمين، حتى آذاهم، فقد قال شعراً لا يليق عن نساء المسلمين فكان في ذلك إهانة لهن ولرجالهن، ولهذا حكم رسول الله ﷺ بوصفه الحاكم والقاضي وبوصف كعب من رعاياه، وقد ارتكب خيانة عظمى لدولة المدينة المنورة، حكم عليه بالقتل فقال ﷺ لأصحابه: "من لي بابن الأشرف؟" أي: من يقتله؟. فقال له محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول الله! أنا أقتله. قال: "فافعل إن قدرت على ذلك". فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب، إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فدعاه، فقال له: "لم تركت الطعام والشراب؟". فقال: "يا رسول الله! قلت قولاً لا أدري هل أفي لك به أم لا؟". فقال النبي محمد ﷺ: "إنما عليك الجهد".
لقد علمنا النبي محمد ﷺ أن الجهد يجب أن يقدر، وألا يقتصر تقديرنا على النجاح والإنجاز، كما هي الحال في الحضارة الغربية المعاصرة، حيث لا يقدر ولا يكافئ إلا الناجحون والمتفوقون.
إن هذه النظرة الإيمانية إلى الأمور، تريح النفس البشرية من القلق الناتج عن خشية الإخفاق، إذ لا لوم على المرء طالما أنه بذل ما بوسعه بإخلاص، بل هو مأجور على جهده الذي بذله.
قال ﷺ: "إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ" (أخرجه البخاري).
2. آجال مكتوبة
يشكل الموت مصدر قلق نفسي شديد للإنسان فهو يقض مضجع النفس البشرية، ويهزها هزاً، إذ ليس هنالك عاقل على وجه الأرض يشك في أنه سيموت يوماً ما. هذا على المستوى العقلي، لكن على مستوى المشاعر، فإن الإنسان عادة يتغافل عن هذه الحقيقة ويتناساها، فيعيش وكأنه لن يموت، فهو في حالة إنكار نفسي لحقيقة أنه سيموت، وكأن الموت حق، ولكن حالته هو حالة خاصة لا تشملها هذه القاعدة.
والإنكار النفسي، أو الغفلة، أسلوب من أساليب النفس البشرية، للتخلص من القلق الذي تسببه مواجهة بعض الحقائق التي لا يمكنها تغييرها، ولا تستطيع لها دفعا. إنه دفن للرؤوس في الرمال، إن لم يفلح في التخلص من الأعداء، فإنه يفلح في إبعادهم عن الحواس والوعي، ريثما يقع القضاء.
ولحكمة عظيمة، أخفى الله عن كل نفس أجلها، إذ لو علم كل إنسان أجله، لقصر أمله، وداخله اليأس، فالإنسان السوي مهما بلغ من العمر، يبقى لديه أمل في أن يعيش أكثر، وتراه يخطط ويبذل الجهد من أجل المستقبل. قال النبي محمد ﷺ: "لا يَزَالُ قلبُ الكبيرِ شابًّا في اثنتينِ : في حُبِّ الدنيا ، وطُولِ الأَمَلِ" (البخاري: 6057)، وقال أيضاً : "يَكْبَرُ ابنُ آدَمَ ويَكْبَرُ معهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ، وطُولُ العُمُرِ" (البخاري: 6058)، ولو علم كل منا أجله، لتقاعس أكثرنا عن فعل الخير، ولاتبع أكثر الناس أهواءهم، مؤجلين التوبة إلى السنة الأخيرة من حياتهم، أو حتى إلى الشهر الأخير.
ومن جهة أخرى، فإن غير المؤمن، يظن أن الإنسان يموت بحسب المصادفات، ومع ظنه أن العافية البدنية تضمن استمرار الحياة، فإنه يبقى في رعب وقلق، إذ قد يكون مصاباً بداء خفي يقربه من الموت كل يوم خطوات، وقد يموت في حادثة غير متوقعة، فلا العافية ولا الشباب يضمنان البقاء، إذ ما أكثر ما يموت الشباب، بل وحتى الأطفال! وبهذا يحيا غير المؤمن في قلق دائم من الموت، طالما أنه لم يؤمن أنها آجال محددة من الخالق. وقد عبر الشاعر العربي الجاهلي عن اعتقاده أن الموت أمر عشوائي يصيب سيئ الحظ، فقال:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تُمِتْهُ ومن تخطئ يعمر فيهرم
لكن المؤمن يعرف أن الأمر ليس كذلك، إنما هي آجال يكتبها الله عندما يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه، ويضمن الله القدير أن يعيش كل منا إلى أن يبلغ أجله. قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34]، وقال: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42].
إذاً هو أجل قد سماه الله.، إذ حدد لكل منا عمراً يعيشه، ولن تستطيع قوة في الكون أن تميت إنساناً إلا إذا جاء أجله. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا..﴾ [آل عمران: 145].
ومن أجل ذلك، وكل الله بكل إنسان ملائكة تحفظه من الموت، حتى يحين أجله. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الرعد: 11]، وقال: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)﴾ [الطارق: 1 - 4].
إن لمعرفة هذا كله أثره البالغ في بث السكينة والطمأنينة في النفس المؤمنة... وهي خير من الإنكار النفسي والتغافل. فشتان ما بين الطمأنينة التي تأتي من الغفلة، والطمأنينة التي تأتي من إدراك أن كل شيء في هذا الكون بقدر من الله القاهر فوق عباده، المسيطر على كل شيء في الوجود.
فالإنكار والتغافل لا يصمدان أمام الأحداث اليومية التي تذكرنا بالموت، وبخاصة إذا ما وقع الموت قريباَ منا: في صديق، أو قريب. عندها تكون المواجهة مع الحقيقة، ولا يريحنا من القلق الناتج عنها إلا الإيمان الصحيح.
3. نعمة الوجود
في عصرنا هذا، وبعيداً عن هداية الله، بحث الفلاسفة والأدباء الوجوديون في أسباب القلق النفسي الإنساني، فوصلوا إلى أن القلق والمعاناة النفسية أمران ملازمان للوجود الإنساني، مجرد الوجود في هذه الحياة، إذ طالما أن الإنسان وُجِد، فلا بد له من مواجهة القلق والمعاناة.
ولكن مع الإيمان وهداية رب العالمين، يصبح الوجود، مجرد الوجود، نعمة ما بعدها نعمة، فالذي يسر الله له سبيل الهداية، وأعانه على التقوى، وبشره النبي محمد ﷺ أن جنة الخلد في انتظاره، حيث الخلد، وحيث السلام النفسي، والمتع بأنواعها كافة، حيث أعد الله للمؤمنين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر... المؤمن الذي عرف هذا، لم يكن ليسره، لو أن الله لم يخرجه إلى هذا الوجود، مع أن هذا الوجود، وفي المرحلة الدنيوية فيه الكبد والكدح والمشقة، وفيه الابتلاء والامتحان، وفيه خطورة الوقوع فيما يؤدي إلى العذاب في نار جهنم. لكن المؤمن الذي استعان بالله على الهداية، والثبات على الحق، ويتوقع أن يدخله الله الجنة وهو مطمئن إلى أن الله لن يظلم أحداً، هذا المؤمن، يصبح وجوده نعمة كبيرة، تهون أمامها أية صورة من صور الحرمان التي تزعج الآخرين، فالحرمان مؤقت، وهنالك الجائزة العظيمة.
فما أعظم فرحة المؤمن أن أتاح الله له دخول هذا الامتحان، وأعانه على الهداية، ووعده أن يهديه سبله ما دام يجاهد في الله، كي تكون الجنة محطته الأخيرة، ودار مقامته السرمدية.
وهذا الوجود الذي رآه الوجوديون المتشائمون ملازماً للقلق والمعاناة، هذا الوجود تحرص عليه النفس حرصاً ما بعده حرص، لذا كان أهم أسباب القلق الإنساني: خوفه على هذا الوجود، ورعبه من العدم.
ومن دون الإيمان بالله واليوم الآخر، يصبح الموت في نظر الإنسان عودة إلى العدم المرعب، ويعيش هذا الإنسان في خوف دائم من الموت.
ولربما أدت به نظرته إلى الموت على أنه نهاية الوجود، إلى الحرص على استغلال كل لحظة من حياته في المتع الحسية، ولا يهم عندها أن تكون المتع من حلال أو حرام، فيقع في الخمر، والمخدرات، والعلاقات المحرمة، ولا يتورع عن السرقة، أو غير ذلك من جرائم، من أجل الحصول على المتعة.، ليملأ بها حياته القصيرة التي يرى العدم نهاية لها.
لكن المؤمن يتمتع بالوجود نفسه.، لأنه يعلم أن الإنسان خُلِق ليبقى، وأن الله قد ضمن له الخلود، ويعلم أن الموت ليس عودة إلى العدم واللا وجود، بل الموت حالة من حالات الوجود، بينه وبين النوم شبه كبير.
وقد سأل الصحابة رسول الله ﷺ: "يا رسولَ اللَّهِ أينامُ أهلُ الجنَّةِ؟ قال: لا النَّومُ أخو الموتِ وأهلُ الجنَّةِ لا يموتونَ ولا ينامونَ" (رواه البزار والطبراني والبيهقي بإسناد صحيح عن جابر كما قال العجلوني رحمه الله).
وكان ﷺ إذا استيقظ من نومه يقول: "الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيانا بَعْدَ ما أماتَنا وإلَيْهِ النُّشُورُ" (البخاري).
ويتشابه الموت والنوم في أمر هام، وهو انعدام الشعور بالزمن... فالنائم إذا قام من نومه لا يمكنه أن يعرف كم أمضى من الوقت نائماً، إلا أن ينظر إلى الساعة، أو أن يبحث في الطبيعة حوله عما يعينه على ذلك، كأن يرى الشمس قد أشرقت، أو غير ذلك من الدلائل التي يستنتج منها في أي وقت هو.
وهكذا الحال مع الموت. فمهما طالت السنون منذ موت الإنسان، وإلى أن يبعث يوم القيامة، فإنه لا يشعر بمرورها إلا كما يحس النائم إذا أفاق. يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)﴾ [طه: 102 - 104]، ويقول أيضاً: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)﴾ [الروم: 55 - 56]
ويوم القيامة يجسد الله الموت كبشاً يذبح أمام الجميع، فإذا مات الموت نفسه، بقي الخلود المضمون من الله تعالى.
والمؤمن الذي يعلم أنه حتى موته ومهما طال الزمن بينه وبين القيامة، لن يكون إلا مثل ليلة يمضيها في نوم عميق، ثم بعدها حياة لا يغيب فيها عن الوجود، ولا حتى بالنوم، هذا المؤمن ترتاح نفسه من الرعب من العدم، وتطمئن إلى استمرار نعمة الوجود، ولها أن تتمتع بالسكينة والراحة التي تثمرها هذه المعرفة لحقيقة الخلود الإنساني الذي أراده الله، ولها أن تتمتع بالوجود ذاته، وتحمد الله عليه، ثم تجتهد فيه لتحقق درجة عالية في جنة الخلد.
4. قلق الموت
عندما يختار الإنسان سبيل الشاكرين، فيكون أول شكره إيمانه بالله تعالى، إيماناً لا يلابسه شرك، ويكون ثاني شكره إيمانه باليوم الآخر، وثالث شكره أن يعمل صالحا، فإنه لن يضل ولن يشقى، وكيف يضل وأنوار الإيمان تنير سبيله، وتضيء قلبه؟ وكيف يشقى وعنده هداية الخالق العظيم؟
والذي يتوقعه العقل، أن هذا العبد الشاكر، لن يخشى الموت، ولن يكون الموت مصدراً للقلق النفسي لديه، وهذا صحيح، وإن كانت الفطرة تجعله يكره الموت، لأنه حببت إليه الحياة، لكنه قد تكون لديه أحياناً بعض الأسباب التي تجعله يخشى الموت، ويحس بالقلق بسببه.
فالبعض قد يتصور أن الموت نفسه عملية مؤلمة إلى أبعد الحدود.، لذا فهو يخشى ألم الموت، ويصاب بالقلق خشية مواجهة معاناة يرى أنها تفوق التصور والاحتمال.
لكن هذا الظن يجب تصحيحه، فمع أن "لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ"، كما كان يردد النبي محمد ﷺ قبيل وفاته (كما روى البخاري)، فإن الموت سيكون بداية العذاب للكافرين المعاندين لهداية رب العالمين، قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)﴾ [الأنفال: 50 - 51].
لكن هنالك صورة مقابلة لهذه الصورة، وعلى النقيض منها، صورة وفاة المؤمنين المتقين... قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32]. إن هذه الآية الكريمة، مطمئنة إلى أبعد الحدود لكل مؤمن تقي، أن وفاته ستكون طيبة يشملها السلام والبشرى بجنة الخلد، والنعيم المقيم.
ثم إن البشر جميعهم، مؤمنهم وكافرهم يخشون الموت، لأنه يخرجهم مما هم فيه من نعم ومتاع وزينة، ويفرقهم عن المال، والبنين، والجاه، وغير ذلك مما يحبون.
أما المؤمن التقي، فيعلم أن جنة عرضها السموات والأرض بانتظاره، وأنه له فيها أزواج مطهرة، ومتع لم تخطر على بال، ينالها بعد الموت جزاء وفضلاً، ورحمة من الله تعالى.
فالمؤمن التقي، يجب ألا يخشى فراق ما يحب في الدنيا، لأنه صائر إلى ما هو خير منه، كما أن الله سيلحق به من صلح من آبائه، وذريته، وأزواجه: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ﴾ [الرعد :23].. فلن يكون الموت سبباً للخسارة، بل هو الربح الكبير، والفوز بالكثير جزاء على عمله القليل.
وقد يخشى مؤمن الموت أن ينزل به في أية لحظة، لأنه لا يرى نفسه جاهزاً للقدوم على ربه، فذنوبه كثيرة، وهو يخشى الله، ويخشى أن يعذبه بها.
ولا علاج لهذا القلق لدى المؤمن إلا بتجديد التوبة، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإلا باجتناب الكبائر، والاطمئنان إلى أن الصلوات الخمس، وغيرها من الصالحات، تمحو ما يقع المؤمن فيه من الصغائر واللمم. قال تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾ [النساء: 31]. وهذا ليس من قبيل أمن مكر الله، إنما هو ما بشرتنا به آيات القرآن الكريم، أما الذي يتبع نفسه هواها على أمل أن يتوب قبل أن يموت، فإنه قد وقع في أمن مكر الله، ونسي أن الله قد يباغته بالموت قبل أن يتوب، وأن الله إذا غضب من العبد من كثرة كبائره، قد يحول بينه وبين قلبه، فلا يميل قلبه إلى التوبة، ويموت دون أن يتوب، فيكون مستحقاً للعذاب الشديد.
ويبقى لدى المؤمن سبب آخر لخشية الموت، فالذي له أطفال صغار قد يخشى الموت لأنه يخاف على صغاره مرارة اليتم والفاقة.
وهذا المؤمن، مدعو أولاً إلى أن يدخر ما يمكنه ادخاره من دخله، فلا يبسط يده كل البسط إن كان في رزقه سعة، أما إن كان ممن قدر عليهم رزقهم فقل دخلهم، فيبقى له التوكل على الله، والدعاء لأولاده، والتقوى والصلاح، ثم لينم بعدها مطمئناً على أولاده، فإن الله لن يضيعهم.
أما كلف الله الخضر -عليه السلام- ليقيم جداراً في قرية للئام، وذلك حفظاً وحماية لكنز ادخره الله تحت ذلك الجدار ليتيمين في المدينة؟! وما ذلك إلا لأن أباهما كان صالحاً. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82].
وقال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9].. إنه تأمين للأطفال لا يضاهيه التأمين عند أكبر شركات التأمين، وإن أقساطه التقوى والقول السديد، أما حمايته لأطفالنا فمضمونة لأننا قد أمنا لهم عند رب العالمين.. وهل يضيع من تكفّل رب العالمين برعايته وكفايته وحمايته؟
5. فلنحيينه حياة طيبة
إن النفس الخالية من الإيمان وأنواره، نفس مظلمة، يعشش فيها الخوف والقلق والاضطراب، ومن دون الإيمان بالله، والتوكل عليه، تغدو النفس البشرية، ألعوبة بيد الشيطان، يبث فيها الحزن والقلق، كي تستجيب لدعائه لها إلى الفحشاء، والمنكر.
أما النفس المؤمنة المتوكلة، فإنها عصية على الشيطان، حصينة في وجه وساوسه، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)﴾ [النحل: 98 - 100].
والخوف من الفقر، سبب هام للقلق النفسي، فالإنسان يخشى الفقر، لأن الفقر يحرمه من كثير من الأشياء التي يحبها، ولأن الفقر إذا اشتد قد يحرمه من الأساسيات.
ثم إن الإنسان يخشى الفقر، لأنه حتى لو لم يحرمه من الأساسيات، فإنه ينزله من المكانة الاجتماعية التي يحتلها إلى مكانة دونها، فاحترام الناس وتقديرهم له، قد ينقص إن رأوا فقره، واحتياجه.
وقد وجد علماء النفس، أن الأمن والرزق هما أهم حاجتين إنسانيتين، والإنسان عادة لا يفكر بغيرهما من الحاجات، كالحاجة إلى الحب، والتقدير، وتحقيق الذات، إلا بعد أن يحصل على الحد الأدنى من الأمن والرزق.
ولقد من رب العالمين على قريش بما أعطاهم من الرزق والأمن، قال تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)﴾ [سورة قريش].
والنبي محمد ﷺ بين أن العافية مع الأمن والرزق، ثلاثة أشياء هي الأساسيات للإنسان، قال ﷺ: "مَن أصبحَ مِنكُم آمِنًا في سِرْبِه، مُعافًى في جسَدِهِ، عندَهُ قُوتُ يَومِه، فَكأنَّمَا حِيزَتْ له الدُّنْيا" (رواه الترمذي، وابن ماجه).
ولقد طمأن رب العالمين المؤمنين على أرزاقهم حتى لا يفقدهم الخوف من الفقر سكينة نفوسهم المطمئنة، فأكد لهم أن الرزق كالأجل يكتبه الله والإنسان جنين في بطن أمه، فالرزق بيده تعالى يحدده بنفسه، ولا يمكن لأحد أن يحرم أحداً رزقاً قد كتبه الله له... قال تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)﴾ [الذاريات: 22 - 23].
وقد ربط المولى بين المغفرة والفضل والرزق. قال تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].
ولارتباط المغفرة بالفضل، كان الاستغفار مدعاة للفرج، والمخرج من الهم والضيق، وجالباً لرزق الله يأتي من حيث لم يحتسب المؤمن. قال النبي محمد ﷺ: "مَن لزمَ الاستغفارَ جَعلَ اللهُ له من كلِّ همٍّ فرجًا، و من كلِّ ضيقٍ مخرَجًا، و رزَقَه مِن حيثُ لا يحتَسبُ" (رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي).
وللتقوى جائزة مماثلة... قال تعالى: ﴿... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾ [الطلاق: 2 - 3].
وكما تستدعي التقوى الرزق والفضل، فإن الذنوب قد تستدعي الحرمان من الرزق.. قال ﷺ: "لا يزيدُ في العمُرِ إلَّا البرُّ ولا يردُّ القدَرَ إلَّا الدُّعاءُ وإنَّ الرَّجلَ لَيُحرَمُ الرِّزقَ بالذَّنبِ يصيبُهُ" (ابن ماجه).
فالعمل الصالح مع الإيمان، خير ضمان لحياة طيبة، بكل ما تعنيه الطيبة في الحياة من معنى... إنها الحياة الطيبة في الدنيا، ثم الجزاء والمكافأة في الآخرة... قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].
ووعد الله الذين يداومون على تلاوة القرآن الكريم ويقيمون الصلاة ولا يتهاونون فيها ويؤدون الزكاة وما استطاعوا من الصدقات، وعدهم أن يزيدهم من فضله فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)﴾ [فاطر: 29-30].
كما وعد الشاكرين له على نعمه أن يزيدهم منها فقال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]
إنه مع نور الإيمان والطاعة، لا يبقى للقلق الناتج عن خشية الفقر مكان في النفس المؤمنة، وقد قال العلماء الذين فقهوا كلام الله تعالى وأقوال رسوله محمد ﷺ، قالوا: "ما افتقر تقي"، إذ كيف يفتقر والرزاق يرزقه من حيث لا يحتسب؟!. وإن كان هذا لا يعني أن كل فقير هو عاصٍ لله لأن التقوى حالة من الطاعة أرقى من الحد الأدنى الذي لا بد للمؤمن منه.
6. مكانة عند الله لا عند الناس
خلق الله الناس متفاوتين في قدراتهم البدنية والذكائية، ومتفاوتين في فضل الله عليهم من مال، أو جاه، أو فرص مواتية للتعلم وتحصيل الشهادات العالية، أو غير ذلك من عوامل مؤثرة في وضع كل منهم وفي دوره في المجتمع.
والله لم يفضل أحداً بزيادة على الآخرين إكراماً له، ولم يضيق على أحد إهانة له، إنما هي حكمته كي تتنوع الأدوار في المجتمع، ويقوم كل منا بخدمة الآخرين من موقعه وفي مجاله، فتتكامل هذه الأدوار، ولا يبقى في المجتمع حاجة يترفع أحد عن القيام بها....
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾ [الزخرف: 31 - 32].
إذاً التفاوت مقصود كي يسخر بعضنا بعضاً، فيخدم كل منا الآخرين، ويؤدي كل منا دوره في المجتمع.
لكن الناس إذا غفلوا عن هداية الله اعتبروا دوراً اجتماعياً أعلى قدراً وأكرم من دور آخر، فنظروا إلى مهن على أنها راقية، وإلى أخرى على أنها قليلة القدر والقيمة، وبالتالي رأوا أن من يؤدي بعض الأدوار أعلى قدراً وكرامة من الآخرين، وأعطوه الحق ليستعلي على الآخرين، فجعلوا للغني قدراً وكرامة أكبر مما للفقير، وجعلوا لصاحب الجاه أو السلطان كرامة أكبر من الآخرين، واعتبروا صاحب المهنة التي تدر المال الوفير أو الجاه العريض أكرم من أصحاب المهن الأخرى.
والحق غير ذلك، فبين الحين والآخر تحدث اضطرابات عمالية في مدن كبرى حديثة، فيضرب العمال في مهنة معينة عن العمل ليذكروا المجتمع أن دورهم هام، وعليه أن ينصفهم في أجورهم، فعندما يضرب عمال النظافة في مدينة كبرى مثل لندن أو باريس، يتذكر الناس قيمة عامل النظافة وقدره، إذ تغرق مدينتهم الجميلة في قاذوراتها.. فتزداد أجور العاملين.
ولكن دون الإيمان يبقى التعالي في النفوس، فيرى الطبيب، أو المهندس، أو المدير نفسه فوق عامل النظافة.
إن هذا الواقع الذي تعيشه أغلب المجتمعات، يجعل الإنسان يسعى دائماً إلى رفع مكانته في المجتمع من خلال مهنته، وثرائه، وسلطته، أو غير ذلك، فترى الذي لم يحصل على ما يعتبر نفسه أهلاً له من المكانة، يسيطر عليه الإحباط، والشعور بالسخط، والتذمر، والحرمان.
أما الذين وصلوا إلى مكانة في المجتمع ترضيهم، فإنهم يعانون من القلق.، لأنهم يخشون أية مصيبة في الصحة، أو المال، أو المنصب، تنزلهم من رتبة إلى رتبة دونها، ولا يطمئن أحد إلى دوام نعمة الله عليه إلا الشاكرون.. قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
إن الإيمان، يريحنا من هذا القلق الناجم عن خشية فقد المكانة في المجتمع، لأنه يقرر أن كرامة الإنسان ومكانته لا علاقة لهما بغناه أو فقره، ولا علاقة لهما بمنصبه، أو مهنته، ولا بنوع سيارته، وفخامة منزله، إنما الأمر كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
فالمؤمن، ومن البداية لا يجعل المكانة في المجتمع غايته وهدفه.، لأن السعي وراء المكانة والإحساس أنه فوق الآخرين، هو نوع من العلو في الأرض الذي قال تعالى عنه: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].
المؤمن لا يدخل السباق على المكانة مع الآخرين.. فالناس في هذه الحياة، يشبهون ركباً في سفر، أما الذين يتنافسون على المكانات فيجعلون سفرهم سباقاً بينهم، فيضيفون تعباً إلى تعبهم، أما المؤمن فإنه لا يدخل هذا السباق أبداً، إنما يسير في طريقه يسابق الزمن، ولا يسابق الناس، إنه يريد مكانة عند الله لا عند الناس.
قال النبي محمد ﷺ: "إنَّ عِبَادِ اللَّهِ مَن لو أَقْسَمَ علَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (البخاري).
وقال أيضاً: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لو أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ، ألا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوّاظٍ مُتَكَبِّرٍ" (البخاري والترمذي).
روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: "مَرَّ رَجُلٌ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: ما رَأْيُكَ في هذا؟ فَقالَ: رَجُلٌ مِن أشْرَافِ النَّاسِ، هذا واللَّهِ حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ، قالَ: فَسَكَتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقالَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما رَأْيُكَ في هذا؟ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هذا رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هذا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْمع لِقَوْلِهِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا".
إذن رجل فقير صالح خير في ميزان الله من ملء الأرض من رجل من أشراف الناس لكنه منافق لا يساوي عند الله شيئاً.
إن المؤمن الذي يسعى إلى المكانة عند الله يكون في راحة من مشقة السباق القائم بين الناس، مع أنه لا يقف في مكانه، بل يتقدم في الحياة والمجتمع. وهو في راحة لأن السعي وراء المكانة عند الله لا يجلب القلق، أو الإحباط إلى النفس، إنما يملؤها سكينة، وطمأنينة، ورضاً.
7. لا إحباط مع الإخلاص
عندما يتعرض الإنسان لما يعوقه، ويصده، ويحول بينه وبين تحقيق أهدافه، أو إشباع الدوافع النفسية، التي فطره الله عليها، فإنه يكون معرضاً للشعور بالإحباط النفسي Frustration، الناجم عن هذه الإعاقة والصد.
وكثير من علماء النفس، يرون الإحباط سبباً هاماً من أسباب اضطراب النفس وقلقها وفقدانها لسكينتها واطمئنانها.
والإنسان الغربي يعاني من الإحباط النفسي بسبب عجزه عن تحقيق ذاته في حضارة تدفع الإنسان فيها إلى السعي إلى العلو، والظهور، والتفوق.
لكن الإسلام أراح المسلم من الإحباط عندما جعله يتعلق بثواب الله، ويسعى في كل صغيرة وكبيرة إلى رضاء الله لا إلى إعجاب الناس به، ولا إلى الظهور بينهم، أو اعتلاء مكانة في المجتمع.
إنما يسعى المؤمن إلى مكانة حميدة عند الله تعالى.. والساعي إلى ثواب الله والمكانة عنده لا يمكن أن يتعرض إلى الإحباط، لأن الوسائل إلى بلوغ تلك المكانة عديدة، ولا تعتمد دائماً على الصحة، أو المال، أو غير ذلك.
فالمؤمن الذي يصلي، إن مرض صلى قاعداً، وإن عجز عن القعود صلى على جنبه.
والمؤمن الغني يؤدي الشكر لله لترتفع مكانته عنده، أما المؤمن الفقير، فإنه يبلغ المكانة ذاتها بصبره، ورضاه عن الله.
وقد جعل الله كل عمل نعمله من شؤون دنيانا عبادة شريطة أن نحرص فيه على الحلال ونتجنب الحرام فيصبح المباح سبباً لنيل الأجر لما تضمنه من الحرص على الحلال واجتناب الحرام، وشريطة أن تخلص نوايانا من أية رغبة في العلو في الأرض، أو الفساد فيها. قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص: 83].
فالذي لا يريد العلو في الأرض، ولا الفساد فيها، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر تصفو نيته، وتخلص لله في كل شيء، ويكون عمله الذي به يكسب رزقه عبادة، وسعيه من أجل الرزق الحلال عبادة، والمال الذي ينفقه على زوجته وأطفاله صدقة عظيمة الأجر.
ولنتأمل ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- إذ قال: قال رسول الله ﷺ: "دِينارٌ أنْفَقْتَهُ في سَبيلِ اللهِ ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، ودِينارٌ تَصَدَّقْتَ به علَى مِسْكِينٍ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ، أعْظَمُها أجْرًا الذي أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ" (رواه مسلم).
إذاً الرجل المؤمن المخلص لله، الذي يعمل، وينفق على زوجته وأطفاله، أجره أعظم ممن يتصدق، أو يعتق الرقاب، أو حتى ينفق في سبيل الله، وذلك ما بقي إنفاقه على عياله فيما أحل الله، ودون إسراف، أو تبذير، أو تباه وتفاخر.
وقد سألت أم سلمة -رضي الله عنها- رسول الله ﷺ عن نفقتها على أولادها الذين مات أبوهم، وليست بتاركتهم على أية حال، هل لها فيها أجر؟ فقال لها رسول الله ﷺ: "نَعَمْ، لَكِ أجْرُ ما أنْفَقْتِ عليهم" (متفق عليه).
وقال ﷺ: "وإنَّك لنْ تُنفِقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ اللهِ إلَّا أُجِرْتَ به حتَّى ما تجعَلُ في فِي امرأتِك" ( متفق عليه). ("في فِي امرأتِك" أي: في فمها)
وقال أيضاً: "إِذَا أنْفَقَ الرَّجُلُ علَى أهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهو له صَدَقَةٌ" (صحيح البخاري).
وبالإخلاص أيضاً: يصير عمل المرأة في بيتها، وتربيتها لأطفالها، عبادة كالجهاد في سبيل الله.. وحتى الشهوة إن أتاها المؤمن بالحلال مجتنباً الحرام، كان له فيها أجر تقواه التي تجلت خلال إتيانه لها، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنَّ ناسًا من أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا للنبيِّ ﷺ: "يا رسولَ اللهِ! ذهب أهلُ الدُّثورِ بالأجورِ، يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصومُ، ويتصدقون بفضولِ أموالِهِم، قال: أَوَلَيْس قد جعل اللهُ لكم ما تَصَدَّقُون؟ إن بكلِّ تسبيحةٍ صدقةً، وبكلِّ تكبيرةٍ صدقةً، وبكلِّ تهليلةٍ صدقةً، وبكلِّ تحميدةٍ صدقةً، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن منكرٍ صدقةٌ، وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ! قالوا: يا رسولَ اللهِ! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له [فيها] أجرٌ" (رواه مسلم).
وحتى الأكل والشرب، يكون للمؤمن فيهما أجر، ويرفعان مكانته عند الله. قال النبي محمد ﷺ: "إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا" (رواه مسلم).
وحتى إن كف الإنسان شره عن الناس يكون له بذلك أجر، قال أبو ذر -رضي الله عنه- "قُلتُ: "يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ قالَ: الإيمانُ باللَّهِ والْجِهادُ في سَبيلِهِ قالَ: قُلتُ: أيُّ الرِّقابِ أفْضَلُ؟ قالَ: أنْفَسُها عِنْدَ أهْلِها وأَكْثَرُها ثَمَنًا قالَ: قُلتُ: فإنْ لَمْ أفْعَلْ؟ قالَ: تُعِينُ صانِعًا، أوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ ضَعُفْتُ عن بَعْضِ العَمَلِ؟ قالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ" (رواه مسلم). ("تُعِينُ صانِعًا، أوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ" أي: تعين آخر في عمله وإن كان لا يحسن العمل تقوم أنت بالعمل بدلاً منه)
وحتى العاهات الشديدة كالعمى، والشلل، لا تحبط المؤمن، ولا تعوقه عن بلوغ مكانة عند الله تعالى. قال النبي محمد ﷺ عمن يبتليه الله بحبيبتيه، أي: بعينيه فيصيبه بالعمى: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قال إذا ابتليتُ عبدي بحبيبَتيهِ ثم صبرَ عوَّضتُه بها الجنَّةَ" (رواه البخاري).
وهذا لمن صبر، أما من سخط، فله السخط والغضب من الله فوق مصيبته.
فالمكانة عند الله مستقلة عن القوة البدنية، أو الغنى، أو الجاه، وأي فقر أو حرمان من الصحة، أو المال، أو غير ذلك، لن يمنع المؤمن من بلوغ المنزلة الكريمة عند رب العالمين؟!
قال النبي محمد ﷺ: "إنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ مَن لو أَقْسَمَ علَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (رواه البخاري).
وقال أيضاً: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لو أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ، ألا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عتلٍّ جَوّاظٍ مُتَكَبِّرٍ" (رواه البخاري).
ومما ورد عنه ﷺ قوله: "رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمرَينِ، مُصفَحٌ عن أبوابِ النَّاسِ، لو أقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ".
8. لا قلق مع التوحيد الخالص
إن للقلق الإنساني أسباباً متنوعة، ومن هذه الأسباب، اعتقاد المرء أن أحداً من الناس يملك له نفعاً أو ضراً.
فإنك إن ظننت أن إنساناً ما بيده أن ينفعك، أو أن يضرك، بغض النظر عن إرادة الله، فإنك عندها تصبح فريسة القلق النفسي، لأن ابن آدم متقلب بطبعه، وأنت لا تعرف متى ينقم عليك فيحرمك النفع الذي يأتيك عن طريقه، أو يوقع بك الضر الذي تخشاه.
لكن الإسلام بعقيدة التوحيد الخالص، يعلمنا أن الله هو النافع، وأن الله هو الضار، وأن الناس لن ينفعونا إلا بشيء قد كتبه الله لنا، ولن يضرونا إلا بشيء قد كتبه الله علينا.
وهذا اعتقاد أساس لصحة عقيدة المسلم، إذ الظن أن أحداً من الناس يملك لنا نفعاً أو ضراً هو نوع من الشرك الخفي، الذي يفقد النفس أمنها، واطمئنانها، وسكينتها:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
وقال أيضاً: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كنت خلف النبي محمد ﷺ يوماً فقال: يا غُلامُ، إنِّي أعَلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يَحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستعِنْ بالله، واعلَمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعَت على أن ينفَعوك بشَيءٍ، لم ينفَعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتَبَه الله لك، ولو اجتَمَعوا على أن يضُرُّوك بشَيءٍ، لم يضُرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ، وجَفَّت الصُّحُف" (الترمذي وقال: حسن صحيح).
لذا فإن تعرض المؤمن لتهديد من الناس، فإنه يأخذ حذره، ويعد عدته لحماية نفسه، وهو في الوقت نفسه متوكل على الله الذي قال في كتابه الكريم: ﴿...وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].
وعندما وصلت الأنباء إلى المسلمين بعد مصيبتهم في أحد، أن المشركين قد جمعوا لهم، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾ [آل عمران: 173 - 174].
أما الخير فيطلبه المؤمن من الله وليس من العباد، فما هم إلا وسائل يقدر الله الخير من خلالها:
قال تعالى: ﴿...فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17].
وقال أيضاً: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 26].
ثم إننا لو حللنا القلق النفسي إلى المشاعر المكونة له، لوجدناه يتضمن الخوف من أن يأتي المستقبل بما لا يسر مع الإحساس بالعجز، وانعدام الحيلة تجاه ذلك.
فلو خاف الإنسان من وقوع أمر لا يحبه، لكنه أحس بالثقة أنه يستطيع أن يفعل شيئا ليمنع وقوعه، وليتلافاه، فإنه لن يشعر بالقلق، ذلك أن الإحساس بالعجز تجاه الخطر المتوقع، والإحساس أنه ليس باليد حيلة، هو السبب الرئيس وراء القلق.
لكن المؤمن يجب ألا يشعر بالعجز أبداً، فهو بعد أن يبذل وسعه وما يقدر عليه، ويتوكل على الله، يبقى لديه الدعاء، والدعاء ليس وسيلة الضعيف العاجز، بل هو سبب من الأسباب يجب أن نبدأ به، وأن نضيفه إلى كل جهد نبذله.
ومع التوكل والدعاء، يجب على المؤمن أيضاً ألا يحرص على شيء بعينه حرصاً شديداً، فيتصور عدم الحصول عليه خسارة ما بعدها خسارة، فلعل فيه الشر له وهو لا يعلم.
قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
9. لا قلق مع الاستغفار والتوبة
قال تعالى عن المتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)﴾ [آل عمران: 136 - 135].
وقد بينت الدراسات النفسية الحديثة: أن الشعور بالذنب سبب هام من أسباب القلق والاكتئاب النفسيين. فالذي يشعر بالذنب لأنه أساء إلى إنسان ما دون حق، ويشعر أنه قد ظلمه، واعتدى عليه، وأن ذلك يسخط الله منه، هذا المذنب معرض لمشاعر القلق النفسي والاكتئاب.
والقلق يأتي في هذه الحالة من نواح مختلفة، لعل أهمها أننا نحس في أعماقنا أنه "كما تدين تدان"، وأن الله قد يعاقبنا على إساءاتنا إلى غيرنا، وينتقم لهم منا، وبذلك يكون المسيء إلى غيره مهدداً بانتقام الله منه، فيصبح قلقاً لا يدري هل سيكون انتقام الله في نفسه، أم في ماله، أم في عياله.
أما الذي يذنب في حق الله، ويرتكب المعاصي، فيكون في أعماقه خوف من أن يأتيه الموت قبل أن يتوب إلى الله.
وقد يموت لأحدنا عزيز، فيشعر أنه قصر في حقه، ويظن أنه لو أعان في علاجه لما مات، فيعتبر نفسه مذنباً، ومسؤولاً بشكل من الأشكال عن موت هذا العزيز... ويخشى العقوبة من الله، فتمتلئ نفسه بالقلق.
وقد ينتج الشعور بالذنب عن فعل قام به لا يعرف هل هو حرام أم حلال، وتشتبه الأمور عليه، إلى غير ذلك من أسباب الشعور بالذنب.
والشعور بالذنب، ولوم النفس المرافق له مظهران لقدرة النفس البشرية على إدراك أخطائها، ومحاسبة ذاتها، وهذا جعله الله فيها ليكون لها حافزاً على التوبة، وإصلاح ما أفسدت، وتعويض الآخرين عن إساءتها إليهم.
ولوم النفس يدل على الخير في هذه النفس التي تعترف بخطيئتها، وتحاسب ذاتها، أما النفس الظالمة المكابرة المتبعة لهواها، فقلما تلوم نفسها، إنما هي دائماً تتعامى عن أخطائها وعيوبها، بل تضع اللوم على الآخرين، وتحملهم مسؤولية ما أصابها وأصابهم على يدها.
فعندما عصى آدم ربه علمه كيف يستغفر فاستغفر فتاب الله عليه، قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 37].
وعندما قتل موسى رجلاً قتلاً غير متعمد قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص: 16].
لكن عندما عصى إبليس ربه اتهم الله أنه أغواه، ورفض أن يرى خطيئته، وأنكر مسؤوليته عما فعل، فقال: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)﴾ [الحجر: 39 - 40].
وقال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾ [الأعراف: 16 - 17].
ولأن النفس اللوامة تصدر عن موقف إيماني لا يبطر الحق، ولا يغمط الناس، ولا يستعلي على رب العالمين، موقف من طبعه الإقرار بالحق لا الكذب على النفس وعلى الغير.، لأن النفس اللوامة تصدر عن مثل هذا الموقف، فقد أظهر المولى تقديره لها عندما أقسم بها فقال: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)﴾ [القيامة: 1 - 2].
لكن لوم النفس إذا كان شديداً لا يتناسب مع الموقف الذي أدى إليه، أو إذا رافقه نوع من اليأس من مغفرة الله، تحول إلى مرض نفسي يشل الإنسان، ويثبطه، ويصبغ حياته بالكآبة والحزن.
وهذا ما لا يريده الله لنا على الرغم من أنه أقسم بالنفس اللوامة تقديراً لها، لذا جعل الله التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفتح باب المغفرة والتوبة للعبد حتى يغرغر عند وفاته.
قال النبي محمد ﷺ: "قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ، يَا ابْنَ آَدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آَدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً" (حسن صحيح رواه الترمذي).
وقال ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ" (رواه مسلم).
أما رب العالمين فيقول: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
وكلنا يعلم أن من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع بلا خطايا، كيوم ولدته أمه، وأن من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه.
أبواب كثيرة مفتوحة للمؤمن كي يتطهر من ذنوبه، وتغمر أنوار الإيمان قلبه، تبث فيه السكينة، والطمأنينة.
10. لم يبق من النبوة إلا المبشرات
على الرغم من كل جوانب القوة في الكائن البشري، إلا أن جهله بالغيب يشكل واحداً من أهم عناصر ضعفه....
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188].
وجهل الإنسان بالغيب، وخشيته من أن يأتي المستقبل المغيب بما يسوءه، جعلاه يتعلق بأي شيء قد يكون فيه كشف لبعض حجب الغيب والمستقبل، من أجل أن يخفف قلقه ومخاوفه.
لذا عقد البشر الكثير من الآمال على الأحلام والمنامات. ذلك أن بعض الرؤى كان فيها بالتأكيد إشارة إلى أمور وقعت بعدها بزمان، طال أحياناً أو قصر. لكن الغالبية العظمى من أحلام البشر، التي لا تعد ولا تحصى، لا يتحقق منها شيء، ومع ذلك قد يرى أحدنا مناماً تقع فيه أحداث خطيرة لو صدقها الواقع لكانت مصائب عظمى. وقد تكون مثل هذه الأحلام المخيفة مصدر قلق نفسي شديد للإنسان، الذي يخشى أن تصدق هذه الأحلام، وأن يقع في الواقع ما رآه فيها.
وعلماء النفس الغربيون الذين يرفضون الإيمان بالغيب، يصرون على أن أحلام الإنسان كلها تخيلات، تحدث أثناء النوم، تعكس مخاوفه وأمانيه. فإنه قد يرى بعضاً مما يخاف حدوثه يقع في المنام، أو أنه يحصل في أحلامه على ما يشتهيه، ولكنه عاجز عن أن يحصل عليه في الواقع.
أما الصحابة -رضوان الله عليهم- فقد فهموا أن أحلام الإنسان ثلاثة أقسام:
الأول: ويمثل غالبية الأحلام، وهو عبارة عن حديث نفس كالتفكير، والتخيل المتواصل الذي يشغل فكر الإنسان عندما يكون خالياً عما يشغله، إلا أن حديث النفس هذا يقع أثناء النوم، فيختلط الأمر على الإنسان، ويحسب الخيال حقيقة واقعة. وهذا القسم هو الذي يتحدث عنه علماء النفس.
أما القسم الثاني: فتخويف من الشيطان، وهي الأحلام المخيفة المزعجة.
والقسم الثالث: الرؤى الصالحة التي تحمل البشارة من الله لهذا الإنسان بخير قادم إليه.
روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة قال: "...كانَ يُقالُ: الرُّؤْيا ثَلاثٌ: حَديثُ النَّفْسِ، وتَخْوِيفُ الشَّيْطانِ، وبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فمَن رَأَى شيئًا يَكْرَهُهُ فلا يَقُصَّهُ علَى أحَدٍ ولْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ". ولا بد أن الصحابة تعلموا هذا التصنيف للرؤى من معلمهم ﷺ.
إذاً فالأحلام المخوفة المحزنة، إنما هي من الشيطان، لا تدل على المستقبل، بعكس المبشرات، وهي الرؤى الواضحة السارة، فإنها تدل على المستقبل، وتبشر بالخير.
قال النبي محمد ﷺ: "الرُّؤْيا الحَسَنَةُ، مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" (البخاري).
وقال أيضاً: "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلَّا المُبَشِّراتُ قالوا: وما المُبَشِّراتُ؟ قالَ: الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ" (البخاري).
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ..." (البخاري).
وقال النبي محمد ﷺ: "إِذَا رَأى أَحدُكُم رُؤْيَا يُحبُّهَا فَإنَّما هِيَ مِنَ اللهِ، فَليَحْمَدِ اللهَ عَلَيهَا، وَلْيُحُدِّثْ بِها، وَإذا رَأَى غَيَر ذَلك مِمَّا يَكرَهُ فإنَّما هِيَ منَ الشَّيْطانِ، فَليَسْتَعِذْ منْ شَرِّهَا وَلا يَذكْرها لأَحَدٍ فَإنَّهَا لا تضُّره" (البخاري).
وقال ﷺ: "الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطانِ، فإذا حَلَمَ فَلْيَتَعَوَّذْ منه، ولْيَبْصُقْ عن شِمالِهِ، فإنَّها لا تَضُرُّهُ" (البخاري).
إن معرفة أن الأحلام المزعجة من الشيطان وأنها لا تضر، يريح النفس المؤمنة من أي قلق يمكن لهذه الأحلام أن تتسبب فيه.
والملاحظ أن القلق والاكتئاب النفسي يهيئان لمثل هذه الأحلام المزعجة، فالشخص القلق كثيراً ما يرى نفسه أو أحداً ممن يحب في خطر في أحلامه، أما المكتئب فإن موضوع الموت يتكرر في أحلامه، كأن يرى جنازة، أو عزيزاً يموت، أو أن يرى من مات من أهله يأتيه في أحلامه بشكل متكرر.
فالقلق والاكتئاب يمكنان الشيطان من إثارة مثل هذه الأحلام، التي لا دلالة لها على المستقبل أبداً.
11. أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك
إن القلق النفسي متعلق دائماً بالمستقبل، فالإنسان لا يقلق على ما فات، بل قد يحزن ويكتئب.... إنما قلقه يكون دائماً على ما سيأتي.
وكثيراً ما يعتزم الإنسان فعل أمر هام، ويكون أمامه الخيار أن يفعله أو أن لا يفعله، أو يكون أمامه الخيار أن يفعل أحد أمرين، أو واحداً من أمور كثيرة، في كل أمر منها إيجابيات وسلبيات، فإن فعل أحدها فاته ما في الآخر من خير، أو إن فعل أمرأً معيناً تحققت له المنفعة، وبالمقابل تعرض لخسارة شيء يحبه، عندها يحتار أي الأمرين يختار، فهو يخاف أن يختار لنفسه الشيء الذي لا خير فيه، وأن يفوت باختياره هذا على نفسه خيراً كثيراً، فيقع في صراع نفسي وحيرة، يسميه علماء النفس: صراع الإقدام والإحجام، أي: الإقدام على فعل معين أو الإحجام عنه، وهذا الصراع النفسي يولد في نفس الإنسان قلقاً نفسياً، يشتد كلما اشتد الصراع، وتعاظمت الحيرة.
وهذا القلق من النوع المزعج للنفس، يجعل الإنسان في هم دائم وفكر مستمر، ويحرمه النوم والاستقرار.
وحتى لا نقع في مثل هذا القلق النفسي، أو حتى نعالجه إن وقعنا فيه، علمنا رسولنا محمد ﷺ أن نستخير الله في أمورنا، أي: أن نسأله الخير فيها، وأن يختار لنا ما فيه خيرنا دنيا وآخرة، وتتم استخارة رب العالمين بأن نصلي ركعتين لله تعالى، وبعد الانتهاء منهما والتسليم ندعو بدعاء الاستخارة.
وليس جواب الاستخارة رؤيا أو مناماً، إنما هو هذا الإحساس القلبي الذي يأتي بعدها.
أما دعاء الاستخارة فهو: "اللَّهمَّ إنِّي أستخيرُك بعلمِك، وأستقدرُك بقدرتِك، وأسألُك من فضلِك العظيمِ، فإنَّك تقدرُ ولا أقدرُ، وتعلمُ ولا أعلمُ، وأنت علَّامُ الغيوبِ. اللَّهمَّ إن كنتَ تعلمُ هذا الأمرَ (وتُسمّيه باسمِه) خيرًا لي في ديني، ومعاشي، وعاقبةِ أمري، فاقْدِرْهُ ويسِّرْه لي، ثمَّ بارِكْ لي فيه، اللَّهمَّ وإن كنتَ تعلمُه شرًّا لي في ديني، ومعاشي، وعاقبةِ أمري، فاصرِفْني عنه، واصرِفْهُ عنّي، واقدِرْ لي الخيرَ حيث كان، ثمَّ رضِّني به" (رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي).
وقد شجعنا النبي محمد ﷺ على أن نكرر هذه الاستخارة سبع مرات، وقد لا يستغرق ذلك أكثر من نصف ساعة من الصلاة والدعاء، ثم ننظر إلى إحساسنا القلبي بخصوص ما كنا نهم أن نفعله، فإما أن نرتاح إلى همنا هذا، وينشرح صدرنا لفعله، فنعزم عليه، ونتوكل على الله، أو أن نفقد حماستنا له، وتقل رغبتنا فيه، أو حتى نشعر بالنفور من فعله.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال النبي محمد ﷺ: "يا أنسُ إذا هممتَ بأمرٍ فاستخِرْ رَبَّكَ فيهِ سبعَ مراتٍ ثم انظرْ إلى الذي يسبقُ إلى قلبِكَ فإنَّ الخيرَ فيهِ" (رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة الجزء الأول الصفحة 551).
ورغم ما قيل عن ضعف سند هذا الحديث فإن التجربة الشخصية لتكرار الاستخارة سبع مرات متتاليات أثبتت مقدار الراحة النفسية من القلق والحيرة بخصوص ما استخير الله له، ولم استخر الله لأمر سبع مرات وندمت على ما ألهمني الله فعله بعد الاستخارة، لذا أرى في الاستخارة سبع مرات علاجاً نفسياً للقلق الناتج عن الحيرة بخصوص أمر هام لا يماثله علاج.
إن هذا القلق النفسي المتولد عن صراع الإقدام، أو الإحجام عن فعل يبدو للإنسان في فعله فوائد ومضار، وفي تركه فوائد ومضار، ويعجز الإنسان عن ترجيح إحدى الكفتين، لأنه يجهل الغيب، كما هو حال البشر جميعاً.
هذا القلق المزعج، كثيراً ما يكون صعب العلاج بالطرق العلاجية المعروفة في الطب النفسي، فحرص الإنسان على الخير، وخوفه من اتخاذ قرار خاطئ، يتسبب في ضرره، أو حرمانه من الخير… هذا الحرص، وهذا الخوف، أمران طبيعيان تماماً، والجهل بالغيب شيء لا يستطيع المعالج النفسي أن يتغلب عليه، لذا كان من الخطأ أن يقوم المعالج بترجيح إحدى الكفتين، وبتوجيه الإنسان القلق إلى قرار معين، قد يتبين خطؤه فيما بعد، فيكون المعالج مستحقاً للّوم.
كما أن قيام المعالج بالاختيار نيابة عن المريض يتنافى مع هدف العلاج النفسي الأكبر، وهو مساعدة المريض على مزيد من النضج والاستقلالية وتحمل المسؤولية. لذا لم يكن هنالك خير من إحالة الإنسان القلق إلى علام الغيوب يستخيره، ويلتمس الهداية والتسديد لديه، فيستنير بنور الإيمان، حتى في أمور دنياه.
12. صريح الإيمان
لا يكتمل الحديث عن القلق النفسي دون الحديث على الوسواس القهري الذي يصيب حوالي اثنين بالمائة من البشر. في الوسواس القهري يسيطر على نفس الإنسان أفكار أو تخيلات أو أفعال هو غير مقتنع بها لكنه لا يستطيع الامتناع عنها إلا بمعاناة توتر مزعج يدفعه إلى القيام بها رغم أنه يراها سخيفة ويخجل أن يطلع الناس عليها.
قد يجد نفسه مثلا مضطراً إذا دخل من باب معين أن يخرج ثم يدخل ويكرر ذلك سبع مرات قبل أن يستطيع الاستمرار في ما كان يريد فعله، هو لا يرى أي معنى لدخوله ثم عودته ثم دخوله ثم عودته ثم دخوله من الباب سبع مرات، لكن يتوتر كثيراً إن لم يفعل ذلك وقد يظن أن مصيبة ستقع إن هو لم يفعل.
وقد تسيطر عليه شكوك أن نظافته أو طهارته ناقصة فيضطر أن يغسل يديه عشرات المرات قبل أن يلمس شيئاً يخصه أو يتناول طعامه، وقد يعيد وضوءه ثلاثين مرة قبل أن يطمئن إلى صحة صلاته بهذا الوضوء.
وقد تسيطر على ذهنه تخيلات بشعة تتناقض مع إيمانه وأخلاقه، كالذي يرى نفسه في خياله يمارس الفحشاء مع ابنته، أو يرى في خياله القرآن الكريم مرمياً في مكان قذر أو غير ذلك من صور ذهنية بشعة بالنسبة له لكن لا تفارق خياله.
وقد يحس رغبة قاهرة أن يتلفظ بتطليق زوجته وهو لا يريد ذلك أو أن يشتم الله في ذهنه أو بلسانه وهو رافض لذلك وكاره، لكن الامتناع يولد لديه توتراً نفسياً مزعجاً جداً ولا يرتاح إلا عندما يستجيب لهذه الرغبة القهرية الشاذة فيفعل ما تمليه عليه ثم تسيطر عليه مشاعر الذنب أو الظن أن زوجته قد طلقت.
وقد يشك أنه ارتكب فعلاً شنيعاً ونسي ذلك، كالذي يسأل زوجته كل حين "هل طلقتك؟" أو الذي يشك أنه ربما قتل إنساناً أو التي تشك أنها ربما ارتكبت فاحشة وهي الفتاة العفيفة... أو الذي تسيطر عليه شكوك في الخالق والإيمان تعذبه لأنه لا يريدها ويخشى على إيمانه منها لكنها لا تفارق ذهنه الساعات الطوال كل يوم.
صور عديدة للوسواس القهري، وما ذكرته ليس إلا أمثلة قليلة من مئات الصور الأخرى التي نراها لدى مرضى الوسواس القهري. ولهذا المرض أساس عضوي قوي والاستعداد له وراثي، وهو يشبه تكون غريزة مكتسبة لدى الإنسان لفعل شيء ليس من طبعه وتكوينه، ولكن يصبح غريزة ملحة لديه تشبه الغريزة الجنسية التي تلح على النفس كي تمارس الفعل الجنسي، ولكن الفارق أن الغريزة الجنسية طبيعية وفطرية والإنسان لا يراها سخيفة، وإن كان يدخل في صراع معها خشية الوقوع في الحرام. والأفعال القهرية التي لا يرتاح المريض إلا أن يفعلها تشبه الإدمان على شيء لا يريد الإنسان تناوله أو فعله لكن الرغبة لديه تكون ملحة ومزعجة إن هو لم يستجب لها. والأفعال القهرية السلوكية كالإدمان يمكن أن تشفى بالامتناع عنها والصبر حتى تمر مدة كافية دون الوقوع فيها وعندها تضعف الرغبة فيها وتنكسر، لكن الأفعال القهرية الذهنية لا يفيد فيها إلا الدواء الخاص بالوسواس القهري الذي يقوي في المخ فعالية مادة السيروتونين. ومن الناحية النفسية يفيد المريض كثيراً أن يعلم أن هذه الوساوس الذهنية مهما كانت بشعة فإنها لن تضره ولا تحتاج منه أن يفعل أي شيء ليبطل أثرها في إيمانه أو صحته أو حياته، لأن محاولة فعل شيء يعاكسها يزيد الحالة سوءاً حيث ينضاف إلى الأعراض أفعال قهرية سلوكية.
وعلى ما يبدو فإن الشيطان يستغل الضعف الذي يصيب دماغ المريض بالوسواس القهري ليوسوس له ما يخيفه على ما هو حريص عليه، فيوسوس للمتدين ما يقلقه حول عقيدته أو صلاته أو غير ذلك، ويوسوس للفتاة العفيفة ما يقلقها على عفتها، وللحريص على صحته ما يقلقه على صحته وهكذا.
وقد اشتكى بعض الصحابة للنبي ﷺ من أمور يجدونها في أنفسهم (أفكار وتخيلات) يتمنى أحدهم لو يرمى من السماء إلى الأرض ولا تأتيه من بشاعتها، وفهم النبي ﷺ أنها متعلقة بالإيمان فطمأنهم وقال لهم: "ذاك صريح الإيمان".
عن أبي هريرة قال: "جاءَ ناسٌ مِن أصْحابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلُوهُ: إنَّا نَجِدُ في أنْفُسِنا ما يَتَعاظَمُ أحَدُنا أنْ يَتَكَلَّمَ به، قالَ: وقدْ وجَدْتُمُوهُ؟ قالوا: نَعَمْ، قالَ: ذاكَ صَرِيحُ الإيمانِ." (رواه مسلم).
وفي رواية أخرى يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "جاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال: إنِّي أُحدِّثُ نَفْسي بالشَّيءِ؛ لَأنْ أَخِرَّ منَ السَّماءِ أحبُّ إليَّ من أنْ أتكلَّمَ به، فقال: ذاك مَحضُ الإيمانِ، أو قال: صريحُ الإيمانِ."
وحديثاً أجريت دراسات على الوساوس الدينية فوجد أنها تكثر في الشعوب المتدينة وتندر في الشعوب قليلة التدين، وفي ممارستنا للطب النفسي لا نرى الوساوس الدينية إلا عند المتدينين ووجودها عند مريض مؤشر على إيمانه وهي لا تضر الإيمان ولن يعاقب المؤمن عليها ولن تؤثر في صحة عقيدته وبخاصة أن الله قد تجاوز لنا عما نحدث به أنفسنا ولا يحاسبنا إلا على الأقوال والأفعال.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: "إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ عن أُمَّتي ما حَدَّثَتْ به أنْفُسَها، ما لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ..." (رواه البخاري).
لذا قال الفقهاء إن الرجل لو طلق زوجته في نفسه دون أن يتلفظ بذلك فإنه لا يقع، وهذا مفيد لمرضى الوسواس القهري لما يحسون به من مشاعر ذنب شديدة بسبب ما يمر في أذهانهم من أفكار وشكوك أو تخيلات تتناقض مع إيمانهم.
الوسواس القهري مرض يؤجر المؤمن على الصبر عليه وعلى الصبر على علاجه كما يؤجر على أي مرض آخر حتى لو كان من أعراضه ما يصل لحد الشتيمة للخالق أو التصورات المشابهة للشرك كالذي كلما وقف للصلاة سيطر عليه تصور أن الشخص أو الشيء الذي أمامه هو إلهه، وهو كاره لهذه التخيلات لكنه غير قادر على إيقافها.
لكن المبشر للمرضى أن الأدوية النفسية الحديثة فعالة جداً وهي أدوية لا تسبب الإدمان وآثارها الجانبية في الغالب لطيفة، لذلك لا مبرر لأي مريض بالوسواس القهري أن يحرم نفسه منها ويستمر في معاناته، بل عليه أن يراجع طبيباً نفسياً دون إبطاء لأننا مأمورون بالتداوي ولأن الوسواس القهري يضيع من وقت الإنسان وجهده الكثير فيما لا فائدة منه.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا