لم يبق من النبوة إلا المبشرات
لم يبق من النبوة إلا المبشرات
على الرغم من كل جوانب القوة في الكائن البشري، إلا أن جهله بالغيب يشكل واحداً من أهم عناصر ضعفه....
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188].
وجهل الإنسان بالغيب، وخشيته من أن يأتي المستقبل المغيب بما يسوءه، جعلاه يتعلق بأي شيء قد يكون فيه كشف لبعض حجب الغيب والمستقبل، من أجل أن يخفف قلقه ومخاوفه.
لذا عقد البشر الكثير من الآمال على الأحلام والمنامات. ذلك أن بعض الرؤى كان فيها بالتأكيد إشارة إلى أمور وقعت بعدها بزمان، طال أحياناً أو قصر. لكن الغالبية العظمى من أحلام البشر، التي لا تعد ولا تحصى، لا يتحقق منها شيء، ومع ذلك قد يرى أحدنا مناماً تقع فيه أحداث خطيرة لو صدقها الواقع لكانت مصائب عظمى. وقد تكون مثل هذه الأحلام المخيفة مصدر قلق نفسي شديد للإنسان، الذي يخشى أن تصدق هذه الأحلام، وأن يقع في الواقع ما رآه فيها.
وعلماء النفس الغربيون الذين يرفضون الإيمان بالغيب، يصرون على أن أحلام الإنسان كلها تخيلات، تحدث أثناء النوم، تعكس مخاوفه وأمانيه. فإنه قد يرى بعضاً مما يخاف حدوثه يقع في المنام، أو أنه يحصل في أحلامه على ما يشتهيه، ولكنه عاجز عن أن يحصل عليه في الواقع.
أما الصحابة -رضوان الله عليهم- فقد فهموا أن أحلام الإنسان ثلاثة أقسام:
الأول: ويمثل غالبية الأحلام، وهو عبارة عن حديث نفس كالتفكير، والتخيل المتواصل الذي يشغل فكر الإنسان عندما يكون خالياً عما يشغله، إلا أن حديث النفس هذا يقع أثناء النوم، فيختلط الأمر على الإنسان، ويحسب الخيال حقيقة واقعة. وهذا القسم هو الذي يتحدث عنه علماء النفس.
أما القسم الثاني: فتخويف من الشيطان، وهي الأحلام المخيفة المزعجة.
والقسم الثالث: الرؤى الصالحة التي تحمل البشارة من الله لهذا الإنسان بخير قادم إليه.
روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة قال: "...كانَ يُقالُ: الرُّؤْيا ثَلاثٌ: حَديثُ النَّفْسِ، وتَخْوِيفُ الشَّيْطانِ، وبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، فمَن رَأَى شيئًا يَكْرَهُهُ فلا يَقُصَّهُ علَى أحَدٍ ولْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ". ولا بد أن الصحابة تعلموا هذا التصنيف للرؤى من معلمهم ﷺ.
إذاً فالأحلام المخوفة المحزنة، إنما هي من الشيطان، لا تدل على المستقبل، بعكس المبشرات، وهي الرؤى الواضحة السارة، فإنها تدل على المستقبل، وتبشر بالخير.
قال النبي محمد ﷺ: "الرُّؤْيا الحَسَنَةُ، مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" (البخاري).
وقال أيضاً: "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلَّا المُبَشِّراتُ قالوا: وما المُبَشِّراتُ؟ قالَ: الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ" (البخاري).
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ..." (البخاري).
وقال النبي محمد ﷺ: "إِذَا رَأى أَحدُكُم رُؤْيَا يُحبُّهَا فَإنَّما هِيَ مِنَ اللهِ، فَليَحْمَدِ اللهَ عَلَيهَا، وَلْيُحُدِّثْ بِها، وَإذا رَأَى غَيَر ذَلك مِمَّا يَكرَهُ فإنَّما هِيَ منَ الشَّيْطانِ، فَليَسْتَعِذْ منْ شَرِّهَا وَلا يَذكْرها لأَحَدٍ فَإنَّهَا لا تضُّره" (البخاري).
وقال ﷺ: "الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطانِ، فإذا حَلَمَ فَلْيَتَعَوَّذْ منه، ولْيَبْصُقْ عن شِمالِهِ، فإنَّها لا تَضُرُّهُ" (البخاري).
إن معرفة أن الأحلام المزعجة من الشيطان وأنها لا تضر، يريح النفس المؤمنة من أي قلق يمكن لهذه الأحلام أن تتسبب فيه.
والملاحظ أن القلق والاكتئاب النفسي يهيئان لمثل هذه الأحلام المزعجة، فالشخص القلق كثيراً ما يرى نفسه أو أحداً ممن يحب في خطر في أحلامه، أما المكتئب فإن موضوع الموت يتكرر في أحلامه، كأن يرى جنازة، أو عزيزاً يموت، أو أن يرى من مات من أهله يأتيه في أحلامه بشكل متكرر.
فالقلق والاكتئاب يمكنان الشيطان من إثارة مثل هذه الأحلام، التي لا دلالة لها على المستقبل أبداً.