وبشر الصابرين
وبشر الصابرين
إن من أحدث العلاجات النفسية للاكتئاب علاجاً يدعى "العلاج السلوكي المعرفي"، وهو علاج يهدف إلى تغيير الطريقة التي يفكر بها المكتئب، وتغيير النظرة التي ينظر بها إلى الأمور التي سببت له الاكتئاب، وجعلت الدنيا تسود في عينيه.
والإيمان يزود المؤمن بنظرة إلى مصائب الحياة وإلى الحرمان فيها، تهون عليه تلك المصائب، وذلك الحرمان، بحيث يكون أقل الناس تعرضاً للاكتئاب، بفعل المصائب أو الحرمان.
وإذا ما أصابه الاكتئاب، ثم ذكر ما نسي من حقائق إيمانية، كان شفاؤه أسرع وأكمل.
ومن هذه الحقائق، حقيقة أن المصائب تكفر الذنوب عن المؤمن الصابر، وحتى ما يقع على المؤمن من عقوبة من قبل الحاكم جزاء على معصية ارتكبها، فإن له في تلك العقوبة كفارة وطهوراً .
"...وكانَ النَّبيُّ ﷺ إذَا دَخَلَ علَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: لا بَأْسَ، طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ..." (رواه البخاري).
قال النبي محمد ﷺ وهو يبايع أصحابه على الامتناع عن المعاصي: "...ومَن أصَابَ مِن ذلكَ شيئًا فَأُخِذَ به في الدُّنْيَا فَهو كَفَّارَةٌ له وطَهُورٌ، ومَن سَتَرَهُ اللَّهُ فَذلكَ إلى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وإنْ شَاءَ غَفَرَ له." (رواه البخاري).
أي من ارتكب شيئاً من الحرام فعوقب عليه في الدنيا بالحد يقام عليه أو تعزير أمر به القاضي فإن ذلك كفارة لذنبه ولن يعاقبه الله عليه مرة ثانية في الآخرة، أما إن ستره الله فنجا من العقوبة القضائية فأمره إلى الله إن شاء عذبه يوم القيامة وإن شاء غفر له، هذا إن مات قبل أن يتوب، أما إن تاب واستغفر فإن الله يتوب عليه ويغفر له ويكون كمن لا ذنب له كما قال ﷺ.
وحتى المعاناة النفسية من قلق واكتئاب وغيرهما، فإن فيها كفارة للمؤمن. قال النبي محمد ﷺ: "ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ." (متفق عليه).
ومن جهة أخرى، فإن الله وعد الصابرين على قضائه وقدره الأجر العظيم في الآخرة، والتعويض عما أخذ منهم في الدنيا. قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ (155) ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌۭ قَالُوٓا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ (156) أُو۟لَـٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌۭ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌۭ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ (157)﴾ [البقرة: 155-157].
وقال النبي محمد ﷺ: "...ما مِن عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ: {إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لي خَيْرًا منها، إلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ في مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ له خَيْرًا منها..." (رواه مسلم).
وقد حفظت الصحابية أم سلمة ما يقوله المؤمن إذا أصابته مصيبة، وما لبثت حتى مرض زوجها، ومات، وكان لها خير ما يكون زوج لزوجته، فلما مات قالت: "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها.... ". ثم تساءلت: "ومن أين لي بخير من أبي سلمة؟ فما انقضت عدتها حتى أتاها النبي محمد ﷺ خاطباً، وتزوجها، وبذلك أخلف الله لها خيراً مما فقدت، وعوضتها عن أبي سلمة زوجاً خيراً منه.
والصبر الحقيقي يبدأ منذ أن يتلقى الإنسان خبر المصيبة، لا أن يتلقاها بالجزع، والنياحة، والتشكي من قضاء الله وقدره، حتى إذا مضت الأيام، ويئس مما فاته، وسلته نفسه، قال: "أصبر وأحتسب".
فالصبر كما قال النبي محمد ﷺ يكون عند الصدمة الأولى.، لذا كان على المؤمن أن يحفظ تلك العبارة الرائعة التي عليه أن يقولها عندما تقع عليه مصيبة، أو عندما يتذكر مصيبة وقعت عليه.... "إنا لله، وإنا إليه راجعون.... اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها". وهذه العبارة الرائعة تساعد المؤمن على هضم مصيبته والتصبر عليها وفائدتها لا تقتصر على وقت المصيبة بل تكرارها كلما ذكر الإنسان مصيبته ولو بعد زمن طويل من وقوعها يريح نفسه ويصبره ويواسيه لذا أنصح كل من أصابته مصيبة أن يكررها كلما تذكر مصيبته وأن لا يمل من ترديدها فهي شفاء للنفس من آثار المصيبة والشعور بالخسارة الفادحة.. وهي ذكر ودعاء يؤجر عليه المؤمن ويجلب له التعويض من الله عما أخذ منه.
والصبر في الإسلام لا يعني الامتناع عن محاولة تغيير ما نزل بالإنسان من مصيبة، ولا يعني التلذذ بالمصائب، وإنما على المؤمن أن يبذل كل جهده في محاولة تغيير ما يقع عليه من مصائب، ولكن بنفس راضية عن الله تعالى، فلا يتذمر، ولا يتشكى، ولا يقول: "ماذا فعلت لله حتى يفعل بي هذا".
وكذلك دون أن يتذمر من الجهد والعناء اللذين عليه أن يبذلهما وهو يسعى إلى تغيير ما يمكنه تغييره من المصيبة، ودون أن يلجأ إلى ما حرم الله، من أجل أن يغير المصيبة، أو الحرمان، اللذين قدرهما الله عليه.
فالفقير الصابر، يسعى إلى الربح وزيادة الدخل، لكن دون أن يسرق، أو أن يغش، والمريض يتداوى، ولكن لا يتداوى بحرام كالخمر مثلاً، وإن كانت الخمر في رأي علماء الدواء والعلاج المعاصرين ليست بدواء على الإطلاق.
الصبر في حقيقته، رضاً عن الله، ورضاً بالموقع الجديد الذي يضعنا الله فيه نتيجة المصيبة التي قدرها علينا، فالتي يموت زوجها، ويترك لها أيتاماً تربيهم، وتصبح بذلك أرملة مسؤولة عن صغارها، ترضى بهذا الدور الجديد في الحياة، وتبذل جهدها في أدائه على أكمل وجه.
والذي يفقد بصره نهائياً، ويصبح أعمى، يرضى بهذا الدور الجديد في الحياة، ويبذل ما يستطيع لتبقى حياته منتجة في مجالي الدنيا والآخرة، وهكذا.....
إن الصبر هو جوهر التكيف النفسي مع واقع الحياة.، الذي يراه علماء النفس دلالة على النضج، والصحة النفسية، والسبيل إليهما.
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا