حياء لا خشية
حياء لا خشية
لئن كان الخجل وخشية الناس أمراً غير محبب للنفس، فإن الحياء على العكس له مكانة عظيمة في الإسلام، وقد حثنا النبي محمد ﷺ عليه كثيراً عندما قال: "إنَّ لِكُلِّ دينٍ خُلُقًا، وإنَّ خُلُقَ الإسلامِ الحياءُ" (رواه ابن ماجه). وقال أيضاً: "الحَياءُ لا يَأْتي إلَّا بخَيْرٍ..." (متفق عليه)، كما قال: "الْحَياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ..." (رواه مسلم).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما "أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ علَى رَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ، وهو يَعِظُ أخَاهُ في الحَيَاءِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: دَعْهُ فإنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإيمَانِ." (متفق عليه).
وقال أيضاً: "الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ." (متفق عليه).
وقد كان الحياء خلق رسول الله ﷺ، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "كانَ النبيُّ ﷺ أشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ في خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شيئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ في وجْهِهِ." (متفق عليه).
وقد وصف النبي محمد ﷺ رب العالمين بالحياء حين قال: "إنَّ ربَّكم حييٌّ كريمٌ يستحيي من عبدِه أن يرفعَ إليه يدَيْه فيرُدَّهما صِفرًا أو قال خائبتَيْن." (رواه ابن ماجه). وروى البخاري في صحيحه عن أبي واقد الليثي: "أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ بيْنَما هو جَالِسٌ في المَسْجِدِ والنَّاسُ معهُ إذْ أقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فأقْبَلَ اثْنَانِ إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ وذَهَبَ واحِدٌ، قالَ: فَوَقَفَا علَى رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فأمَّا أحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً في الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وأَمَّا الآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وأَمَّا الثَّالِثُ: فأدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ قالَ: ألَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أمَّا أحَدُهُمْ فأوَى إلى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ منه، وأَمَّا الآخَرُ فأعْرَضَ فأعْرَضَ اللَّهُ عنْه."
وعلى عكس الخجل الذي ينتج عن حقر النفس، والحط من قدرها، وعدم الإحساس بكرامتها وقيمتها، فإن الحياء ينتج عن قدر النفس قدراً عالياً، وعن الإحساس بالكرامة الذاتية، والقيمة الشخصية، إحساساً طبيعياً، لم تحطمه تربية خاطئة، أو تجارب مريرة، في الطفولة أو الكبر.... إن الحيي إنسان مفهومه لنفسه إيجابي، وقدره عند نفسه كبير، وكرامته في نظره عظيمة، يحس بها، ويحرص عليها، ويتجنب كل ما يسيء إليها.
الخجل يقيد الإنسان عن فعل أشياء كثيرة في حضرة الآخرين، لكن الحياء يقيد الإنسان ويمنعه عن فعل ما يحط ويقلل من قدره، وكرامته، ويتنافى مع مفهومه لنفسه، حتى لو كان وحده، لأن المهم كيف يرى هو نفسه، وليس كيف يراها الناس... إنه يحترم نفسه ويقدرها، وبالتالي لا يسمح لنفسه أن يفعل ما لا يليق بها في نظره هو بغض النظر عن رأي الناس، إنه مستقل في حكمه على الأمور، وليس تابعاً للناس يفعل ما يرضون عنه، ويجتنب ما لا يرضون عنه.
والإنسان الفطري السوي إنسان حيي، لأنه خلق خليفة لله في أرضه، وفيه الميل إلى تمثل صفات الخالق في نفسه في حدود ضعفه البشري وإن كان الله حرم عليه الكبرياء والعظمة.. وبالتالي فإن كل ما يخالف هذه الصفات يكون فيه حط من كرامة الإنسان، إذ هو يفعل ما لا يليق به كخليفة لله، كرمه الله، وخلقه على صورته.
لذا فالحياء يمنع الإنسان من الكذب، ويمنعه من الظلم، ويمنعه من السرقة، والخيانة، كما يمنعه من البخل والشح، ويمنعه من الحسد واشتهاء ما عند الآخرين.
إن الحياء هو الحاسة القلبية التي تقف رقيباً على الإنسان السوي، لتمنعه من المعاصي، ومن كل ما يخالف مكارم الأخلاق التي بعث النبي محمد ﷺ ليتمها.
وحتى حياء العذراء في خدرها، الذي شبه به الصحابي حياء رسول الله ﷺ، فإنه نتيجة حرص هذه العذراء حرصاً فطرياً على كرامتها وقدرها... لأن من كرامة المرأة وقدرها، أن تُطْلَب ولا تَطْلبُ، وحتى تصريحها بقبول خاطب لها قد يبدو لها أقرب إلى الطلب والحرص، فتستحي من أن تقف هذا الموقف، فلا تصرح، ويكون إذنها صمتها.
ومما يتنافى مع كرامة المرأة، أن يُنظر إليها كجسد يسيل له اللُّعاب، ويغض الطرف عن الإنسان الذي فيها، لذا كان ميل المرأة إلى ستر جسدها ميلاً فطرياً سوياً.
لذا كان من أهم ما يميز بائعات الهوى من الناحية النفسية، أنَّ قدرهن عند أنفسهن قليل ومتدنٍ، لذا تطاوعهن أنفسهن على وضع أنفسهن في مواقف لا تليق بالإنسان الكريم.
ثم إن الإنسان بفطرته، يستحيي من أن يطلع الآخرون على عوراته الجسدية أو الخلقية، لأنه لا يحب أن يرى الناس منه إلا كل حسن جميل، ولحكمة عظيمة كانت عورات البشر قليلة الجمال، وقد سماها رب العالمين سوءات.. ﴿فَدَفَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٍۢ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّۭ مُّبِينٌۭ﴾ [الأعراف: 22]. ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ﴾ [طه: 121].
إن الحياء يمنع الإنسان من إيذاء الآخرين، وهو الذي يجعل الإنسان يتصرف كإنسان، سواء خاف من عقوبة، أو لم يخف، لذا كان الذي لا يستحي مخيفاً، لأنه قد لا يتورع عن شيء، فهو قد تناسى كرامته وكرامة غيره، فلم يبق لديه ما يخاف عليه: "إنَّ ممَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ، إذا لَمْ تَسْتَحْيِ فافْعَلْ ما شِئْتَ." (رواه البخاري).
وروى البخاري أيضاً عن النبي محمد ﷺ أنه قال: "اللهُ أحقُّ أن يُستَحيا منه من الناسِ."
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا