حقيقة الكبر
حقيقة الكبر
قال تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًۭا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓا۟ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌۭ﴾ [الحجرات: 13].
الناس سواسية في القدر والكرامة، إلا من رفعته تقواه عند الله، والتقي لا يسمح لنفسه بالتعالي على أحد، لأنه لو أعجب بتقواه وتعالى بها على الآخرين، لخرج من زمرة المتقين.
قال تعالى عن المؤمنين المتقين: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَـٰتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا۟ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَٰجِعُونَ (60) أُو۟لَـٰٓئِكَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَـٰبِقُونَ (61)﴾ [المؤمنون: 57-61].
وقد سألت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله ﷺ فقالت: "...يا رسولَ اللهِ، {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] أهُو الَّذي يَزْني ويَشرَبُ الخَمْرَ ويَسرِقُ؟ قال: لا يا ابْنةَ الصِّدِّيقِ، ولكنَّه الرَّجلُ يَصومُ ويُصلِّي ويتَصدَّقُ، ويَخافُ أن لا يُقبَلَ منه" (رواه أحمد).
وفي رواية أخرى أنه قال أن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: "سألتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ عن هذِهِ الآيةِ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قالت عائشةُ : أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ قالَ لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ" (رواه الترمذي).
صحيح أن الأتقى هو الأكرم عند الله، لكن التقوى والعجب والتكبر لا تجتمع في قلب واحد، فهي متناقضات كالليل والنهار، لا يتسع مكان لهما مجتمعين.
وإذا اقتضت التقوى نقاء القلب من العجب والتكبر، فما الذي يبرر للإنسان أن يتعالى على أخيه الإنسان، والله قد ألغى كل مقياس آخر لتكريم بشر على بشر إلا التقوى؟.
والعُجْب كما يعرفه الإمام الغزالي -رحمه الله- هو: "استعظام النفس وخصالها التي هي من النعم، والركون إليها (إلى هذه النفس وإلى خصالها) مع نسيان إضافتها إلى المنعم والأمن من زوالها".
والكبر: هو أن يرى الإنسان نفسه فوق غيره في صفات الكمال، فيحصل فيه نفخة وهزة من اعتقاده بهذه الفوقية. والعجب سبب الكبر، ولكن الكبر يستدعي متكبراً عليه، والعجب مقصور على الانفراد.
رحم الله الغزالي، فقد وضح العجب والكبر توضيحاً رائعاً، والعجب بالمصطلح النفسي الحديث هو "النرجسية"، حيث يشتمل مفهوم الذات عند الإنسان النرجسي على اعتقاد راسخ بتفوقه على الآخرين في صفات هامة كالذكاء والجمال، وغير ذلك.
والنرجسي يُدِلُّ على الناس، فيرى له عليهم حقاً ومكانة، ويستغرب إن هم لم يقدموا له ما يوجبه عليهم هذا الحق وهذه المكانة.
وعلماء النفس يرون أن للتربية في الصغر دوراً خطيراً في تضخيم نرجسية الإنسان، وإعجابه بنفسه، وذلك عندما يكثر الوالدان من مديح طفلهما، والادعاء أنه ذكي أو جميل، أو غير ذلك بما لا يتناسب مع ما فيه من ذكاء أو جمال.... ويكثران من تدليله بناء على تفوقه المزعوم.
لكن هنالك نرجسية وكبر يقع فيه الإنسان باختياره لما يجد في الشعور به من متعة، فيقنع نفسه أنه الأفضل، ويرى نفسه أنه الأكرم، ويحتقر الآخرين، ولا يعجزه أن يجد مبرراً لعجبه بنفسه، وتعاليه على الآخرين، حتى إن البعض قد يتعالى على غيره دون مبرر مقنع.. لذا كان "الفقير المتعال" من الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة كما قال النبي محمد ﷺ.
إن الكبر والتعالي موقف نفسي إرادي، يقفه الإنسان من الآخرين لأنه يشبع لديه شهوة نفسية، ويحقق له أغراضاً نفسية تقلل قلقه، وتوحي إليه أنه بخير طالما أنه يتمتع بالبشرة البيضاء لا السوداء، أو أنه ينتمي إلى قوم معينين، أو أنه غني، أو قوي، أو جميل..... بل قد يتكبر الرجل على المرأة، والراشد على الطفل.
والعجب والكبر يكمنان وراء كل أشكال التمييز العنصري.
وقد بذلت الحكومة الأمريكية بمعونة علماء النفس، الكثير من أجل تخفيف تعالي البيض على السود، لكن جدوى ذلك كانت ضئيلة، إذ ليس تعالي الأبيض على الأسود، أو تعالي الرجل على المرأة نتيجة معلومات خاطئة لدى المتعالي عن المتعالي عليه، إنما هو رذيلة، وموقف إرادي يقفه إنسان ناقص الأخلاق.. لذا قال النبي محمد ﷺ: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ، قالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنَةً، قالَ: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ" (رواه مسلم).
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا