النية والدافع النفسي
النية والدافع النفسي
لا يمكن فهم سلوك إنسان ما فهماً صحيحاً، ما لم نتعرف على الدافع النفسي الذي دعاه إلى فعل ما، أو نهاه عن فعل آخر.
والإمام الغزالي رحمه الله يسمّي الدافع النفسي (الباعث)، وابن الجوزي رحمه الله يسميه (الداعي). وكلا المصطلحين يؤكدان على حرية الإنسان أكثر من مصطلح الدافع الذي صاغه العلماء الغربيون.
أما النبي ﷺ فقد أكّد على أهمية النية، وهي وليدة الدافع النفسي، والجزء الذي يكون في الشعور منه، ويستطيع الإنسان بسهولة أن يتفحّصها، وبالتالي أن يعدّل فيها بما يضمن له قبول أعماله عند المولى سبحانه وتعالى.
قال ﷺ: "إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها، أوْ إلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُها، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ" (متفق عليه).
إنّ المسلم المعاصر يواجه مشكلة في الدافعية، حيث تتصارع في نفسه أنواع الدوافع الداعية والناهية، وذلك بما يخصّ إقباله على الحياة بما فيها من سعي وعمل، هدفه القريب جمع المال، أو إمتاع النّفس.
فالتقيّ يقبل على جمع المال، أو التمتع المباح وهو متردد يحسّ بالذنب، ويرى نفسه مضطرا إلى شر لا بدّ منه، ويبقى ميدان السعي هذا ينطلق فيه الغافلون، الذين صنّفوا أنفسهم أنهم من أهل الدنيا، فيندفعون في سعيهم وراء المال والمتعة، وهم كالتقي يرونها معصية، لكنهم قرروا اختيار طريقها، لا يهمّهم ما يكون جزاؤهم إن صحّ أنّ ما يفعلونه معصية.
لكن الإسلام دين الفطرة، وحب الخير-والمال أهمّ أشكال الخير- من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والإنسان مستخلف في الأرض، وعمارة الأرض جزء هام من هذا الاستخلاف، وكيف يبلغ الاستخلاف مداه إن كان المؤمن مترددا في إقباله على كسب المال، ولم يركّز أقصى طاقاته وإمكاناته في سبيل ذلك؟
لقد أثنى الله كثيرا على سليمان عليه السلام مع أنّه دعا الله، وطلب منه ملكا لا ينبغي لأحد غيره من البشر، ولنقرأ ما قصّه الله علينا في كتابه الكريم عن حبّ سليمان عليه السلام للمال، بل عن حبّه لحبّ المال: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيْمَـٰنَ ۚ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ ۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِىِّ ٱلصَّـٰفِنَـٰتُ ٱلْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّىٓ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَىَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـٰنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِۦ جَسَدًۭا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًۭا لَّا يَنۢبَغِى لِأَحَدٍۢ مِّنۢ بَعْدِىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِۦ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَٱلشَّيَـٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍۢ وَغَوَّاصٍۢ (37) وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ٱلْأَصْفَادِ (38) هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍۢ (39) وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـَٔابٍۢ (40)﴾ (ص: 30-40).
إذاً لقد أحبّ سليمان عليه السلام من المؤمن أن يحبّ الخير، وما يشمله من المال الحلال، وكان حبّه عليه السلام لذلك نابعا وصادرا عن ذكر الله لا عن غفلة ونسيان.
وها هو بعد أن اختبره الله، ثمّ أناب، يطلب من ربّه المغفرة والملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده... وبعد أن يعطيه الله ما سأل، يخبرنا أنّ لسليمان عليه السلام عنده (لزلفى وحسن مآب).
ليس المال والمتاع بحد ذاته شيئا مذموماً يتنافى مع الإيمان والتقوى، إنمّا الأعمال بالنيات، والدافع النفسي وراء امتلاك المال والمتاع هو الذي يجعله دنيا على المؤمن اجتنابها، أو يجعله (خيراً) يسعى إليه المؤمن دون شعور بالذنب.
والمؤمن التقي إذا ما تجنّب أن يكون دافعه إلى المال والمتاع إرادة العلوّ في الأرض أو الفساد فيها، فإنّ الجنة ستكون مأواه، ذلك أنّه عندما يتجنب إرادة العلوّ في الأرض، أو إرادة الفساد من خلال ما يعمله في حياته، فإنه يكون قد طهّر نفسه من الدافعين المحرمين؛ اللذين يجعلان المال والمتاع حتى لو جاءا من حلال دنيا مرذولة محرّمة.
قال تعالى بعد أن قصّ علينا كيف خسف بقارون وبداره الأرض، منبها لنا إلى أنّه لم يكن ذنب قارون أن كان غنيا، بل أنّه كان متعاليا في الأرض ومفسدا فيها، قال: ﴿إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَءَاتَيْنَـٰهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلْعُصْبَةِ أُو۟لِى ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُۥ قَوْمُهُۥ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ (76) وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْـَٔاخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلْأَرْضِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِۦ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةًۭ وَأَكْثَرُ جَمْعًۭا ۚ وَلَا يُسْـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ فِى زِينَتِهِۦ ۖ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا يَـٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَـٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ (79) وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌۭ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّـٰبِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٍۢ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْا۟ مَكَانَهُۥ بِٱلْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ (82) تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلْـَٔاخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّۭا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًۭا ۚ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾ [القصص: 76-83].
تعليقات
لا توجد تعليقات بعد
تعليقك هنا